خلال شهرين، منذ الحادثة التي أطلق فيها حزب الله الصواريخ على الدبابات الموجودة على الحدود مع لبنان قرب “موشاف افيفيم”، تقلص بشكل كبير عدد التقارير عن هجمات إسرائيلية ضد أهداف مرتبطة بإيران في الساحة الشمالية. الأسبوع الماضي، في موازاة عملية التصفية في غزة، جاءت أنباء من دمشق عن محاولة تصفية فاشلة لقائد في الجهاد الإسلامي هو أكرم العجوري. وفجر الأربعاء عادت إسرائيل إلى المهاجمة بقوة. سلاح الجو قصف أكثر من 20 هدفاً إيرانياً وسورياً في دمشق ومحيطها.
وإليكم تسلسل الأحداث في الأيام الأخيرة: في بداية الأسبوع، حسب ما نشر في وسائل الإعلام العربية، هوجمت سيارات تابعة لمليشيات شيعية تشغلها إيران، في الوقت الذي سارت فيه في قافلة في شرق سوريا. جاء رد إيران صباح أمس على شكل إطلاق أربعة صواريخ من جنوب دمشق على هضبة الجولان. القبة الحديدية اعترضت الصواريخ بنجاح، وعند الفجر اتخذت إسرائيل خطوة خاصة بها.. الهجوم الواسع لسلاح الجو.
لم تكن هذه عملية لإحباط مسبق لهجوم إيراني فوري، بل هي جزء من جهد طويل المدى تقوم به إسرائيل بهدف منع تمركز عسكري إيراني على حدودها. الأهداف التي هوجمت هي قواعد ومقرات قيادة لإيران وللمليشيات الشيعية، إلى جانب منشآت عسكرية سورية تقوم باستضافتها. وقد دمر سلاح الجو أيضاً عدداً من صواريخ أرض – جو سورية، بعد إطلاق الصواريخ على طائراته.
هنا تدور عملية واسعة كانت بدايتها قبل سنتين تقريباً، وخلال هذه الفترة كان هناك ارتفاع وهبوط. إسرائيل قصفت مرات كثيرة منشآت ووسائل قتالية إيرانية، وفي عدد من الحالات قتلت نشطاء من حرس الثورة الإيراني. هذه الجهود أجبرت الجنرال قاسم سليماني، قائد قوة القدس، على أن يغير في كل مرة وتيرة وطبيعة نشر القوات والمعدات في سوريا. ولكنه لم يتنازل في أي يوم على الإطلاق عن الخطة. وفي الأشهر الأخيرة تحديداً إزاء وقف هجمات إسرائيل، عملت إيران في سوريا بسهولة أكبر.
على هذه الخلفية، فإن تصريح وزير الدفاع الجديد، نفتالي بينيت، غير واضح، وبحسبه.. يدل الهجوم ضد سوريا هذه الليلة على أن “القواعد تغيرت: من يطلق الصواريخ على إسرائيل في وضح النهار لن ينام في الليل”. إسرائيل ردت في السنوات الأخيرة بشكل غير مباشر، وأحياناً كان ردها غير متناسب بشكل متعمد على كل إطلاق من سوريا. وثمة مصدر أمني رفيع تحدث مع المراسلين قال بأن الرد في سوريا كان غير مسبوق من حيث حجمه. وحسب قوله، استهدف الهجوم رسالة تقول بأن إسرائيل لن تتعود على واقع إطلاق الصواريخ من سوريا مثلما حدث على حدود القطاع.
عملياً، كان هناك أكثر من عشر حالات إطلاق من سوريا في السنوات الأخيرة، وكانت إسرائيل قد ردت عليها جميعاً. في عدد من الحالات، وعلى رأسها عملية “بيت ورق اللعب” في أيار 2018، ظهر أنه تمت مهاجمة عدد كبير من الأهداف. من يصف الواقع بهذه الصورة فهو إما أنه قد نسي التاريخ (القريب جداً) أو يحاول إعادة كتابته.
بينيت أعلن أيضاً بأن “الرسالة لزعماء إيران بسيطة – أنتم غير محصنين. كل مكان ترسلون إليه أذرع الأخطبوط خاصتكم، سنقوم بقطعها”. وأشار هذا المصدر الأمني الرفيع إلى احتمال وقوع قتلى بين الإيرانيين في الهجوم الأخير.
