تركيا في عهد أردوغان .. لا “عثمانية جديدة”

تركيا في عهد أردوغان .. لا “عثمانية جديدة”

خلافًا للانطباع الشائع، لم يكفّ الجيش التركي عن اجتياز حدود الدولة التركية التي رُسمت بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية وهزيمتها في الحرب العالمية الأولى. اجتاز الجيش التركي الحدود السورية المتفق عليها آنذاك، واستولى على لواء الإسكندرون في سنة 1938، وتمكّن من ضمّ اللواء إلى ممتلكات الدولة التركية في 1939 بتواطؤ مع الاستعمار الفرنسي. واجتاز الجيش التركي حدود بلاده ثانية إلى جزيرة قبرص في سنة 1974، وتمكّن من تقسيم الجزيرة قسمين على أساس ديني، فأنشأ دولة للمسلمين القبارصة لم تعترف بها أي دولة، وفي سنة 2014 اجتاز الحدود السورية المتاخمة، وسيطر على مناطق واسعة في الشمال السوري بعد انحسار السلطة السورية عن تلك المنطقة. ثم أرسل الجيش التركي وحداتٍ منه إلى ليبيا في سنة 2019. وفي سنة 2020، كان الجيش التركي يتوغل في بعض مناطق العراق الشمالية، ويقيم مواقع ثابتة له هناك. ومن المرجّح، في حال استمرّت نزعة التدخل العسكري المباشر، أن يرسل الجيش قواته إلى اليمن وإثيوبيا والصومال وتشاد والنيجر وحتى إلى أذربيجان. والجيش التركي كان المؤسسة السياسية الوحيدة الفاعلة طوال حقبة مصطفى كمال (أتاتورك)، واستمر على هذه الحال بعد وفاته، وطوال مرحلة امتدت حتى وصول رجب طيب أردوغان إلى السلطة. وكانت تركيا البلد الوحيد الذي تنصّ قوانينه على أن من حق الجيش أن يتحرّك لتسلم السلطة التنفيذية ما إن تستجد ظروف تحتّم الإقدام على ذلك الخيار، ولا يُعدّ عمله هذا انقلاباً بل عملًا دستوريًا (المادة 35 من قانون المهمات الداخلية للجيش الذي جرى تعديله في عهد أردوغان).

أردوغان ليس من معتنقي فكرة “العثمانية الجديدة”. الرئيس الأسبق تورغوت أوزال صاحب الفكرة، وهي ليست عميقة لدى النخب السياسية التركية

ترتبط عودة تركيا إلى المشرق العربي اليوم بديناميات النهوض والبحث عن مكانة سياسية واقتصادية تتلاءم مع الموقع الجغرافي لتركيا، لا بما درج بعضهم على تسميتها “العثمانية الجديدة”، ولا بالنزوع إلى تأسيس إمبراطورية تركية جديدة، فتركيا دولة ناهضة. وبهذا المعنى، ليس غريبًا أن تتطلع إلى أن تكون دولة إقليمية تدور في فلكها منظمات وهيئات وأحزاب خارج حدودها، أو أن تتحول إلى دولة جاذبة لدول أخرى تحتاج حماية مثل ليبيا. واهتبال الفرص ليس عيبًا في السياسة، بل ربما كان قاعدةً في السياسات الدولية، إنما العيب، بحسب ما أرى، اغتنام ضعف دول الجيران لتحقيق مكاسب على حساب المصالح المشروعة لأولئك الجيران. إثيوبيا مثلاً، التي لها الحق في استغلال مياه النيل لمصلحة الإثيوبيين، عمدت إلى الانفراد بإنشاء سد النهضة، وهو من حقوقها بالطبع، من دون مراعاة مصالح مصر والمصريين والسودانيين، وهي لم تكن لتجرؤ على مثل هذا التصرّف في عهد الزعيم جمال عبد الناصر. وحزب العدالة والتنمية في تركيا الذي كان قد صاغ شعار “مشكلات صفر مع دول الجيران” حين كانت سورية قوية والعراق وإيران واليونان كذلك، ها هو اليوم ينتهز واقع الحال المتردّي في معظم بقاع العالم العربي، ولا سيما في العراق وسورية وليبيا، وكذلك الضعف اليوناني بعد الأزمة المالية الطاحنة التي لم تخرج اليونان من تحت رحاها، فيقتنص ما أمكن من الغنائم النفطية والأمنية والاستراتيجية.
إن منظّر النهوض التركي ليس أردوغان بل الخوجا أحمد داود أوغلو الذي صاغ كتاب “العمق الإستراتيجي: موقع تركيا ودورها في الساحة الدولية” (بيروت: الدار العربية للعلوم، 2011). غير أن داود أوغلو الذي أقصاه أردوغان، خارج حزب العدالة والتنمية، أكاديمي جيد، لكنه سياسي فاشل، لأنه لم يتمكّن من المحافظة على موقعه رئيسا للوزراء، وفشل في تطبيق نظرياته، مع أنه كان يتطلع إلى أن يكون “كيسنجر تركيا”. غير أن السياسة الخارجية التركية بعد أحمد داود أوغلو هي، في بعض وجوهها، تشبه سياسة الرئيس الأميركي، ترامب، التهديدية، فهي لا تتورّع عن استعمال ورقة اللاجئين الموجودين في أراضيها أو في ليبيا لابتزاز أوروبا، والتهديد بالتمدّد نحو عمق أفريقيا (تشاد والنيجر والصومال)، علمًا أن أردوغان حصل على عشرات المليارات من الدولارات للإنفاق على اللاجئين لديه، وظل يهدّد بتركهم يعبرون الحدود نحو اليونان، ثم إلى أوروبا.

