تتصاعد الانتفاضة العراقية بزخم كبير، ما يسود في ساحة التحرير من هدوء مشوب بالحذر، غير ما يحدث على بعد بضعة أمتار منها في ساحة الخلاني وجسري السنك والأحرار، حيث تجري عمليات كرّ وفرّ بين المتظاهرين والقوات الأمنية في محاولة جماهيرية لمسك الأرض.
أما في المحافظات الجنوبية، فالفعل الجماهيري بات ثوريا في مواجهة قمع لم يسبق له مثيل، تمارسه السلطات الحكومية بأجهزتها العسكرية والشرطية والأمنية، إضافة إلى الميليشيات المسلحة المؤتمرة بالأوامر الإيرانية، فيما تبدو الطبقة السياسية عاجزة تماما عن التحرك باتجاه التنفيس، وغير قادرة كليا على طرح حل أو مبادرة، لانها بدأت تدرك تماما أن الوضع الراهن يهدد وجودها، ووجود الكيانات الحزبية والمليشيات المتحكمة بالسلطة، لذا بدا الشلل واضحا في العمل الحكومي والارتباك في التصريحات. في حين ينعكس هذا المشهد إيجابا على حركة الشارع، فيمنح المنتفضين طاقة جديدة لمواصلة الحراك، ورفع سقف المطالب أيضا.
إن الاقتراحات الواردة من السلطة، التي اتفقت عليها القوى السياسية مؤخرا، والتي تلخصت بإنشاء محكمة خاصة لملاحقة الفاسدين، ووضع قانون انتخابات جديد، وإحالة المتهمين بقتل المتظاهرين إلى المحاكم المختصة، وتحريك الاقتصاد، ورسم خطط تنمية بشرية وبنى تحتية، وغيرها مما ورد ذكره في البيان الحكومي، كلها لم تعد كافية لإقناع الشارع المنتفض، بل الملاحظ أن تحرك الحكومة يسير بطريق مختلف ومتعارض مع مسيرة الشارع، فكل ما يأتي من السلطة يركز على التعديلات التي ستنظر فيها لجان من الأحزاب، التي تسببت في خراب البلد، بينما يطالب الشارع بضرورة استقالة الحكومة، وأن تتولى لجان محايدة ومستقلة وضع قانون انتخابات جديد برعاية الأمم المتحدة، فما الفائدة المرجوة من تعديلات دستورية، وإصلاحات وقانون انتخابات جديد وغيرها من القوانين المقترحة، إذا كانت ستذهب إلى البرلمان الحالي، المشكل بطريقة دمرت البلد، للتصويت عليها؟ حيث سنعود لمواجهة المشكلة نفسها، وهي التلاعب بالوقت، والتسويف والتهرب من المطالب الشعبية بنقاشات عقيمة ومطولة، وبالتالي لن يتم الاتفاق على القوانين والتعديلات المقترحة بسبب تعارض المصالح الحزبية والطائفية. ولعل أبرز مثال على ذلك هو المقترح المطروح حاليا، استبدال النظام من برلماني إلى نظام رئاسي، الذي دخل في طريق مسدود، فالجناح السياسي المرتبط بإيران يؤيد المقترح، بينما يُفضّل السُنّة الاستمرار في النظام البرلماني، لأنه يوفر لهم حصة في الكابينة الوزارية، وحصة في البرلمان أيضا. بينما يطالب الأكراد بحماية مكاسبهم السياسية والاقتصادية، بغض النظر عن شكل النظام السياسي، هذه الإشكالية قادرة على نسف أي مقترحات أو مشاريع مقدمة للإصلاح، وبالتالي الاستمرار في السير في نفق مظلم لا أفق فيه. فالخلافات والاختلافات في الرؤية والرؤى ليس الهدف منها المصلحة الوطنية، بل المصالح الحزبية والطائفية والإثنية، وكذلك مصالح الحاضنين الدوليين والإقليميين أيضا، في حين لم يطرح الشارع مسألة شكل النظام إطلاقا، هو طرح تغيير النظام السياسي القائم على المحاصصة الحزبية والطائفية.
