تشابهت البدايات في أحداث الربيع العربي في عام 2011، في الدول الخمس التي شملتها ثورات ذلك الربيع، تونس ومصر وليبيا واليمن وسورية. وكان تشابه البدايات في تلك الدول منطقياً، حيث كانت تتشابه نُظم الحكم التي كانت قائمة في تلك الدول في ذلك الوقت، فكلها كانت نُظم حكم شمولية، يغلب عليها الطابع الديكتاتوري، ومستندة على انقلابات عسكرية ثورية، أو ثورات انقلابية عسكرية، وكان على رأس تلك النظم قادة تلك الانقلابات، كما كان الحال في تونس والجنرال بن علي، وليبيا والعقيد القذافي، واليمن والعقيد علي عبد الله صالح، أو ورثة القادة كما كان الحال في مصر والفريق حسني مبارك خليفة أنور السادات والبكباشي جمال عبد الناصر، وسورية وبشار خليفة والده الجنرال حافظ الأسد، والذي منحه رتبة العقيد قبل وفاته. وعلى ذلك، خرجت الجماهير في تلك الدول ترفع شعارات التغيير الثوري، وتطالب بإسقاط نُظم الحكم. ومن هنا أخذت حركة الجماهير العربية، في يناير/كانون الثاني 2011، طابع “الثورة”، وحملت مسمّى “ثورات الربيع العربي”.
على الرغم من تشابه البدايات، اختلفت المسارات والمآلات بشكل كبير، في كل من تلك الدول. تمثل تشابه البدايات في الصدمة الزلزالية التي أصابت النظم الخمسة، فأدّت إلى سقوط رأس
“ما جرى في 2011 لم يكن مجرد حجر أُلقي في بركة راكدة، فحرك فيها المياه، ثم هدأ كل شيء”النظام في ثلاث دول بشكل سريع، تونس ومصر وليبيا، بينما تأخر سقوط رأس النظام في اليمن بعض الوقت، بسبب التدخل الإقليمي، وبقي رأس النظام في سورية نتيجة تدخلات وتوازنات دولية وإقليمية.
ثم كان اختلاف المسارات، وبالتالي اختلاف المآلات، نتيجة اختلاف السياقات السياسية والاقتصادية والاجتماعية، من دولة إلى أخرى. ولطبيعة اختلاف ما تُعرف بالدولة العميقة، وقوى الثورة المضادة، في كل واحدةٍ من دول الربيع العربي الخمس. ونحن لسنا بصدد تحليل الأحداث ومجرياتها وتقييمها، وما آلت إليه الأحوال، مع اختلافها، فيما يُعرف بدول ثورات الربيع العربي، ولكن ما يمكن أن نتفق عليه أنه ليست هناك أي من ثورات الربيع العربي نجحت في تحقيق أهدافها التي أعلنتها عند انطلاقها، على الرغم من التباين بين مآلاتها. وأيضاً، فإن الثورات المضادة لم تتمكّن من تحقيق أهدافها، على الرغم من كل ما جرى ويجري من إجراءات لإحباط تلك الثورات، سلمياً أو قمعياً. وعلى الرغم من أنهار الدماء التي جرت، وما زالت تجري، في سورية وليبيا واليمن.
على الرغم من أن ثورات الربيع العربي لم تحقق أهدافها، فإن الثورات المضادة فشلت في وأدها. ولم يتوقف الأمر عند ذلك الحد، لأن ما جرى في يناير/كانون الثاني 2011، لم يكن مجرد حجر أُلقي في بركة راكدة، فحرك فيها المياه، ثم هدأ كل شيء. ولكنه كان شيئاً أخطر من ذلك بكثير، أشبه بإعصار هائل، ضرب محيطاً ساكناً، فتحولت مياهه إلى أمواج هادرة، متحرّكة، راحت تضرب شواطئ عديدة في العالم العربي، فبدأت الشعوب تصحو شيئاً فشيئاً، على واقع لم يعد بالإمكان التعايش معه.