ترتبط عودة تركيا إلى المشرق العربي اليوم بديناميات النهوض والبحث عن مكانة سياسية واقتصادية تتلاءم مع الموقع الجغرافي لتركيا

ورث أردوغان حكم تركيا التي كانت دولة – سمسار (Broker) في عهد نجم الدين أربكان، وفي فترة سيطرة الجيش على الحياة السياسية في البلاد، غير أنه تمكّن من تحويلها إلى دولة – مضارب speculator بعد بعض الانتفاضات الاحتجاجية العربية التي انحدرت بسرعة نحو حروب أهلية. وكان أردوغان يلعب لعبة الأكورديون، فيقترب من إسرائيل مرة لعل ذلك يفتح له أبواب الغرب على مصاريعها، ثم ينثني إلى الاقتراب المعاكس من الدول العربية مرة ثانية لابتزاز الولايات المتحدة الأميركية وأوروبا في شأن المشكلة القبرصية، أو لتغيير الموقف السلبي من عضوية تركيا في الاتحاد الأوروبي. وفي خضم هذا التقدم والتراجع والالتفاف والدوران، كانت عيناه ترمق شرق الفرات باستمرار، حيث يوجد النفط والغاز والقمح والقطن والثروة الحيوانية الوفيرة، وكذلك الأكراد.
في عهد أردوغان، صارت تركيا لاعبًا مهمًا في الشرق الأوسط، لكنها باتت، في الوقت نفسه، بلدًا مزعجًا لألمانيا لامتلاكه ورقة اللاجئين، ولليونان وقبرص وإيطاليا وفرنسا بسبب ليبيا ونفطها، فضلاً عن المشكلة القبرصية القديمة، ومزعجًا لروسيا وإيران جرّاء التدخل في سورية، ومزعجًا للعراق بسبب التوغل في الأراضي العراقية، بذريعة القضاء على مقاتلي حزب العمال الكردستاني، ومزعجًا لمصر والسعودية والإمارات لاحتضانه جماعة الإخوان المسلمين، ولتهديده الموقع التقليدي لمصر والسعودية في المنطقة العربية كدولتين رئيستين. والواقع أن ما كان معترفًا به لمصر في السابق ما عاد صالحًا اليوم بعد الضمور المصري في جميع الميادين.
الأتراك والعرب
حين اندلعت الحرب العراقية – الإيرانية في سنة 1980 “صدحت” نغمة العداء للفرس والحض على قتالهم وكراهيتهم. ومع صعود إرهاب “داعش” وجبهة النصرة وفتح الإسلام وجيش الإسلام وجيش الخلافة (وغيرها من الكائنات الغريبة والمخلوقات العجيبة)، صرنا نقرأ في بيانات هؤلاء عبارة “الصفويين” للإشارة إلى الشيعة. واليوم، في معمعان ما يجري في ليبيا، عادت نغمة تركيا العثمانية و”العدو التركي” إلى الطنبور العربي. ومع أن جميع هذه العبارات إنما تُستعمل في الدعاية المضادّة، لا بمعناها العلمي والتاريخي، إلا أن من شأن هذا التداول أن يصرف الأذهان عن وقائع الأمور. فلا أردوغان عثماني، ولا الإيرانيون صفويون؛ ففيهم زرادشتيون وسريان وإيزيديون وبهائيون وسُنّة وأرمن وطوائف أخرى. والريبة العميقة بين العرب والترك والفرس تاريخية، لكنها، للأسف، لم تصبح من مخلفات التاريخ، فالأتراك يحمّلون العرب مسؤولية هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى بعد انقلاب الشريف حسين بن علي عليهم وتحالفه مع بريطانيا، ويتناسون أن الدولة العثمانية كانت قد بدأت شيخوختها في أواخر القرن السابع عشر، ثم تحولت منذ النصف الأول للقرن التاسع عشر إلى الرجل المريض، وأورثتنا، نحن العرب، لا الطورانية وحدها التي جعلت العرب ينفرون من الدولة العثمانية، بل البلايا التي خلفتها لنا هزيمتها المدوّية في الحرب العالمية الأولى.
الأساس الأعمق في الشك والريبة بين العرب والترك هو السياسة الطورانية التي ألجأت العرب والقوميات الأخرى، كالأرمن واليونان، إلى التفكير بطرائق عدة للخلاص من ظلم القوميين الأتراك. وزاد على ذلك الشك اختلاط تاريخ “جمعية الاتحاد والترقي” بما راج عن نفوذ يهود الدونمة في هذه الجمعية التي انتمى إليها في البداية عربٌ كثيرون، ثم أُعجب عرب كثيرون بحركة مصطفى كمال (أتاتورك) القومية العلمانية، ما دعا أحمد شوقي إلى وصفه بخالد بن الوليد حين قال:
الله أكبر كم في الفتح من عجبٍ/ يا خالدَ التُرك جدّدْ خالدَ العربِ

