كشفت مختلف المداخلات والمشاركات في ندوة “عبء الديمقراطية الثقيل: أين الخلاص”، في إطار ندوات جامعة المعتمد بن عباد في دورتها الـ34 ضمن فعاليات موسم أصيلة الثقافي الـ41، مدى ما يحمله مصطلح تندلع باسمه حروب وصراعات وتوظفه القوى الدولية في استراتيجياتها التوسعية، من معان وصور تختلف باختلاف المناخات الثقافية والسياسية
أصيلة (المغرب) – ساد جلسات الندوة التي تحمل عنوان “عبء الديمقراطية الثقيل: أين الخلاص” في أصيلة، توجّس من أن تكون تلك الديمقراطية في خطر. من المتحدثين من نادى بسرعة ما لـ”إنقاذ” الديمقراطية. إنقاذها من ماذا؟ ما الذي يتهددها؟ هل كان فرانسيس فوكوياما على خطأ قبل عقود حين بشّر بانتصار الليبرالية ونهاية التاريخ. يعترف فوكوياما هذه الأيام أنه أخطأ. ويعترف سياسيون سابقون من أوروبا وأفريقيا في أصيلة أن الديمقراطية في خطر، لكنهم لا يوصون بغيرها.
من السلفادور تقدمت وزيرة سابقة ترى أن العلّة القديمة الجديدة تكمن في محدودية مشاركة المرأة في الحكم والسلطة. تشرّح بالأرقام ما يشبه فضيحة تكشف تراجع مستوى حضور المرأة في الحكومات والبرلمانات. والعلّة التي يشتد عيبها في بلدان العالم الثالث، ما زالت تنخر داخل جسد البنيان السلطوي لدى الدول الغربية المتقدمة.
وزير بلجيكي سابق يجمع ما بين السياسة واختصاصه في القانون الدستوري يسعى إلى طمأنة الجميع أن الديمقراطية ما زالت ديدن الكون حتى لو أنها تهدّد ديمومة الاتحاد الأوروبي واستقراره. لا تخيفه التيارات الشعبوية الصاعدة داخل البرلمانات والمتسرّبة داخل حكومات أوروبا هنا وهناك. ما زال يرى أن تمثيلها يكشف زيفها، وأنها لا تملك إلا الجعجعة ولن تتمكن من تهديد القيم التي يقوم عليها المشروع الأوروبي.
لا أحد في أصيلة مقتنع بأن الديمقراطية باتت لحنا عتيقا ناشزا. تسرّع بعض الأصوات بأن إدارة الشعوب والأمم هي شأن أخلاقي أيضا، وأن أمر النجاح لا يحسب بالأرقام والنسب فقط. والديمقراطية في هذا السياق هي حق إنساني وهي حاجة بشرية
يقول الرجل إن الأمر لا يتعلق بالديمقراطية بل بالسياسات الاجتماعية. حلّ الإشكالية يكمن في حلّ مشاكل الناس من بطالة وفقر وخوف من الهجرة. فإذا ما حُلّت تلك العلل انتعشت فكرة الديمقراطية وسقط خطاب العنصرية والتشدد والتطرّف. لا يقلق الرجل من تفكك الاتحاد الأوروبي، ذلك أن “الدول الأعضاء لا تملك أي نفوذ في العالم إلا من خلال الاتحاد”.
أحد الباحثين أشار إلى أن الديمقراطية التي تشهد هذه الأيام تصدّعا يهدّد كينونتها، هي في الأصل والتعريف عملية غير مكتملة. هي في مد وجزر تبحث عن كمالها من خلال حركية تكاد تكون بيولوجية لتجديد خلاياها واستعادة رشاقتها. وعليه فإن الديمقراطية باقية لأنها “حاجة طبيعة” للبشر.
الويستفوبيا
من ضجيج الجدل الذي دار في أصيلة خرج مفهوم الويستفوبيا، أو الخوف من الغرب، كنقيض موضوعي لرواج الإسلاموفوبيا. كل واحد ينظر إلى الآخر بتوجّس وريبة، لكن الأدهى أن كل طرف يقيس الآخر وفق معاييره وأحكامه. هكذا “يستشرق” الغرب منطقتنا بمسطرته وقواعده وقيمه، فيما يطلّ الإسلاميون على الغرب ويخضعونه لأحكام هي من صلب معايير ذلك الشرق وقواعد الدين واجتهاداته.
بيد أن في ثنايا النقاش أن الديمقراطية راجت وتوسّعت وتوقّفت عند حدود الشرق الأوسط. شيء ما ما زال يحول دون أن تكون الديمقراطية ديدن العالم العربي. وحتى حين بشّر بها مبشرو “الربيع العربي”، تحولت عندنا إلى كارثة انتقلت مآسيها من بلد إلى آخر. حتى أن الديمقراطية لم تعد رائجة في قواميس من ينشدون خلاص المنطقة ويتوسّلون سبل الخروج من أزماتها.
يتناول المتحدثون باهتمام ظواهر “السترات الصفراء” في فرنسا وصعود اليمين القومي في إيطاليا وفرنسا وألمانيا والنمسا والمجر ودول أخرى. يذهب أحد المتحدثين إلى ما تكلّم عنه الزعيم المجري فيكتور أوربان الذي يمثل واجهة حكم اليمين المتطرف داخل بلد من بلدان الاتحاد الأوروبي.
