تفجير بيروت أطاح بأكثر مما نرى

تفجير بيروت أطاح بأكثر مما نرى

ترتبط هوية بيروت ارتباطاً وثيقاً بالمرفأ. فهو كان بوابة المدينة إلى العالم ومدخلاً مفتوحاً على منطقة المشرق الأوسع. نمت بيروت حول مرفأها في أوائل العقد الأول من القرن التاسع عشر، حين تحوّلت المدينة إلى مركز تجاري كبير مع مصر. وفي العام 1888، في عهد الإمبراطورية العثمانية، تم توسيع المرفأ وأصبحت المدينة عاصمة ولاية بيروت. وهُدمت قلعة بيروت الصليبية لبدء عملية استصلاح الأراضي البحرية وتوسيع مرفأها وتحديثه. اكتسبت بيروت، بفضل مرفأها، هوية عالمية تعددية وكوزموبوليتانية، إذ أضحت مركزاً للتجارة ومنارة للعلم والثقافة يفد اليها أناس من أنحاء العالم.

أمضيت شهراً في أرشيف مرفأ بيروت في صيف العام 1999، درستُ خلالها تمدّد المدينة ونموّها وتحوّلها إلى عاصمة لولاية عثمانية ومن ثم لجمهورية لبنان الكبير. لكن هذا الأرشيف الذي حفظ تاريخ العلاقات المتوسطية لبيروت وتلك العابرة للبحار، فضلاً عن تاريخ عائلاتها التجارية، والتغيرات في ملكيتها، تبخّر مع هذا الانفجار الرهيب.

مهى يحيَ
يحيَ مديرة مركز كارنيغي للشرق الأوسط، حيث تتركّز أبحاثها على المواطنة، التعددية والعدالة الاجتماعية في أعقاب الانتفاضات العربية.
الانفجار المزدوج الذي هزّ مرفأ بيروت دمّر قلب المدينة، وألحق أضراراً بـ50 في المئة منها. كذلك، أسفر الانفجار عن إصابة أكثر من ستة آلاف لبناني، وعن مقتل 181 شخصاً إلى الآن، وما زال هناك بعض المفقودين. تزامن ذلك فيما لبنان يرزح تحت وطأة الأزمة الوجودية الأكبر في تاريخه الحديث، نتيجة انهيار أربعة من أركان البلاد الخمسة الأساسية. إضافةً إلى ذلك، تحوم الشكوك حول بقاء النظام السياسي، في ظل تهاوي النموذج الاقتصادي الحالي، وتقويض الطبقة الوسطى التي تُعتبر العمود الفقري للابتكار والازدهار، نتيجة التدمير الهائل للثروات وافتقار الحكومة السابقة إلى الكفاءة وعدم استعداد السياسيين اللبنانيين لتغليب مصالح البلاد على مصالحهم الخاصة.

يُعدّ الانفجار في حد ذاته تجسيداً للخلل العميق في قلب منظومة الحكم اللبناني. فقد تُركت كمية تعادل تقريباً 3000 طن من مادة نيترات الأمونيوم القابلة للانفجار في المرفأ لسنوات. لكن الثغرات كثيرة في هذه الرواية. ففي حين صُودرت نيترات الأمونيوم كما يبدو من سفينة في العام 2013، يتساءل اللبنانيون لماذا لم تُطالب أي جهة بهذه الشحنة القيّمة لكن اليتيمة في الوقت نفسه. كما أغفلت الحكومات المتعاقبة تقارير قدّمها بعض مسؤولي المرفأ تسلّط الضوء على مخاطر وجود مثل هذه المواد في الموقع. هنا يخطر ألف سؤال وسؤال: هل تقصّدت مجموعات سياسية ذات مصالح خاصة منع إزالة هذا المخزون المتفجّر من قلب المدينة؟ أم أن الأمر يتلخّص بإهمال جنائي كارثي مطلق من قبل القيمين على المرفأ سياسيين كانوا ام اداريين، في نظام اعتاد الجميع فيه على التلطي خلف المنظومة الطائفية، وعلى سلوك الطريق الأسهل وإلقاء المسؤولية على الآخرين؟

بالتأكيد ثمّة فساد وتعفّن في لبنان. فبذريعة تقاسم السلطة بين الطوائف المختلفة، عمد القادة السياسيون اللبنانيون والمقرّبون منهم من رجال الأعمال إلى نهب البلاد ومؤسساتها، مخلّفين وراءهم مؤسسات حكم ضعيفة ودولة مفلسة. كذلك، عمد زعماء الطوائف إلى التحالف مع قوى أجنبية، سعياً منها في أغلب الأحيان إلى الحصول على امتيازات محلية. وفي فترات النزاع، أنشأوا مجموعات مسلحة، كان إحداها حزب الله، الذي احتفظ بأسلحته في الفترة التي تلت الحرب في لبنان بعد العام 1990. وفي أعقاب الحرب، تقاسّم القادة السياسيون الدولة ومؤسساتها في ما بينهم، وحافظوا على تركيبة حكم استثمر جميعهم فيها. هم ازدادوا غنىً وزادوا لبنان واللبنانيين فقراً.

