بعد إحباط “المؤامرة” حسب تعبير المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي والممولة من الخارج، وما تخلل ذلك من استخدام مفرط للقوة والقمع والأعداد الكبيرة للقتلى والمعتقلين والمحتجزين. يبدو أن المرحلة الثانية من مواجهة المؤامرة، وإن كان توقيتها متأخرا، قد بدأت وأُعطي الضوء الأخضر للشروع فيها، وهذه المرة تستهدف تنظيف البيت الداخلي، خصوصا داخل الحكومة التي يرأسها حسن روحاني، فيما يشبه تصفية حسابات بين تيار الرئيس والتيار المنتصر في معركة مواجهة المطالب الشعبية.
لم يكن من الصعب على أي متابع لتطورات السياسية الداخلية الإيرانية أن يدرك وجود تباين واضح وجلي بين موقف روحاني وحكومته والإدارة التي يرأسها وبين مراكز القرار في النظام حول إدارة الأزمة الأمنية والاقتصادية التي نتجت عن قرار رفع أسعار الوقود (البنزين) وغياب الخطط الاستباقية لما يمكن أن يحدث نتيجة ذلك، فيما يشبه صراعا بين رؤيتين في إدارة البلاد، كل منها ترى في الأخرى، نقيضا لها في استحواذ على السلطة ومراكز القرار في النظام، وتسعى لإحراج الطرف الآخر على حساب المصالح القومية العامة واستقرار الأمن والنظام.
حدة الصراع داخل أروقة النظام، خصوصا التيار المقابل للرئيس، الذي يمثل الجهة الممسكة بالمفاصل السياسية والأمنية والاقتصادية، أجبرت المرشد الأعلى للدخول مبكرا على مسار المواجهة من خلال ترجيح طرف على آخر، في الجدل حول قرار رفع الأسعار، مستفيدا من سلطته الحاسمة في القرارات الاستراتيجية عندما أكد تبنيه هذا القرار، لكنه وجه في الوقت نفسه اللوم والانتقاد لإدارة روحاني وحكومته بسبب ضعف أدائها في التمهيد لهذا الإجراء لدى شرائح المجتمع الإيراني. ما دفع المرشد ومعه المؤسسات العسكرية والأمنية إلى التصدي للمخاطر الناتجة عن هذا الإجراء في وقت اكتفت الحكومة بمواكبة التطورات والمواقف.
يمكن القول إن روحاني ومعه البرلمان، أي السلطتين التنفيذية والتشريعية، كانا مغيبين بوضوح عن المناقشات التي تمت خلف الكواليس بين “بيت” المرشد والمؤسسة العسكرية والأمنية، وإن دورهما اقتصر على توفير الغطاء الإداري والسياسي لهذا الإجراء في الجلسة التي عقدت للسلطات الثلاث (معهما القضائية) وشاركت فيها الأجهزة العسكرية بحضور المرشد، الذي اتخذ القرار النهائي برفع الأسعار بشكل حاسم ومن دون أي فرصة للاستمهال أو التأخير لتهيئة الأرضية الاجتماعية الضرورية ووضع الآليات الإدارية والاقتصادية اللازمة لذلك، بحيث جاءت ردة الفعل الأبرز من بعض نواب البرلمان الذين اعترضوا على الإجراء وقدموا مشروع قانون معجل مكرر لإبطال القرار التي تكفلت الحكومة الإعلان عنه، ما استدعى تدخلا مباشرا من المرشد الذي قطع الطريق على هذا التحرك وأرسل ممثله في المجلس الأعلى للأمن القومي وأمينه الأدميرال علي شمخاني لضبط إيقاع البرلمان وقطع الطريق على أي تحرك لأنه سيكون بمثابة عصيان قرارات المرشد الأعلى الذي وافق على هذا القرار بنفسه.