تحدث أوربان عن “الديمقراطية غير الليبرالية” كفتوى من فتاوى التخلص من الديمقراطية الغربية التي راجت بعد أن أنهى فوكوياما التاريخ بعد اندثار الاتحاد السوفييتي. ينبّه أحد المتحدثين إلى أن ديمقراطية أوربان المبتورة هي تماما تلك الديمقراطية التي ينتهجها الزعيم الروسي فلاديمير بوتين ونظيره التركي رجب طيب أردوغان.
يلفت أحد الباحثين الأفارقة إلى أن الديمقراطية لم تكن يوما في أفريقيا نتاج تطور طبيعي طوعي داخل بلدان القارة السوداء. قال إن العالم الغربي أقحم الديمقراطية بالقوة والإكراه والابتزاز. كثيرا ما ربط الغرب مساعداته للأفارقة بالقدر الذي يدخلون به جرعات ديمقراطية داخل أنظمتهم السياسية.
أتت الديمقراطية هناك مصطنعة شكلية هدفها إقناع ذلك الغرب بحضور مؤسسات وممارسات ديمقراطية دون أن تكون الديمقراطية حاضرة في الوجدان الحقيقي للمجتمعات والنخب الحاكمة. بدا أن أفريقيا تستهلك ديمقراطية “الرجل الأبيض” كما تستهلك منتجاته وكما تمتص المساعدات التي يضخها في شرايين الدول المعنية.
الدولة العميقة
من الأسئلة جدل يتعلّق حول مفهوم “الدولة العميقة”. ولئن تحضر تلك الدولة بوقاحة وفجاجة لدى أنظمة الاستبداد، بدا في السنوات الأخيرة أنها في صلب النظم الديمقراطية الكبرى. قيل إن الدولة العميقة في الولايات المتحدة هي التي أنتجت دونالد ترامب مخلوقا يترجّل من خارج سياق المؤسسات التقليدية الكبرى من أجل حكم البلاد وفق توجهات معيّنة تدفع بها هذه الدولة العميقة. قيل أيضا إن الدولة العميقة في فرنسا هي التي يسّرت سبل الصعود لإيمانويل ماكرون لكي يطيح على نحو عجائبي بأحزاب اليمين واليسار الكبرى ويقتحم قصر الإليزيه متجاوزا تقاليد فرنسا العتيقة للحكم وأحواله.
قد يكون أمر الدولة العميقة داخل البلدان الديمقراطية الكبرى هو خيال يخضع لنظريات المؤامرة العتيقة. لكن الأمر يستحق الدراسة والبحث، لعل في ذلك ما يمكن أن يفصح عن قوانين العالم وقواعده وعن مدى خضوعه لمزاج صناديق الاقتراع والمفاجآت التي تخرج منها. على أن نقد الديمقراطية أباح الذهاب بعيدا في الإعجاب بنقيضها.
ردد المتحدثون كثيرا خلاصة أن الديمقراطية لم تعد شرطا للنمو والأمن والرخاء والازدهار. استعاد الكثيرون تجربة سنغافورة بصفتها نموذجا يدرس في علم التطور والتنمية والبحبوحة واحتلال الصدارة. وأعاد آخرون نظم قصائد المديح بالصين وما تحققه في العالم وهي الرائدة في الفخر بكونها منظومة حكم الحزب الواحد. ولفت أحد المتحدثين الأفارقة إلى أن إثيوبيا ورواندا تمثلان أبرز واجهات النمو الاقتصادي الحالي في أفريقيا على الرغم من أن نظامي البلدين ليسا من نماذج الديمقراطية القصوى وأعراضها.
على هذا يتسرّب من خلال بعض المداخلات قبول بما كان عيبا القبول به قبل ذلك. كانت دول الاستبداد تعي علّتها وتخجل من عارها وتزعم بذل جهود لمعالجة آفتها. بدا أن الحديث في أصيلة راح يشرّع نظرية أن على كل شعب أن يختار النظام السياسي الذي يناسبه. هو كلام حق قد يراد به باطل. ينطوي هذا الخطاب على إعادة تعويم الاستبداد بصفته خيارا وليس قهرا. هكذا تتمّ المجاهرة بالصين وسنغافورة نماذج نجاح على نحو يجعل من النظامين قاعدة حتمية من قواعد التنمية والتطور.
لا أحد في أصيلة مقتنع بأن الديمقراطية باتت لحنا عتيقا ناشزا. تسرّع بعض الأصوات بأن إدارة الشعوب والأمم هي شأن أخلاقي أيضا، وأن أمر النجاح لا يحسب بالأرقام والنسب فقط. والديمقراطية في هذا السياق هي حقّ إنساني وهي حاجة بشرية تكاد تكون بيولوجية. ليست الديمقراطية انتخابات تأتي بنظام حكم “يناسب الشعوب”. هي المصدر الأول لحق التعبير، وهو حق ما زالت الكثير من نماذج “النجاح” الحسابي في العالم تنشده وتتحرّاه حتى في صمت بانتظار أن تصل مواسم الكلام.
العرب