في معمعان ما يجري في ليبيا، عادت نغمة تركيا العثمانية و”العدو التركي” إلى الطنبور العربي

في التاريخ العربي – التركي، خصوصًا بعد إعلان الدستور العثماني في سنة 1908، حدث مهم أن جمعية الاتحاد والترقي تحوّلت من جمعية عثمانية إلى جمعية تركية، وجرى إقصاء الموظفين العرب الكبار عن مراكزهم، ولم يُعيّن أي عربي في الوظائف العامة في سورية والعراق. فمن بين 215 شخصًا ممن شغلوا منصب الصدر الأعظم (رئاسة الوزراء) كان هناك ثلاثة من العرب فقط، في مقابل 78 تركيًا و31 ألبانيًا. أما أمراء البحر (أميرالات الأساطيل) فلم يكن بينهم أي عربي قط. وجرى إحلال اللغة التركية في محل اللغة العربية في الولايات العربية، الأمر الذي أدّى إلى انحطاط العربية، واحتاجت ما لا يقل عن قرن لإعادة إحيائها. وكانت ولاية حلب تضم في القرن السادس عشر 3200 قرية، لم يبقَ منها في القرن الثامن عشر إلا 400 قرية. والأمر نفسه ينطبق على ولاية طرابلس التي كانت تضم في القرن السادس عشر 3000 قرية، فانحطت في القرن الثامن عشر إلى 400 قرية أيضًا. لهذا تكثر أسماء الخِرَب في هاتين الولايتين وفي كثير من مناطق سورية. والمغرمون بالتاريخ العثماني، على أهميته الكبيرة وعلى أهمية الدولة العثمانية معًا، يتناسون أن الدولة العثمانية، في ذروة اقتدارها، لم تنجد الأندلس قبيل سقوطها في 1492. وقد احتل نابليون بونابرت مصر في 1798، وزحف على فلسطين، ولم تتحرّك تركيا التي كانت حليفة لفرنسا آنذاك. والطاعون هو الذي هزم نابليون أمام أسوار عكا. أما ما أخرجه من مصر فهو بريطانيا لا السلطنة العلية. وسكتت الدولة العثمانية سكوتًا مريبًا على احتلال فرنسا للجزائر في 1830، وعن احتلال فرنسا لتونس في 1881. ووقفت الدولة العثمانية عاجزة عن القيام بأي ردة فعل حين تخلت فرنسا عن مصالحها في مصر لإنكلترا في 1882 لقاء إطلاق أيدي فرنسا في مراكش التي احتلتها كلها في 1909، وظلت السلطنة تنظر ببلاهة إلى ما يجري. وكانت قناة السويس قد حُفرت في 1869 من دون أي حضور عثماني، ورغمًا عن إرادة الدولة العثمانية التي بدت شديدة العجز عن حماية مقاطعاتها العربية.
الانقلاب الاجتماعي
مهما يكن أمر التاريخ والماضي، فإن الواقع الحاضر هو الأكثر أهمية وحيوية. والواقع الحاضر يخبرنا أن وصول رجب طيب أردوغان إلى قمة هرم السلطة في تركيا شكل انقلاباً اجتماعيًا. أي أن ذلك الانقلاب جاء في سياق صعود قادة الفئات الشعبية إلى مصاف النخب الحاكمة، وانحسار النخب ذات الطابع الأوروبي الحديث عن مؤسسات الحكم، ففي تركيا تحوّلت نخبة أناضولية شعبية متدينة ومحافظة إلى برجوازية جديدة ناشئة. وهذه النخبة تمكّنت من إقصاء النخبة الكمالية القديمة، وسعت إلى إدماج الاسلام بالديمقراطية، بدلاً من التركيز الدائم على العلمانية المحمية بالجيش. وأردوغان هو قائد الليبرالية الاقتصادية الجديدة في تركيا، وزعيم التيار الشعبوي للمهاجرين من الأناضول إلى إسطنبول، والذين نجحوا في تأسيس شركات صغيرة عمل فيها الفقراء المهاجرون المتدينون. وهذا التيار أضعف النخبة الكمالية العلمانية الأمر الذي يشبه تجربة أنور السادات في بداياتها، حين قاد في سبعينيات القرن المنصرم الليبرالية الاقتصادية الجديدة في مصر (سياسة الانفتاح). وقد صاغ أردوغان حين أصبح رئيسًا للحكومة، سياسة نيوليبرالية تقوم على الاعتماد المكثف على الاستثمار الأجنبي، وخصخصة المؤسسات العامة، واللامركزية الإدارية.

