من يتابع المظاهرات التي عمّت مختلف أنحاء لبنان يلمس متغيرا جديدا يؤشر بوضوح إلى تصدّع نظام المحاصصة الطائفية الذي تسبب بانتشار ظاهرة الفساد، بكل تجلياته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، ويتهدد اللبنانيات واللبنانيين بكارثة اقتصادية، ويضع الطبقة السياسية كلها في مأزقٍ لا يمكن الخروج منه، من غير أن تلبى مطالب الشارع، وأولها محاسبة المسؤولين السياسيين، وفي مقدمتهم أمراء الطوائف الذين أثروا ثراء فاحشا في ثلاثة عقود، واستعادة الأموال المنهوبة خطوة أولى باتجاه حلحلة الأزمة الاقتصادية.
لم يسمّ الشعار الأبرز، “كلن يعني كلن”، حزب الله، المهيمن الأبرز على لبنان، لكنه لم يستثنه صراحة، سيما أن المظاهرات استهدفت، منذ انطلاقة انتفاضتها، شخصيات بعينها، هي في تحالف وطيد معه، وتتشارك معه الهيمنة على الحياة السياسية في لبنان، أبرزها وزير الخارجية جبران باسيل الذي يرأس ما يسمّى “تيار التغيير والإصلاح” الذي يدين بالولاء لرئيس الجمهورية، ميشال عون، ورئيس مجلس النواب نبيه بري، أحد قطبي الثنائي الشيعي، حركة أمل وحزب الله.
“نحن نتجنب الصدام مع حزب الله”، قالت لي إحدى الناشطات في الانتفاضة، وتابعت “يكفينا أن انتفاضتنا كسرت المقدس الطائفي، بانتفاضة شعبية لا مركزية عابرة للطوائف، مطالبها محض معيشية، وتؤشر بأصابع الاتهام إلى مسؤولية كل الطبقة السياسية عن الأزمة الاقتصادية الخانقة، وعن جرائم الفساد. ومن هنا جاء الشعار”كلن يعني كلن” وطبعا “اللي تحت باطو مسلة بتنعره. ومن هنا، تُفهم خطابات الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، التي بدأها بالتهديد والوعيد لكل من تسوّل له نفسه الاستقالة من الحكومة، مطلبا رئيسيا للمتظاهرات والمتظاهرين، ثم خفض
“ما يدركه المتظاهرات والمتظاهرون اللبنانيون الآن هو المأزق الذي يواجهه حزب الله”النبرة في الخطابين، الثاني والثالث، وادعائه الوقوف مع مطالب الشارع المحقّة، ولكن مع اتهامه للشارع بتلقي التمويل من السفارات، مرورا بتسخيف بمطلب الانتفاضة إسقاط النظام الطائفي، بوصفه مطلبا صعبا وغير واقعي، وصولا بالتلويح غير المباشر بالحرب الأهلية، بهدف التهويل وإخافتنا”. تعرّضت هذه الناشطة للاعتداء الجسدي بعد خطاب نصر الله الأخير من عناصر من حركة أمل وحزب الله في ساحة الشهداء، حين لاحقها عديدون منهم، وهم يصرخون خلفها “هذه متظاهرة إمسكوها”، قبل أن يتمكنوا من الإمساك بها وضربها بعنف. هذه الناشطة أستاذة جامعية وأم لطفلين. ختمت “ليس لدينا أي نية بالتعرّض لسلاح حزب الله والمقاومة، وما حدا يهول علينا بالحرب الأهلية: مش خايفين”.
ما يدركه المتظاهرات والمتظاهرون اللبنانيون الآن هو”المأزق الذي يواجهه الحزب” بوصفه القوة المهيمنة والأكثر تسليحا بين المليشيات الطائفية التي تلحفت طويلا بغطاء “المقاومة”، وأقدمت على ترهيب بيروت في 7 مايو/ أيار 2007، وتمادت في ارتكاب جرائم حرب في ساحات حمص والقصير وغيرها من المدن والأحياء السورية، وتورّطت بتغطية الفساد في لبنان، لقاء القبول بها قوة مهيمنة على كل لبنان.