بعد إعلان “الانتصار” على المؤامرة الخارجية، بدأت معركة تصفية الحسابات الداخلية مع روحاني ورئيس البرلمان علي لاريجاني، وهي معركة يقودها التيار المحافظ من جهة، ويستفيد منها بنسبة أقل تيار روحاني على حساب لاريجاني الذي بدأت الهوة بينه وبين التيار المحافظ بالاتساع وقد تؤدي إلى إطاحته في الانتخابات البرلمانية المقبلة. وأول رصاصات هذه المعركة إصابة وزير الزراعة محمود حجتي الذي يعتبر الوزير الأكثر إنتاجية في الحكومة والذي استطاع أن يضع إيران وفي ظل الأزمة الاقتصادية التي تعانيها جراء العقوبات الأميركية على خريطة الاكتفاء الذاتي في إنتاج القمح وعلى اعتباب الاكتفاء في إنتاج الأرز والسكر، ويبدو أن التيار المحافظ استطاع هذه المرة تحقيق انتصار على روحاني إذ أجبر الوزير على الاستقالة قبل ساعات من استجوابه في البرلمان، بعد فشل عدة محاولات سابقة، خصوصا أن “حجتي” يمثل الإرث الثقيل للمرحلة الخاتمية التي شغل فيها أيضا المنصب نفسه، وعدم قدرة هذا التيار على تحمل نجاحات تكشف عورة فشل الوزراء الذين يتنتمون إلى معسكره في إدارة الوزارات التي شغلوها ويشغلونها.
مساعي تعرية روحاني وسحب الأوراق الناجحة في إدارته للأزمات الأمنية والاقتصادية يبدو أنها ستستهدف هذه المرة وزير الداخلية الجنرال السابق في حرس الثورة رحماني فضلي الذي يعتبر من الوزراء المحسوبين على رئيس البرلمان علي لاريجاني، ومن هنا يأتي الربح النسبي الذي قد يحققه روحاني الذي اعتبر منذ البداية أن وصول رحماني فضلي إلى هذا الموقع جاء نتيجة ضغوط من التيار المحافظ الذي كان لاريجاني مازال يحتفظ ببعض نفوذ داخله، وأن استبعاده هذه المرة سيلبي رغبة لدى التيار المحافظ في محاصرة لاريجاني من جهة وتحميل إدارة روحاني جانبا من المسؤولية عن الأحداث التي شهدتها إيران أخيراً في أزمة المحروقات، خصوصا أن التهمة التي قد توجه له قد تدور حول إهماله في إدارة الأزمة وعدم وجود خطط أمنية استباقية للتعامل مع تداعيات هذا القرار فضلا عن فشله في إدارة ملف مكافحة ملف تهريب المشتقات النفطية إلى دول الجوار الإيراني، ومن المحتمل أيضا أن ترفع في وجهه ورقة تهريب الأسلحة التي تقول أجهزة حرس الثورة الأمنية أنها استطاعت على مدى الأشهر الماضية من مصادرتها عند المنافذ البرية والبحرية، التي جرى استخدامها من قبل بعض “مثيري الشغب” في الأحداث الأخيرة التي كانت تهدف إلى الانقلاب على النظام.
الأخطر في هذه المواجهة التي يعتبر فيها روحاني الطرف الأضعف، هي المساعي التي يبذلها نواب التيار المحافظ لاستجواب وزير النفط بيجان نامدار زنغنه، وقد تكون هذه المرة هي الأصعب في مسار طويل من محاولات هذا التيار لاستهداف هذا الوزير الذي يعتبر “صفوة” وزراء حكومة روحاني في رئاسته الأولى والثانية، وبغض النظر عن الأسباب المعلنة لاستجوابه التي تتمحور حول محاسبته على قرار إلغاء تقنين البنزين وفشله في مكافحة التهريب المشتقات النفطية، وفشله في عقد اتفاقيات لإدارة الحقول المشتركة مع الدول المجاورة، إلا أن السبب الحقيقي يكمن في الإنجازات التي حققها هذا الوزير في إدارة ملف العقوبات النفطية مع المجتمع الدولي التي عرقلت مساعي وجهود إسقاط حكومة روحاني، وبالتالي تحميله مع وزير الداخلية مسؤولية ملف تهريب النفط في وقت تخضع فيه الحدود البرية والبحرية وحتى الجوية لسلطات مؤسسة حرس الثورة التي لا تخضع لسلطة وإشراف الحكومة وإدارتها ومؤسساتها.
يبدو أن الأحداث الأخيرة والتحديات التي فرضتها على النظام، قد تدفع بعض القوى المحافظة للتراجع عن جهودها إطاحة روحاني، وأن تفرض عليها تغييرا في استراتيجيتها من خلال اللجوء إلى حرمان روحاني من أوراق قوته في هذه المواجهة المفتوحة التي تتخذ في كل مرحلة أشكالا مختلفة، في إطار معركة مصالحها بغض النظر عن التلاعب بمصير النظام ووضعه على شفير الانهيار.
اندبندت العربي