محاولة الاتحاد الأوروبي أن يلعب دورا في صراعات شرق البحر المتوسط فشلت قبل أن تبدأ عمليا. القوة الاقتصادية والتجارية العالمية التي ما تزال قزما سياسيا، تلقت ردا باردا من موسكو، على الدعوة إلى عقد قمة رباعية بشأن إدلب، تضم ألمانيا وفرنسا وروسيا وتركيا. موسكو قالت إنها غير معنية بالدعوة، وتعمل على لم شمل القوى الثلاث المعنية بسوريا (روسيا وإيران وتركيا) في قمة يجري الإعداد لها، في حين إن الرئيس التركي إردوغان قال إنه قد يلتقي نظيره الروسي في اليوم نفسه، الذي كان قد تحدد لعقد القمة الرباعية وهو الخامس من مارس/ آذار المقبل.
وكانت شهية الاتحاد الأوروبي للتحول إلى قوة سياسية وعسكرية، قد تفتحت في الأشهر الأخيرة. وكان آخر المبادرات في هذا الاتجاه الدعوة إلى قمة رباعية تضم أنغيلا ميركل، وإيمانويل ماكرون، مع كل من فلاديمير بوتين ورجب طيب إردوغان، للبحث في تسوية للأزمة الحالية في إدلب. هذه هي المبادرة الثانية لاستخدام آلية (قمة رباعية) أو (قمة ثلاثية +) منذ قمة فرنسا بشأن أوكرانيا في ديسمبر الماضي، بمشاركة ميركل وماكرون وبوتين وزيلينسكي. وقد أسفرت تلك القمة عن تفاهمات لتقليل احتمالات المواجهة بين القوات الروسية والأوكرانية، إضافة إلى تبادل الأسرى، ووضع ترتيبات لضمان التهدئة على الحدود.
وكان من المقرر أن تنعقد القمة الرباعية بشأن إدلب في الخامس من مارس المقبل، بعد أن وافق بوتين وإردوغان على حضورها، لكن هذه القمة تبخرت الآن بعد تفاهم جديد بين تركيا وروسيا. وطبقا للترتيبات السابقة، فإن جدول أعمال القمة التي اقترحتها فرنسا وألمانيا كان يتضمن نقطتين أساسيتين هما، معالجة الوضع الإنساني «الكارثي» على الحدود التركية – السورية حسب تعبير الرئاسة الفرنسية – ومواجهة خطر التصعيد العسكري في إدلب.
ويتضح من مضمون الدعوة الألمانية – الفرنسية، أن الدولتين اللتين تقودان الاتحاد الأوروبي، كانتا تحاولان من جديد إحياء خطة كانت قد تقدمت بها ألمانيا إلى وزراء الدفاع والخارجية لحلف شمال الأطلنطي في أكتوبر 2019، دعت فيها إلى إقامة (منطقة آمنة) في شمال سوريا بمشاركة روسية «لحماية المدنيين مع ضمان استمرار القتال ضد تنظيم الدولة الإسلامية». وقد توقفت ألمانيا عند ذلك الحد، ولم تتحرك خطتها بوصة واحدة منذ ذلك الوقت.
قادة الاتحاد الأوروبي في اجتماعهم الأخير في بروكسل قرروا الدخول على خط إدلب من بوابة الحل الإنساني
السعي لقوة أوروبية مستقلة
المسعى الألماني للقيام بدور سياسي – عسكري خارج حدود حلف الأطلنطي يمثل جزءا من سياسة أوروبية جديدة، تطمح إلى بناء قوة عسكرية أوروبية مستقلة (جيش أوروبي)، وتوحيد السياسة الخارجية لدول الاتحاد، بما يضع أوروبا على المسرح الدولي، كقوة قادرة على الفعل. وقد عبّر عن هذا الطموح أخيرا، المفوض الأوروبي للشؤون الخارجية والسياسة الأمنية جوسيب بوريل في مؤتمر ميونيخ للأمن هذا الشهر، داعيا إلى ضرورة أن «يطور الاتحاد الأوروبي (شهية للقوة) تساعد على الفعل واتخاذ مواقف في الاوضاع الاستراتيجية على حدوده». وتعلم أجهزة صنع السياسة الخارجية في دول الاتحاد الأوروبي أنها تعاني من ضعف شديد في مواجهة الأزمات الدولية، بما في ذلك التي تؤثر على مصالحها مثل، الصراع العربي الإسرائيلي، وأمن الخليج والعلاقات مع إيران والموقف من فنزويلا، إضافة إلى الأوضاع في ليبيا وسوريا. وفي سياق العمل على تحويل الطموح الأوروبي إلى واقع، فإن ألمانيا دعت إلى عقد قمة بشأن السلام في ليبيا، واستضافتها في برلين في 19 يناير الماضي، بعد أن ظلت الشكوك تطاردها وتقلل من احتمالات انعقادها. وعلى الرغم من أن القمة فشلت في تحقيق اتفاق على هدنة دائمة في طرابلس، أو الضغط لضخ البترول، واستئناف تصديره، فإنها نجحت في خلق آلية للحوار، وتشكيل لجنة للمراقبة العسكرية من الطرفين المتحاربين، والدعوة إلى أن تستأنف الأمم المتحدة دورها في رعاية تسوية سياسية توقف القتال وتعيد الاستقرار.
ومن أجل العمل على إنجاح نتائج مؤتمر برلين، قرر الاتحاد الأوروبي تولي مسؤولية القوة المنفذة لقرار مجلس الأمن المتعلق بحظر التسليح. وتمت الموافقة على تسيير دوريات بحرية وجوية أوروبية، في الأجواء والمياه الدولية لمنطقة شرق المتوسط، بغرض فرض الالتزام بالقرار، بعد أن تخلت النمسا عن معارضتها لمثل هذا الدور.