بعيداً عن اجتهادات المحللين والمراقبين، والتي تذهب إلى أن ما جرى ويجري، في عدد من الدول العربية، ما بعد انطلاقة ثورات الربيع العربي، في الدول الخمس التي كانت ذات نُظم حكم عسكرية، أو شبه عسكرية، شمولية، ما هو إلا موجات تالية من تلك الثورات، أو أنه امتداد لها. تلك الاجتهادات التي أدّت وتؤدّي إلى الوقوع في أخطاء جسيمة، عند تقييم حركة الشعوب المختلفة، والحكم على مخرجاتها، كما حدث في حالة الحراك الشعبي السوداني الذي انطلق في ديسمبر/كانون الأول 2018، وأدى إلى حل توافقي بين قوى الحراك الشعبي المدنية السلمية وقوى سلطة الأمر الواقع العسكرية التي عزلت عمر البشير، وتولت مقاليد الأمور. وكما يحدث في حالة الجزائر، حيث إن الحراك الجماهيري السلمي مستمر منذ نحو عشرة أشهر، ومطالب التغيير مستمرة من دون كلل، حيث ذهبت تحليلات إلى أن ذلك الحراك الشعبي، سواء في السودان أو في الجزائر، قد قبل بالحلول الوسط مع قوى النُظم المفترض أن هناك ثورات شعبية قامت لإسقاطها.
بعيداً عن تلك التحليلات التي سيطرت عليها أجواء ثورات الربيع العربي في عام 2011، علينا
“رغم أن ثورات الربيع العربي لم تحقق أهدافها، فإن الثورات المضادة فشلت في وأدها”أن نُعيد قراءة المشهد من منظور مختلف تماماً، واضعين في الاعتبار أن حركة كل شعب عربي تجري في سياقات سياسية واجتماعية واقتصادية وعوامل محلية وإقليمية ودولية، لها خصوصيتها. ولعل المثل الواضح أمامنا هذه الأيام ما يجري من حراكات شعبية، في كل من لبنان والعراق، تهدف إلى التغيير من مفاهيم الطائفية السياسية إلى مفاهيم المواطنة والمدنية. وهو تغيير أقرب إلى الإصلاح وليس الثورة، لأن طبيعة النظام في كل منهما أقرب إلى الديمقراطية، والفصل بين السلطات، ولكن اختلاف السياقات بين البلدين أدى إلى اختلاف المسارات.
في لبنان حراك شعبي سلمي يطالب بتغيير الطبقة السياسية، رافعاً شعار “كلّن يعني كلن”، أي تغيير كل تركيبة الحكومة المبنية على التقسيمة الطائفية. وحقق الحراك المستمر خطوة أولى، باستقالة الحكومة. ولكن المهم هنا أنه لم تُرَق الدماء اللبنانية، لا بيد قوى الجيش والأمن الداخلي، ولا بيد قوى سياسية متعارضة في الشارع، وبقي الحراك اللبناني شعبياً، سلمياً، والمرجو أن يستمر حتى تحقيق أهدافه الإصلاحية.
في العراق، بدأ الحراك الشعبي سلمياً، طالباً الإصلاح بتغيير هياكل الحكومة، المبنية على الطائفية السياسية، والتي تم تكريسها في أعقاب الغزو الأميركي للعراق في عام 2003. واكتسب الحراك الشعبي العراقي طابعاً بعيداً عن الطائفية، حتى إن الشباب في ساحة التحرير رفع لافتاتٍ حملت عبارة ذات دلالة مثل “لقد ماتت اليوم الطائفية، عن عمر يناهز 16 عاماً…”. ولكن المشهد اختلف كثيراً عن لبنان، حيث سالت دماء العراقيين في بغداد والبصرة وغيرهما، حتى تجاوز عدد القتلى 250 قتيلاً، وأكثر من عشرة آلاف مصاب. وما زال الدم يجري على الطرقات، وتحوّل الحراك الشعبي إلى “عراك” حقيقي.
ما بين الحراك اللبناني والعراك العراقي، يبقى الإعصار الذي ضرب العالم العربي، في يناير/كانون الثاني من عام 2011، مستمراً، يهدأ على بعض الشواطئ، ويشتد على شواطئ أخرى، ولكنه قطعاً لن يهدأ ذلك الإعصار، حتى يبلغ منتهاه بثوراتٍ شعبية سلمية حقيقية، تقتلع نُظما فاسدة من جذورها، وانتفاضات وحراكات شعبية سلمية، تُحدث إصلاحاتٍ جذريةً في هياكل نُظم طائفية وقبلية. لن يهدأ ذلك الإعصار، حتى يشهد العالم العربي دولاً مدنية، ديمقراطية، حديثة، تحكمها دساتير عصرية. ويبقى أن على الشعوب العربية، ومع اختلاف السياقات، أن تكون مستعدة لدفع الثمن الغالي، والذي قد يكون من دم أعز أبنائها.