تظهر صورة الشباب المنتفضين بوجه حضاري لقد التفوا بالراية الوطنية العراقية، بعيدا عن الانتماءات الدينية والعشائرية والطائفية والإثنية
لقد اختارت الطبقة السياسية الحاكمة طريق الكذب والمماطلة والتهرب من تنفيذ المطالب الشعبية في السنوات الماضية، بل بات من المؤكد أن الجميع كانوا متفقين على هذا السلوك السياسي، بدليل أن كل الوجوه التي تداولت على السلطة كانت قد مارست النهج السياسي نفسه في التعامل مع المطالب الشعبية، وحتى عند اندلاع هذه الانتفاضة كان أسلوب التعامل هو نفسه، وجدناه في خطاب رئيس الجمهورية أمام الشعب، وفي خطاب رئيس الوزراء أيضا، حيث حفل الخطابان بالعديد من الخطط والمواعيد والتعهدات وفرص العمل والمشاريع المقترحة، وتبين أنها جميعا مجرد حبر على ورق، ولم يتم تنفيذ أي منها، لأنها ليست حلولا واقعية، ما يؤكد حالة العقم الأبدي الذي تعانية الطبقة السياسية، المعزز بحالة الطلاق التام مع الشعب، لذلك هم ذهبوا سريعا للخيار الأمني لأنه الأسهل، فملأوا الشوارع والساحات والأحياء بالجيش والشرطة وقوات مكافحة الإرهاب والتدخل السريع والميليشيات أيضا، بل بات من المؤكد وجود طرف ثالث يقمع الانتفاضة، كما صرح بذلك وزير الدفاع شخصيا، مدعيا بعدم وجود قرار بالتصدي للمتظاهرين كما حصل، وأن الغازات المسيلة للدموع التي استعملت لم تستورد من قبل الحكومة أيضا، ما يعزز فرضيتين كل واحدة منهما أسوأ من الاخرى. أما الطرف الثالث فقد يكون الميليشيات التابعة لإيران وأنها تستعمل الأسلحة الايرانية في التصدي للمتظاهرين، بضمنها الغازات المسيلة للدموع، أو أن الوزير حاول دفع التهمة والمسؤولية بإلقائها على طرف مجهول. وفي كلتا الحالتين فإن ذلك يشير إلى أن صانع القرار السياسي العراقي غير موجود إطلاقا، وأن الدولة بمؤسساتها العسكرية والأمنية والسياسية مجرد هياكل جوفاء لا حياة فيها.
وفي مقابل هذه الصورة المرتبكة، التي تحاول التهرب من المسؤولية، تظهر صورة الشباب المنتفضين بوجه حضاري يليق بالعراق، وبوعي فاجأ الكثير من المراقبين. لقد التفوا بالراية الوطنية العراقية، ولم يعد هنالك من صورة تشير إلى الانتماءات الدينية والعشائرية والطائفية والإثنية. فشكلوا في ساحة التحرير وساحات المحافظات الثائرة مجتمعا عراقيا منسجما وموحدا. وعيا منهم بأن المجتمعات غير المنسجمة تنتج حروبا أهلية طاحنة، بينما المجتمعات المنسجة تنتح ثورات هدفها التغيير الجذري للواقع.
بهذه الروحية الوطنية العالية يتقدم مؤشر التظاهرات نحو النجاح، ويتصاعد الخط البياني للثورة، فتتشكل استراتيجية جديدة لحركة التظاهرات، مسارها التقدم للسيطرة على الجسور والساحات والشوارع داخل بغداد والمحافظات. وهي استراتيجية ذكية هدفها إحباط الخطط الحكومية بحصر الحراك داخل ساحة واحدة تمهيدا لنسيانه، أو لتطبيق خطة التآكل من خلال رصد الوجوه البارزة فيه، ثم التحرك لسحبهم رويدا رويدا من الساحة، بالاعتقالات أو بالخطف، أو بمساومتهم على عوائلهم. إن ترف المماطلة الحكومية باتجاه تنفيذ مطالب الشعب، يجب أن تحسمه التظاهرات، من خلال التصعيد الاحتجاجي السلمي، الذي سيجبر القوى الدولية للضغط على السلطة في بغداد، لتبني موقف واقعي يعتبر الانتفاضة قوة حقيقية لابد أن تتشكل منها معادلة سياسية جديدة في البلاد، تلغي تماما التوازنات السياسية التي استمرت تحكم منذ عقد ونصف العقد من الزمن.
إن التحدي الذي تبديه التظاهرات العراقية مازال يكتسب المزيد من الدعم والتأييد والتصميم، وإن استمرار التواجد الفاعل في الشارع، سوف يدفع بالمزيد من الانصار كي يلتحقوا بالانتفاضة، كما أنه سيحرج المجتمع الدولي الذي مازال حتى اليوم يتناول القضية العراقية بتصريحات خجولة، تعيق انطلاقتها الأطماع الاقتصادية والسياسية، كما أن وصول شرارة الثورة إلى بيت المرشد الاعلى الايراني، يمنح المنتفضين شعورا بأنهم ليسوا الوحيدين في ميدان مواجهة نفوذ النظام الايراني وأدواته المتحكمة برقاب الشعب وقوته.
القدس العربي