الواقع الحاضر يخبرنا أن وصول أردوغان إلى قمة هرم السلطة في تركيا شكل انقلاباً اجتماعيًا

وكان من شأن هذ السياسة انحسار الأفيال الاقتصادية الكبيرة وتكاثر الخراف الصغيرة، وهذه هي القاعدة الاجتماعية التي استند إليها حزب العدالة والتنمية في حكم تركيا، علاوة على الخطابية التي تتوسّل المشاعر الدينية لإثارة الحماسة، ففي مهرجان في مدينة سِعِرْت (السورية سابقًا) في يناير/ كانون الثاني 1997، ألقى أردوغان خطبة ألهبت مشاعر الجمهور، حين أورد فيها أبياتًا للشاعر القومي الإسلامي ضياء كوك ألب هي: المآذن رماحنا، القباب خوذاتنا، المساجد ثكناتنا، المصلّون جنودنا، وهذا الجيش المقدس يحرس ديننا”. وقد أُلقي به في السجن آنذاك، الأمر الذي أكسبه مزيدًا من الشعبية.
خرافة العثمانية الجديدة
بعد 18 عامًا على وصول حزب العدالة والتنمية إلى ذروة السلطة في تركيا غداة الانتخابات البرلمانية التي جرت في 3/11/2002، يمكن المجازفة بالقول إن تجديد الحلم العثماني لدى حزب أردوغان شبه خرافة، فأردوغان ليس من معتنقي فكرة “العثمانية الجديدة”. الرئيس الأسبق تورغوت أوزال ( 1989 – 1993 رئيسا) هو صاحب تلك الفكرة، وهي، في أي حال، ليست عميقة لدى النخب السياسية التركية، بل ظهرت ردة فعل على فكرة “الجامعة الهيلينية” التي أطلقها حزب “الباسوك” اليساري اليوناني. وتتضمن فكرة “الجامعة الهيلينية” بعث الحضارة اليونانية القديمة، وتأسيس دولة قومية تشمل معظم أراضي غرب تركيا، بما في ذلك إسطنبول (القسطنطينية)، علاوة على أجزاء من البلقان وبعض جزائر بحر إيجه. وفي مواجهة “الجامعة الهيلينية” أطلق أوزال شعاره المشهور: “من الأدرياتيك إلى سور الصين”.
ولا يعني شبح “العثمانية الجديدة” لدى أردوغان، إن وُجد، على الإطلاق الجغرافيا كما كانت لدى أوزال، بل يعني التأثير في المحيط الإقليمي من خلال التدخل العسكري المباشر، حيثما يكون ذلك ممكنًا لخدمة الأمن القومي التركي، كما يحدث اليوم في سورية والعراق، أو لخدمة المصالح الاقتصادية كما يحدث في ليبيا. ثم إن الموقع الجغرافي لتركيا يجعلها مبعثرة المصالح إلى حد كبير؛ فهي تمتد بين آسيا وأوروبا، وتحدّها المياه من ثلاث جهات: البحر الأسود من الشمال، وبحر إيجه من الغرب، والبحر الأبيض المتوسط من الجنوب. ولعل هذا المدى الحيوي جعل تركيا تعاني طويلاً أزمة الهوية، فمصطفى كمال وخلفاؤه صمّموا على جعلها جزءًا من أوروبا، بينما تاريخها، علاوة على ثقافتها وتقاليدها، يبرهن أنها جزءٌ من الشرق الآسيوي الإسلامي. ولهذا وصف صموئيل هنتنغتون تركيا في كتابه “صدام الحضارات” بأنها “دولة ممزقة” Torn Country، مع أن لها تجربة طويلة في بناء الدولة، وكانت الدولة الوحيدة المستقلة في المنطقة (فضلاً عن إيران) منذ سنة 1299. ربما استند هنتنغتون في وصفه ذاك إلى عدم ثبات الهوية التركية وتأرجحها بين هوية أوروبية غير كاملة وهوية إسلامية مكتملة، وبين قيم العَلمانية التي يحميها الجيش، وقيم الإسلام التي يحميها المجتمع التقليدي.

