تعدّدت في الأشهر الخمسة الماضية المؤشرات والاعتبارات التي تجعل التوقيت الراهن مثاليا لتوجيه ضربة عسكرية تقودها الولايات المتحدة الأميركية ضد إيران، ويمكن التمييز بين مستويين أساسيين: المؤشرات الراهنة، والدوافع والمحفزات:
المؤشرات الراهنة. أولاً: التحرّكات العسكرية الأميركية خلال الأشهر الأخيرة، وقد شملت، من ضمن ما شملته، الإعلان عن مقتل قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني، في 3 يناير/ كانون الثاني 2020، وما تلا ذلك من تحرّكات عسكرية أميركية في محافظات عراقية، والقيام بطلعات جوية فوق مناطق جنوب كركوك وشرق صلاح الدين وديالى وغرب الأنبار وشمال بابل وغرب كربلاء، وهي مناطق معسكرات رئيسية لفصائل الحشد الشعبي. ثم اتجاه الولايات المتحدة، في مرحلة تالية، إلى تسليم قواعد عسكرية لها في العراق (في كركوك والقيارة والموصل)، إلى القوات العراقية، وهي المناطق التي يسهل استهدافها من القوات الإيرانية أو الموالين لها، والتمركز في قاعدتي الأسد (الأنبار)، وحرير (أربيل)، ونشر بطاريات صواريخ باتريوت فيها لتعزيز حمايتها.
ويدخل كذلك ضمن هذه التحرّكات الأميركية إعلان واشنطن في 8 مايو/ أيار 2020، عن سحب أنظمة صواريخ باتريوت وعدد من الطائرات المقاتلة من الأراضي السعودية. وعلى الرغم من التصريحات الأميركية التي صاحبت هذا الإعلان، من قبيل “أن إيران تشكل تهديداً أقل
“الوقت الراهن هو المثالي فعلياً لتوجيه ضربة عسكرية أميركية لإيران، وهذا لا يعني شن الضربة عملياً”الآن”، فإنه يمكن أن يفهم في تفسير عكسي، وهو العمل على تجنيب هذه الأنظمة الاستهداف الإيراني، في حال نشوب المواجهة بين الطرفين، وليس كما ذكر كثيرون أنه يأتي في سياق خلافات سعودية ـ أميركية، أو كعقاب أميركي للرياض، أو أنه تلبية لدعوات إيرانية للولايات المتحدة، بضرورة إخراج قواتها من المنطقة، وهي تفسيرات غير دقيقة، وتعكس رؤيةً محدودة لتطورات الأحداث في المنطقة، وكذلك لطبيعة العلاقات بين كل من أميركا وإيران من ناحية، أو أميركا والسعودية من ناحية ثانية.
ثانياً: تداعيات الأزمة النفطية أخيرا بين عدد من الأقطاب المنتجين للنفط، وفي مقدمتهم روسيا والسعودية والولايات المتحدة وإيران، وتأثيراتها شديدة السلبية على اقتصاديات إيران وروسيا والسعودية تحديداً، في ظل اعتمادها الرئيس على عائدات النفط، وهو ما يزيد من التحدّي الداخلي للنظام الإيراني، ومن حجم الغضب الداخلي على سياساته.
ثالثاً: تداعيات أزمة كورونا على البيئة الدولية الراهنة بشكل عام، وعلى أطراف الأزمة الأميركية ـ الإيرانية، المباشرة أو غير المباشرة، فإيران من الدول التي وصفت بالموبوءة، وعانت معاناة كبيرة من تفشّي الفيروس في مختلف ولاياتها، وكذلك تفاقم الأضرار الصحية والاقتصادية للوباء في الدولتين الحليفتين الرئيستين لها، روسيا والصين.
وفي سياق هذه التداعيات، أيضاً تراجع حجم التبادل التجاري الدولي، وعدم محورية مضيق هرمز، في بنية هذه التجارة الآن، وانشغال كل الدول بشؤونها الداخلية في مواجهة تداعيات الوباء، والمضيق يُشكل الورقة التي دائما ما كانت تستخدمها إيران، وتناور بها في مواجهة دول الخليج، وفي مواجهة حركة الملاحة الدولية.
رابعاً: التحرّكات الأميركية أخيرا في اتجاه الدفع بالمصالحة الخليجية، وتسوية الأزمة التي نشبت على خلفية حصار قطر في يونيو/ حزيران 2017، وذلك بهدف حشد كل شركائها في المنطقة في مواجهة إيران، وضمان التنسيق العملياتي والاستراتيجي بينها.
خامساً: السعي الأميركي إلى استثمار حالة القلق الإيراني الكبير وعدم الاستقرار الداخلي، لاعتبارات اقتصادية (أزمة النفط)، أو صحية (أزمة كورونا)، أو أمنية (اغتيال أهم قادتها العسكريين قاسم سليماني)، أو خارجية (أزمات الحلفاء الاستراتيجيين إقليمياً سورية والعراق، ودولياً روسيا والصين).