وفيما سيطرت الطبقة السياسية على بوابة لبنان إلى العالم، سعت إلى تحويل مجتمع متنوّع إلى مزيج من المجتمعات الطائفية المنفصلة عن بعضها البعض، يخضع كل منها إلى سيطرة زعيم أو حزب معيّن. وعبر العزف على وتر الاختلافات الطائفية والمخاوف الوجودية في منطقة تعصف بالمخاطر والأزمات المصيرية، أحكم القادة السياسيون قبضتهم على مجتمعاتهم، وقوّضوا بالقمع ثقافة التعدديّة. وعلاوة على ذلك، انتهجوا سياسة شعبوية تحت غطاء طائفي لخنق الحريات. في هذه التركيبة، لعب حزب الله دوراً أساسياً، إذ سعى بشكل دؤوب إلى حماية هذه المنظومة السياسية والأمنية لإبقاء دور لبنان كفناء خلفي له، ما أدى الى تقويض علاقات هذا البلد مع العالمين العربي والغربي.

وفيما تُطرَح نظريات مختلفة حول أسباب الانفجار، يتساءل الجميع ما إذا كان سيُحاسَب أحدٌ عن الكارثة. لن يتبنّى أحد المسؤولية عن الدمار الواسع الذي لحق بالمدينة وأهلها. فإذا كانت المواد التي انفجرت هي فعلاً لحزب الله، يستحيل بكل بساطة عليه الدفاع عن قراره وضع قنبلة موقوتة في قلب العاصمة. وإذا كانت إسرائيل هي التي فجّرت المواد المخزَّنة في المرفأ، فإن هول الكارثة وحجم الدمار الذي لحق ببيروت وسكانها يسحبان منها مختلف الذرائع للتنصل من المسؤولية. وبالنسبة للسياسيين اللبنانيين، يرتقي إهمالهم الواضح جدّاً للعيان الى مستوى جرمي.

بغضّ النظر عن الأسباب التي أدّت إلى وقوع الانفجار، يبدو غضب اللبنانيين واضحاً وملموساً. ومن الرسائل التي يجري تداولها في بيروت “اليوم نحزن، غداً ننظّف، وبعد غد نعلّق المشانق”. في غضون ذلك، تتكتّل مجموعات مختلفة في إطار تشكيلات معارِضة وتدعو إلى تنظيم تظاهرات واسعة. تعمل هذه المجموعات على إنشاء شبكات عابرة للمذاهب، وتطالب بسقوط هذه المنظومة السياسية، وتسعى إلى إقامة دولة مدنية تعترف باللبنانيين كمواطنين، لا فقط كرعايا لطائفة أو مذهب. هم لاينشدون الحفاظ على هويات لبنان التعددية وحسب، بل الارتقاء بها وبموقع البلاد كمركز لتقاطع الثقافات.

مصير لبنان مفتوح الآن على احتمالات عدّة. وبإمكان المجتمع الدولي المساعدة على توجيه البلاد في الاتجاه الصحيح. فلبنان يحتاج اليوم إلى حكومة انتقالية تحظى بثقة الشعب ومن ثم المجتمع الدولي تكون مهمّتها إخراج البلاد من الهوة الاقتصادية والسياسية. ويجب أن يترافق ذلك مع استقالة رئيس الجمهورية التي باتت ضرورية مع أنها مُستبعَدة. ففي عهده، تتعمّق عزلة لبنان عن العالم وتُقوَّض ثقافته التعدديّة.

من الضروري أيضاً إرساء الاستقرار في لبنان. لهذه الغاية، بإمكان المجتمع الدولي إنشاء صندوق دولي للطوارئ يضم منظمات دولية ومنظمات محلية غير حكومية، تتصدّر الجهود الآيلة إلى معالجة الأزمة الإنسانية في البلاد. من شأن هذا الصندوق أن يؤمّن الدعم الطارئ الضروري للحصول على المواد الغذائية والخدمات الطبية والتعليمية. ومن شأنه أيضاً تأمين القروض الميسّرة وأشكالاً أخرى من الدعم الائتماني للمواطنين المبدعين في لبنان ومؤسساتهم وأعمالهم المأزومة. وهذا يُفضي إلى انطلاق عجلة الدورة الاقتصادية من جديد، ويحول دون تحويل لبنان لبلد يعتاش من المساعدات.

في غياب مثل هذا الدعم، سيغرق لبنان وستختفي ثقافته التي عُرِفت سابقاً بازدهارها وتنوّعها وتعدّديتها، وتُستكمَل فصول تدمير المرفأ وكل ما كان يُجسّده عبر التاريخ.

مهى يحيى

مركز كارنيجي