بعد مرور ما يقرب من 45 يوما على موجة الاحتجاجات الأولى، وأكثر من 25 يوما على موجة الاحتجاجات الثانية، يبدو واضحا للجميع من خلال خطابات وسلوك الطبقة السياسية العراقية، أن ثمة حالة من الانسداد السياسي المستعصية، وذلك بسبب تمسك الطبقة السياسية بالسلطة ورفض تخليها عن هيمنتها على الدولة ومؤسساتها، وأنها تسعى للمماطلة من خلال الرهان على فقدان الحركة الاحتجاجية زخمها مع الوقت ومع المزيد من القتل والتهديد والضغط.
في اليوم الأول للموجة الثانية للاحتجاج يوم 25 تشرين الأول/ أكتوبر، طرحنا خارطة طريق تعتمد على مبادئ ثلاثة أساسية؛ استقالة او سحب الثقة عن الحكومة، وتشكيل حكومة مصغرة مؤقتة بمهام محددة (تصريف الأمور اليومية، وتشكيل مفوضية انتخابات مهنية مستقلة حقيقة، وإصدار قانون مؤقت للانتخابات)، وحل البرلمان لنفسه والذهاب إلى انتخابات مبكرة. وهذا التسلسل، الذي يتفق تماما مع الدستور، هو وحده ما يمكن ان يكون مخرجا لحالة الانسداد السياسي القائمة، لاسيما مع اليقين الجماعي بعجز السلطة التشريعية الممثلة بالبرلمان، وبحرصها على تسخيف أي قانون يخص الانتخابات أو أي محاولة لتشكيل مفوضية انتخابات جديدة، لأن أي قانون سيشرع سوف تحرص السلطة على أن يضمن مصالحها ومكاسبها، ويضمن تمثيلها (على الأقل الفاعلين السياسيين الرئيسيين) في أية مفوضية انتخابات جديدة.
إن تحليلا سريعا للخطابات، والمبادرات، التي قدمتها الطبقة السياسية حتى اللحظة، تكشف عن ملمحين أساسيين: الأول إصرار الرئاسات الثلاث على بقاء الوضع على ما هو عليه، برفض الحديث عن استقالة الحكومة (رئيس مجلس الوزراء)، فرئيس الجمهورية يملك صلاحية الطلب من البرلمان سحب الثقة عن الحكومة، ومجلس النواب يملك صلاحية استجواب الحكومة تمهيدا لسحب الثقة عنها كما يشترط الدستور. والملمح الثاني هو ايهام الجمهور بأن هذه الطبقة السياسية يمكن أن تنتج إصلاحا او تغييرا حقيقيا يطيح باقطاعياتهم وفسادهم، وهي الطبقة نفسها التي أنتجت على مدى 16 عاما دولة فاشلة وهشة بامتياز بحسب مؤشر الدول الفاشلة/ الهشة لعام 2019 حيث جاء العراق في المرتبة 13 عالميا، والخامس عربيا بعد كل من اليمن والصومال وسوريا والسودان، بدرجة التحذير القصوى والمعيار الأول لهذا التصنيف كان عدم القدرة على إتمام وظائف الحكم، فضلا عن الفساد السياسي والمالي فيها.
في آخر خطوة في هذ السياق، اجتمعت غالبية الطبقة السياسية، لتقدم مبادرة مفترضة، كل ما كانت تريد ان تقوله، بعيدا عن الإنشاء السياسي الفج، هو أن الحكومة باقية، والبرلمان باق، وأن أي تغيير في الوضع القائم يمثل انزلاقا إلى الفوضى واللادولة!
في الواقع، وبعد سقوط اكثر من 330 ضحية، وما يزيد عن 15 ألف مصاب، تأتي المبادرة لتقول إن «الاولوية القصوى» للطبقة السياسية هي «حقن الدماء»، في خطاب أشبه بالتهديد حين تقول نصا «تجنيبهم الحرب الأهلية والخراب والدمار الذي لن يستثني أحدا»! وهو تهديد صريح، يأتي تتمة للتحذير السابق من الفوضى! وتمهيدا لمحاولة شيطنة حركة الاحتجاج، وإيعازا أيضا للأجهزة الأمنية من أجل ما أسمته المبادرة «أداء واجباتها» من أجل تجنيب البلاد «هاوية الانزلاق إلى الفوضى والمجهول واللادولة»! في مقابل الحرص على المطالبة بمواصلة الجهد «لاكتشاف المتورطين بالقنص وقتل المتظاهرين» في الموجة الأولى للاحتجاجات حصرا! وكأن عمليات القتل التي طالت أكثر من 180 ضحية في الموجة الثانية للاحتجاجات، فضلا عن أكثر من 9 آلاف مصاب لم تكن في سياق قمع الاحتجاجات!