وفي إطار المؤشرات السابقة، تبرز اعتبارات تشكل دوافع أو محفزات للضربة الأميركية في هذا التوقيت، منها:
أولا، الانتخابات الأميركية التي ستجرى في نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، وتأزم موقف الرئيس
“ليس صعباً أن يتم جر إيران إلى ضرب أحد المصالح الأميركية في المنطقة، واستخدام ذلك سندا أميركيا للهجوم”ترامب في ظل تداعيات أزمة كورونا، وسعي ترامب إلى تصدير أزماته الداخلية إلى الخارج، عبر شن عملية عسكرية من شأنها حشد المواطنين خلف قيادتهم في هذه المواجهة، خصوصا إذا كان العدو هو إيران التي تتم شيطنتها في الداخل الأميركي منذ ثورتها في 1979.
ثانيا، نجاح الإدارة الأميركية في الأعوام القليلة الماضية في استهداف القدرات الاستراتيجية والبنية التحتية لعدد من أذرع إيران في المنطقة، في العراق وسورية ولبنان، وتحجيم الأخطار التي يمكن أن تنجم عن ردود فعلها تجاه الاستهداف الأميركي لإيران.
ثالثا، شبكة القواعد العسكرية الأميركية التي تم نشرها في كل دول الجوار الجغرافي تقريباً لإيران، شرقها وغربها، شمالها وجنوبها، بجانب الأساطيل العسكرية الأميركية التي تهيمن على المسطحات المائية المحيطة بإيران (الخليج العربي أو بحر العرب)، أو القريبة منها (البحر المتوسط أو البحر الأحمر)، هذه القواعد والأساطيل من شأنها تسهيل أي عملية عسكرية ضد إيران، وتصنع فارقاً هائلاً في الإمكانات والقدرات بين الطرفين.
رابعا، عدم القلق الأميركي من التكاليف المادية لهذه المواجهة، مع وجود الميزانيات المفتوحة من دول خليجية، لدعم أي عمل عسكري ضد إيران، مثل السعودية والإمارات، ووجود الاحتياطات المادية للدولتين في الولايات المتحدة، وبالتالي السحب على المفتوح لكل ما تحتاجه هذه العملية، وبالتالي لن تُشكل المواجهة عبئاً مادياً كبيراً على الميزانية الأميركية، كما حدث في كل الأزمات الخليجية السابقة، والتي كانت فرصاً للولايات المتحدة لابتزاز هذه الدولة وسلب مئات المليارات من الدولارات من أرصدتها.
خامسا، وجود الأرضية القانونية الدولية، من وجهة النظر الأميركية، لتوجيه الضربة العسكرية ضد إيران، وهي مبدأ الدفاع الشرعي عن النفس، وليس صعباً أن يتم جر إيران إلى ضرب أحد المصالح الأميركية في المنطقة، واستخدام ذلك سندا أميركيا للهجوم، وحتى إذا لم يتم جر إيران، فليس من الصعب أيضاً أن يقوم طرف ثالث بذلك، وتوجيه الاتهام لإيران وضربها، والتاريخ الأميركي الحديث والمعاصر شاهد على نماذج عديدة مشابهة لذلك.
ومن هنا، وأمام هذه المؤشرات وتلك المحفزات، يمكن القول إن الوقت الراهن هو المثالي فعلياً
“المتضرّر الأكبر دول المنطقة وشعوبها التي ستعاني على كل المستويات”لتوجيه ضربة عسكرية أميركية لإيران، إلا أن هذا لا يعني شن الضربة عملياً، لأن قرار الحرب يخضع لاعتبارات كثيرة غير محسوبة من كل الأطراف، وغير معلومة كذلك لمحللين كثيرين. وهنا تأتي أهمية التأكيد على أن الضربة فعلاً قريبة، وقد تكون وشيكة، بغض النظر عن حجمها أو أدواتها أو أطرافها. ومن ناحية ثانية، ستكون لهذه الضربة التي ينتظرها كثيرون أضرار كارثية عديدة على كثيرين أيضاً، والمتضرّر الأكبر دول المنطقة وشعوبها التي ستعاني على كل المستويات، فيما لن تتضرّر أميركا عسكرياً (بعد تحرّكاتها العسكرية الأخيرة)، أو مادياً (في ظل وجود المال السعودي ـ الإماراتي المفتوح على مصراعيه).
ومن ناحية ثالثة، إن أي عملية عسكرية ضد إيران لن تقف تأثيراتها وأضرارها على أطرافها أو دول جوار إيران فقط، ولكن ستكون لها آثار عديدة على مناطق وأقاليم متشابكة، في ظل شبكة النفوذ الإيراني في العالم، وهو ما من شأنه أن يزيد من حدّة التوترات الأمنية والصراعية على مستوى العالم.
عصام عبدالشافي
العربي الجديد