في مواجهة “الجامعة الهيلينية” التي أطلقها حزب يساري يوناني، أطلق أوزال شعاره المشهور: “من الأدرياتيك إلى سور الصين”

لم تكن الكمالية ديمقراطية البتة. لقد أراد مصطفى كمال أن يجعل تركيا قطعة من أوروبا، لكنه أسس نظامًا عسكريًا من دون الديمقراطية الأوروبية، بل فرض العَلمانية عليها فرضًا من الأعلى بقوة الجيش. وهكذا صارت تركيا في عهد أتاتورك وخلفائه دولة عَلمانية بلا ديمقراطية. وطوال الحرب الباردة، كانت تركيا دولة إمعة لحلف شمال الأطلسي (الناتو) وللولايات المتحدة وإسرائيل. أما بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، وبعد الفراغ الكبير الذي حدث في المنطقة العربية جرّاء تهاوي المكانة الاستراتيجية للدولة المصرية في عهد أنور السادات، وبعد سقوط الشاه محمد رضا بهلوي في إيران، تخلخلت الجغرافيا السياسية للمنطقة كلها، وأفسحت في المجال أمام تركيا لتصوغ تصورًا جديدًا لمصالحها تبعًا لموقعها. ومع ذلك، لم تتمكّن من تقديم العون للبوسنيين المسلمين أو للألبان في كوسوفو وهم من أصول تركية، جرّاء الرفضين، الأوروبي والأميركي، الحاسمين. ولم تستطع أن تؤدي أي دور في القوقاز بسبب الرفض الروسي القاطع.

أراد مصطفى كمال أن يجعل تركيا قطعة من أوروبا، لكنه أسس نظامًا عسكريًا من دون الديمقراطية الأوروبية، بل فرض العَلمانية عليها فرضًا من الأعلى بقوة الجيش

وقد شكّل العقد الذي أعقب سقوط الاتحاد السوفييتي عقدًا ضائعًا لتركيا، كانت فيه سياستها الخارجية مكتفية بالاستجابة للأزمات فحسب. وكان واضحًا، في تلك الأثناء، أن العَلمانية وحدها ما عادت تكفي لتطوير دور جديد للدولة التركية. وتزامن ذلك مع صعود فئاتٍ واسعةٍ من الطبقات الشعبية الأناضولية التي أصابت ثراءً ملحوظًا جرّاء هجرتها من الأرياف إلى المدن، واشتغالها بالتجارة أو بالمهن الحرة المتاحة. وكان أردوغان طرازًا لافتًا في هذه الفئات؛ فهو، في يفاعته، كان بائعًا للكعك، وصار لاعبًا ممتازًا في كرة القدم، وتعلم في مدارس دينية، لذلك لُقّب بـِ “الإمام بيكنباور”: الإمام لأنه درس في مدارس دينية، وبيكنباور على اسم اللاعب الألماني المشهور فرانتز بيكنباور. وهذه الفئات الشعبية التي ارتفع شأنها في السياسات المحلية لم تكن لتهمها العلمانية البعيدة عن ثقافتها الإسلامية الريفية، وكانت مقادير محسوبة من الديمقراطية تلائمها في مواجهة دكتاتورية الجيش واستبداد المؤسسة العسكرية. وحزب العدالة والتنمية إنما هو، في نهاية المطاف، حزبٌ إسلاميٌّ يقبل مقادير من الديمقراطية، ومقادير أقل من العَلمانية، مع طموح كبير لأن يمد نطاق مصالحه إلى الخليج العربي شرقًا، وإلى عمق أفريقيا في الجنوب، علاوة على جواره المباشر، أي سورية والعراق ولبنان، وحتى إلى أذربيجان والقوقاز في الشمال.

صقر أبو فخر

العربي الجديد