ربما أن الاعتبارات الإسرائيلية، بمهاجمة إيران بقوة في سوريا وتهديد الزعماء في طهران بشكل علني، مرتبطة أيضاً بالضائقة التي وجد النظام نفسه فيها في الأسابيع الأخيرة، على خلفية المظاهرات الضخمة في العراق ولبنان، ومؤخراً ازاء الاحتجاج على رفع أسعار الوقود في إيران نفسها. أجهزة استخبارية غربية تصف الاحتجاج بأنه الأعنف والأوسع في الدولة منذ الثورة الإيرانية قبل أربعين سنة. منظمة “أمنستي” أبلغت أمس عن 100 قتيل تقريباً في الأحداث.
مع ذلك، مشكوك فيه أن اختيار انتقاد الإيرانيين علناً، سيتبين بأنه صحيح. طهران وسليماني بشكل خاص بارعان في تطوير حسابات بعيدة المدى. وبينيت كوزير جديد للدفاع يبني لنفسه صورة عامة عالية، التي يمكن لوزراء آخرين في الحكومة أن يحلموا بها. حتى لو كانت هذه لفترة محدودة (على افتراض أنه ستجري انتخابات جديدة، سيكون هنا وزير دفاع جديد قبل شهر أيار أو حزيران القادمين).
حتى الآن، يبدو أنه من الأفضل له عدم التأثر أكثر من اللازم من العناق الدافئ لوسائل الإعلام أو العلاقة الوثيقة مع قيادة الجيش الإسرائيلي. افيغدور ليبرمان الذي استقال من منصبه قبل سنة تقريباً تحطم شعبياً بسبب تصريح متسرع عشية توليه منصبه حول مصير رئيس حماس، إسماعيل هنية، وهي ضربة استيقظ منها مؤخراً. التأييد التلقائي الذي يحصل عليه وزير دفاع جديد يميل إلى التلاشي بعد الخلل العملياتي الكبير الأول، أو لا سمح الله، الجنازة العسكرية الأولى.
في الخلفية تجري بالطبع لعبة سياسية أكبر، على مستقبل رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو. المتحدث بلسان الجيش، العميد هيدي زلبرمان، قال صباح أمس في محادثة مع المراسلين، إن العملية في سوريا “كانت مستعجلة وحاسمة، اضطرتها الظروف”. في المستوى السياسي يقولون أيضاً إن الضغط من أجل العمل ضد إيران في أسرع وقت جاء من الأسفل إلى الأعلى، أي من المستويات المهنية. الجيش يركز على الصورة التي هو مسؤول عنها وهي علاج التهديد الأمني. ولكن من الصعب تجاهل القيمة الإضافية الكامنة لنتنياهو، الذي يناضل حقاً على حياته السياسية، من إملاء أجندة أمنية طوال الأيام الأخيرة للتكليف الخاسر مسبقاً، الذي حصل عليه عضو الكنيست بني غانتس (أزرق أبيض) من أجل تشكيل الائتلاف.
إسرائيل ليست السعودية
مؤخراً، دار الحديث عن محاولة لإيران من أجل إملاء “معادلة ردع” أمام إسرائيل، التي بحسبها أن كل هجوم على هدف مرتبط بإيران أو حلفائها في المنطقة سيقابله ضرب فوري لأهداف في إسرائيل. هذا ما حاول سليماني ترسيخه عن طريق إطلاق الصواريخ أمس على هضبة الجولان. الهجوم الإسرائيلي فجر اليوم يرسل رسالة في الاتجاه المعاكس: أولاً، إسرائيل ليست السعودية، وهي لن تسلم بالهجوم عليها مثلما حدث بعد ضرب إيران الكثيف لمنشآت النفط السعودية في أيلول الماضي. ثانياً، من الأفضل أن يعيد سليماني من جديد فحص مشروع زيادة القوة والتمركز العسكري على حدود سوريا ولبنان، لأن إسرائيل تعتبر ذلك اجتيازاً لخط أحمر، وستواصل العمل بتصميم ضد ذلك. يمكن الافتراض أن إسرائيل تأمل أن نقل هذه الرسائل على خلفية الأزمة الداخلية الشديدة جداً في إيران، سيستوعب بصورة أفضل لدى القيادة في طهران. ولكن في الوقت نفسه تكمن للقيادة السياسية والعسكرية كل الكمائن المعروفة: مزيج من التفاخر بالإنجازات والغطرسة والإفراط في التفاؤل بخصوص ما سيحدث في المستقبل. وبالإجمال، يبدو أننا وجدنا أنفسنا مؤخراً في وضع إقليمي خطير، فيه توجه غير صحيح يمكن أن يدهور الوضع مع إيران ومبعوثيها، وحتى ربما إلى درجة خطر اندلاع حرب مباشرة.
القدس العربي