ولذلك تعتبر المتظاهرات ومعهن المتظاهرون تفادي التورّط في صدام مباشر مع حزب الله أمرا في غاية الأهمية، لحماية سلمية الثورة الشعبية من الانزلاق إلى حربٍ أهلية، يتم افتعالها لإجهاض الثورة وحرف بوصلة مطالبها. ويتركون للمأزق أن يتكفّل بالقوى المضادة للثورة وهي “تبتلع موسى خياراتها المرّة”، التي قد تؤدي إلى تصدّع حلفها مع التيار العوني على وجه الخصوص الذي قد يلجأ، في لحظة مصيرية، إلى التخلي، أو الابتعاد ولو جزئيا، ولو بالتراضي، عن هذا الحلف لمصلحة الحفاظ على العهد، عبر الامتثال لمطالب الشارع، ولسان حاله يقول:”مجبر أخاك لا بطل”، وإلا فالسفينة ستغرق بالجميع.
ليس لدى الشعب اللبناني الكثير ليخسره، وحزب الله لن يتمكّن من حل الأزمة الاقتصادية، إذا
“نعم، الأوضاع في لبنان صعبة، ومرشحة لانزلاقات خطرة. ولكن متى لم تكن كذلك؟” أصر على البقاء بوصفه سلطة مهيمنة في الحكومة، سواء بشكل مباشر، عبر وزراء له أم عبر حلفائه، سيما من التيار العوني، لأن أموال مؤتمر “سيدر” والبنك الدولي لن تتدفق إلى لبنان، في ظل هذه الهيمنة أو بالتحالف العوني معه، سيما أن الأموال المتدفقة من طهران شحيحة، ولن تتمكّن أي أنشطة عبر العالم أن تغطي أبسط الاحتياجات المالية للخروج من الأزمة الاقتصادية، أو حتى الذهاب إلى حرب أهلية “وقودها البشري من الطوائف خارج سيطرتها نسبيا”، سيما بعد سقوط نظام المحاصصة الطائفية في الشارع، وبشكل كبير، حتى في معاقل النفوذ الشيعية الأبرز في صور والنبطية وبعلبك والبقاع.
وأيضا، عيون المتظاهرات والمتظاهرين على مظاهرات العراق، والمأزق الذي يعيشه نظام ولاية الفقيه هناك، والذي قد تنتقل عدواه إلى شوارع طهران نفسها قريبا.
يبقى أن إسرائيل وأميركا وبعض وكلائها في المنطقة تنظر بريبة إلى المتغيرات، وإنْ هي ظاهريا تصفق لها، لكنها تعد العدة للانقضاض على ثورات الشعوب العربية المتجددة مجدّدا، سيما في العراق ولبنان، فشعار”كلن يعني كلن” سوف يسري عليها أيضا، ويتهدّد وجودها لاحقا في المنطقة في معركة “الوجود” التي تخوضها شعوبٌ عربية عديدة الآن، ويرشح أن تنضم إليها شعوبٌ أخرى، في مقدمتها مصر.
هذا كله رهن بما ستؤول إليه الأوضاع في لبنان ربما. ولكن بغض النظر عن التطورات الداخلية والخارجية التي تحيط بلبنان، ثمة “أملٌ” في النهوض والتغيير إن نجحت الثورة الشعبية في تحقيقه، على الرغم من تعقيدات الوضع في لبنان التي لا تشبه تعقيدات أي بلد عربي آخر، بما فيها العراق، فإن هذا النجاح، مهما كان محدودا، سيشكل دفعة قوية لشعوب عربية أخرى من بلد صغير، كلبنان مكبل بالطائفية وبالتوازنات الداخلية والخارجية، موارده متواضعة، ويعتمد باقتصاده تاريخيا على الدعم الخارجي والمال السياسي، ولا يملك سوى عناد وعزيمة بناته وأبنائه في معركة الوجود وتقرير المصير.
نعم، الأوضاع في لبنان صعبة، ومرشحة لانزلاقات خطرة. ولكن متى لم تكن كذلك؟