ثمة حالة من الانسداد السياسي المستعصية، وذلك بسبب تمسك الطبقة السياسية بالسلطة ورفض تخليها عن هيمنتها على الدولة ومؤسساتها، وأنها تسعى للمماطلة من خلال الرهان على فقدان الحركة الاحتجاجية زخمها مع الوقت ومع المزيد من القتل والتهديد والضغط
لكن المهزلة الحقيقية التي تضمنتها المبادرة، هي مهلة الـ 45 يوما لتشريع قوانين إشكالية عجزت الدولة بكامل سلطاتها عن إنجازها على مدى سنوات طويلة (مثل قانون النفط والغاز، وقانون مجلس الاتحاد، وقانون المحكمة الاتحادية)، أو تعديل قوانين إشكالية، او إنجاز ملاحقات قضائية، ليتأكد الجميع أننا أمام مجرد مناورة لشراء الوقت، وأن هذه المهلة الزمنية لن تختلف عن المهل الزمنية التي أقرها الدستور العراقي ولم يتم تنفيذها بعد مرور 14 عاما!
بكل سذاجة تريد الطبقة السياسية أن تقنع المحتجين بأنها ستبتعد عن التدخل في عمل الوزارات ومؤسسات الدولة، والجميع يدرك بأن مؤسسات الدولة جميعها تحولت إلى إقطاعيات للطبقة السياسية، وهي مصدر تمويل حزبي وشخصي!
وتريد أن تقنع المحتجين أيضا بانها ستشكل مفوضية انتخابات جديدة ومستقلة عن الأحزاب بالتشاور مع بعثة الأمم المتحدة، والجميع يدرك ايضا بأن هذه الطبقة السياسية هي التي أنتجت ثلاث مفوضيات انتخابات «مستقلة» بموجب القانون، لم تكن في حقيقتها سوى ممثليات للأحزاب الفاعلة لضمان إعادة تدويرها انتخابيا! وأن بعثة الأمم المتحدة كانت دائما شريكا أصيلا وشاهد زور على هذه الممارسات، وتقاريرها حول تشكيل هذه المفوضيات وثيقة دامغة على ذلك!
المفارقة هنا أنه في سياق حركة الاحتجاج، وبعد نهاية موجتها الأولى مباشرة، قام رئيس مجلس النواب بنقل موظف عمل في حملته الانتخابية، بعد تنسيبه إلى مكتبه أولا، إلى المفوضية العليا المستقلة للانتخابات بتاريخ 8 تشرين الأول/ اكتوبر، ليصبح مديرا لمفوضية الانتخابات في الأنبار، بعد يوم واحد من هذا التاريخ!
على الجانب الآخر، ما زالت قوى الاحتجاج تحافظ على زخمها بوتيرة متصاعدة، خاصة مع خطبة مرجعية النجف الأخيرة، التي بدت، لأول مرة، أقرب إلى موقف المحتجين بطريقة لا تأويل فيها! فبعد انضمام طلبة الجامعات، وطلبة المدارس، إلى الحركة الاحتجاجية، واستمرارا لصحوة النقابات التي تحدثنا عنها في مقال سابق، حصلت قوى الاحتجاج على دعم كبير عندما أعلنت 21 نقابة بيانا يوم 18 تشرين الثاني/ نوفمبر أكدت فيه أنها جزء من الحراك الشعبي، وأنها مع خارطة طريق تتضمن استقالة الحكومة واجراء انتخابات مبكرة.
ثمة مطالبات، قد نختلف في توصيف دوافعها، للقوى الفاعلة في حركة الاحتجاجات، بأن تنظم صفوفها، وتنتج قيادة موحدة لها، وتذهب، من ثم، إلى التفاوض مع السلطة/ الدولة، وثمة أيضا مظاهر مريبة توحي بالاستجابة لذلك، تشارك فيها بعض القوى السياسية المنتمية للسلطة/ الدولة، من خلال بعض البيانات التي صدرت تحت عناوين مختلفة تدعي «تمثيلها» للمحتجين!
وتبدو هذه المطالبات طوباوية وغير منطقية، إذ لا يمكن الحديث عن قوى منظمة، وفاعلة، وممثلة (بكسر الثاء)، يمكنها احتكار الحديث باسم حركة الاحتجاج، ونعتقد انه من المبكر الحديث عن إنتاج هكذا قوى في الظروف الحالية، لهذا تبدو فكرة الحكومة المصغرة والمؤقتة، التي تدير مرحلة انتقالية لا تزيد عن سنة واحدة، هي وحدها من قد تتيح للفاعلين في حركة الاحتجاج تنظيم أنفسهم لكي يكونوا منافسين سياسيين في الانتخابات المبكرة المقترحة وفق أفضل تقدير، خاصة وأن حركة الاحتجاج، وفكرة الإدارة المهنية للانتخابات، وفق قانون انتخابات عادل وقادر على ضمان عدم التزوير المؤسساتي والمنهجي، قد تدفع بالجمهور الانتخابي إلى الايمان، هذه المرة، بأن لأصواتهم هذه المرة القدرة على إحداث التغيير الذي ينشده العراقيون جميعا.
القدس العربي