الاعتبارات الإنسانية في إدلب
تم طرح الوضع في إدلب للتشاور على مائدة اجتماعات قادة دول الاتحاد الأوروبي، في قمتهم الأخيرة في بروكسل (20 و21 فبراير)، بعد أن تلقت تركيا إشارات من واشنطن بأن الولايات المتحدة، وإن كانت تؤيد تركيا باعتبارها دولة عضو في حلف الأطلنطي، إلا أنها ليست على استعداد للتورط في الحرب، والدفع بقوات إضافية داخل سوريا. وقد تأكد هذا التوجه الأمريكي بشكل غير مباشر في تصريحات أدلى بها وزير الخارجية مايك بومبيو (2 فبراير) وفي الزيارة التي قام بها السفير جيمس جيفري المسؤول عن الملف السوري في وزارة الخارجية الأمريكية لتركيا (11 فبراير). ويتردد أن تركيا طلبت من الولايات المتحدة تزويدها ببطاريتين من أنظمة الدفاع المضادة للطائرات المتطورة من طراز (باتريوت) بما يساعدها على استخدام طائرات إف- 16 في عملياتها العسكرية في إدلب. وليس من المعروف ما إذا كان إعلان هذا الطلب هو من باب الضغط على روسيا، أو من باب اختبار المدى الذي يمكن أن تذهب إليه تركيا في الاطمئنان إلى الدعم العسكري الأمريكي.
قادة الاتحاد الأوروبي في اجتماعهم الأخير في بروكسل قرروا الدخول على خط إدلب من بوابة الحل الإنساني، والدعوة إلى عدم التصعيد العسكري. ومن المرجح أن قيادة الاتحاد الأوروبي كانت تعتزم إعادة طرح الاقتراح الألماني، بإقامة منطقة آمنة تتسع لأكثر من مليون من اللاجئين والنازحين السوريين، الذين شردتهم الحرب. كما ستجتهد كل من ألمانيا وفرنسا في تقديم اقتراحات لوقف التصعيد، وهي مهمة صعبة في ظل تصلب موقف كل من الطرفين الروسي والتركي. وكانت دول الاتحاد الأوروبي قد تعهدت بتقديم دعم مالي لتركيا في عام 2016 بقيمة 6 مليارات دولار، من أجل المساعدة على استضافة المهاجرين. لكن أعداد المهاجرين والنازحين زادت يوما بعد يوم، مع تدهور الوضع العسكري في شمال غرب سوريا، الأمر الذي يهدد بأزمة مهاجرين عبر الحدود الأوروبية، إذا فشلت الجهود الحالية في وقف التصعيد، وتوفير الوسائل الكفيلة باستيعاب المهاجرين والنازحين.
ويتفق الاقتراح الأوروبي مع المشروع التركي المتعثر لإقامة (منطقة سلام) حسب تعبير إردوغان على الحدود التركية – السورية، في المنطقة التي تسيطر عليها القوات التركية حاليا، والممتدة بطول 120 كيلومترا وبعمق نحو 35 كيلومترا. كما أن الولايات المتحدة، لا تمانع في إقامة مثل هذه المنطقة، لكنها من المرجح ألا تشارك في تمويلها، لكن الاقتراح الأوروبي يصطدم برؤية روسيا للتسوية النهائية في سوريا، التي يجب أن تقوم على أسس الالتزام بسيادة سوريا، واستقلالها ووحدة أراضيها، تأكيدا لاتفاق سوتشي عام 2018، وما تضمنه البيان الأخير عن اجتماع وزراء خارجية الدول الثلاث روسيا وتركيا وإيران، الصادر في 29 أكتوبر 2019.
خلاف أوروبي – روسي
تتضمن رؤية برلين لتسوية الوضع في سوريا، ألا تنفرد كل من الدولتين، روسيا وتركيا، وحدهما بوضع وتنفيذ التسوية التي تروق لهما. وتوجه ألمانيا انتقادات إلى اتفاق سوتشي، وإلى صيغة مفاوضات أستانة، كما أنها لا توافق أيضا على تسيير دوريات على الحدود التركية – السورية بدون مشاركة ألمانيا والاتحاد الأوروبي. ومن المرجح أن هذا الخلاف هو أحد العوامل التي نسفت القمة الرباعية بشأن إدلب التي لم تنعقد لأن روسيا لن تقبل بتدخل عسكري اوروبي، لأن ذلك قد يسفر عن تعقيد الموقف أكثر، كما أن روسيا لن تقبل بإقامة منطقة آمنة تقتطع من سيادة الحكومة السورية، ولا باستمرار وجود جماعات إرهابية مثل فلول «القاعدة» و»داعش». ولا ترى روسيا أن اللاجئين هم جوهر الأزمة الحالية في إدلب، وأن حل المشاكل الإنسانية هناك يمكن تحقيقه فقط في إطار تسوية سياسية تراعي شرطين أساسيين، هما عدم انتهاك سيادة واستقلال سوريا ووحدة أراضيها، وعدم السماح ببقاء الجماعات والعناصر الإرهابية على الأراضي السورية. ومن الصعب تصور ان تقبل روسيا بأقل من ذلك، على أن يتم التقدم على طريق التسوية من خلال اتفاقات سوتشي وعملية أستانة السياسية، وضرورة إزالة كل المعوقات التي تحول دون ذلك.
للمرة الثانية يفشل الاتحاد الأوروبي في الدخول على خط الصراع على سوريا، بعد محاولة ألمانيا الفاشلة في أكتوبر الماضي، عندما أرادت ان تشارك في ملء الفراغ العسكري الذي خلفه انسحاب القوات الأمريكية من قواعدها على الحدود السورية – التركية.
إبراهيم نوار
القدس العربي