تآكل الصراع العربي الإسرائيلي بعد “كامب ديفيد”

تآكل الصراع العربي الإسرائيلي بعد “كامب ديفيد”

بلغ التراجع في اهتمام النظام العربي الرسمي بالقضية الفلسطينية والصراع العربي – الإسرائيلي أعلى مستوى له خلال العام الجاري، (2020)، الذي شهد الإعلان، في 21 يناير/ كانون الثاني منه، عن خطة الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، للسلام في الشرق الأوسط، والتي تعد خطة تصفية للقضية الفلسطينية، وأخذت في الإعلام اسم “صفقة القرن”، ومن ثم إعلان دولة الإمارات ومملكة البحرين تطبيع علاقاتهما مع إسرائيل، بموافقة السعودية ومباركة مصر.

وثمَّة أحداث مختلفة ساهمت في تراجع مكانة القضية الفلسطينية، حيث مارست الولايات المتحدة الضغط على بعض الدول العربية في السنوات الماضية، وتبدَّلت أولويات الأنظمة العربية. ولا يمكن إعفاء القيادة الفلسطينية من المسؤولية التاريخية والأخلاقية عن هذا التراجع، حيث قدَّمت مبرّرات متعددة لهذه الأنظمة، من قبيل ممارساتها غير المسؤولة في الأردن ولبنان مثلا.

من انتكاسة 67 الى نصر 73

شكَّلت هزيمة يونيو/ حزيران 1967 انتكاسةً كبيرةً للصراع العربي – الإسرائيلي والدول العربية على السواء، بل حطَّمت النفسية العربية، وأفقدت العرب ثقتهم بجيوشهم، وأفقدت هذه الجيوش تطلعاتها إلى تحقيق النصر، خصوصا عندما تمَّ ضرب أكبر جيش عربي في مصر، وكشفت عن زيف دعايات إغراق إسرائيل. وفي الجهة المقابلة لذلك، شكَّل انتصار مصر في حرب عام 1973 رافعةً كبيرةً للقضية الفلسطينية والنظام الإقليمي العربي، وأعاد إحياء الصراع مع دولة الاحتلال الإسرائيلي، حيث استعادت مصر وسورية ودول عربية أخرى ثقتها بنفسها، وتمَّ ردع الجيش الذي لا يُقهر، وانهارت نظرية التفوق العسكري الإسرائيلي، وحينها شعرت إسرائيل بأنَّ وجودها بات على شفا حفرة من الانهيار، فأصدرت رئيسة الوزراء الإسرائيلية في حينه، غولدا مائير، أوامرها للاستعانة بالقنبلة الذرية تفادياً لأي هزيمة محتملة في ما بعد. وقد عقد الفلسطينيون آمالاً كبيرةً على هذا النصر، متطلعين نحو إقامة دولة فلسطينية على حدود 1967، وذلك بالتزامن مع إصدار منظمة التحرير برنامج الحل المرحلي (النقاط العشر) في عام 1974، والذي قدَّم استعداداً لإقامة دولة فلسطينية على أي شبرٍ يتم تحريره من أرض فلسطين.

لم تكن “كامب ديفيد” مجرّد اتفاق سلام بين طرفين، بل كانت دستوراً أميركياً إسرائيلياً شكَّل خريطة طريق للوطن العربي طوال المرحلة التي تلت التوقيع عليه

ولكن، سرعان ما بدأت العقبات تواجه الفلسطينيين؛ حيث أبدى الرئيس المصري أنور السادات استعداداً للدخول في عملية سلام مع إسرائيل التي كانت لا تزال تحتل سيناء منذ يونيو/ حزيران 1967، وذلك في كلمة له في القاهرة بحضور رئيس اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ياسر عرفات، فخرج من القاعة بعد انتهاء الخطاب متجها نحو بيروت، فأخبر مساعديه بأنَّ القضية الفلسطينية ستكون الثمن الذي سيدفعه السادات نظير اتفاقية السلام مع إسرائيل. وبالفعل توجَّه السادات بطائرته الخاصة إلى القدس المحتلة وألقى خطابه في الكنيست، تلا ذلك توقيع اتفاقية كامب ديفيد في سبتمبر/ أيلول 1978لحل الصراع بين مصر وإسرائيل، ثم توقيع معاهدة السلام المصرية – الإسرائيلية في 1979.

كانت أحداث اتفاقية كامب ديفيد بمثابة الخنجر المسموم الذي جرى طعنه في خاصرة الصراع العربي – الإسرائيلي والقضية الفلسطينية

لم تكن “كامب ديفيد” مجرد اتفاق سلام بين طرفين، بل كانت دستوراً أميركياً إسرائيلياً شكَّل خريطة طريق للوطن العربي طوال المرحلة التي تلت التوقيع عليه، ووضع نهايةً لاحتمالات اجتماع العرب في حربٍ ضد إسرائيل، وكانت تلك أُولى معالم تفكّك النظام الإقليمي العربي، حيث خرجت القاهرة بمحض إرادتها عن الإجماع العربي على اللاءات الثلاث المعلنة في القمة العربية في الخرطوم في أغسطس/ آب 1967 (لا صلح – لا تفاوض – لا سلام)، وبادرت بنفسها نحو التفاوض والصلح والسلام. وقد أدى هذا الأمر إلى إخراج مصر من دائرة الصراع العربي – الإسرائيلي من دون تحريرٍ كاملٍ لأرض سيناء البالغة مساحتها 61 ألف كيلومتر مربع، فالتزمت مصر بالحياد السلبي الذي أضرَّ بالقضية الفلسطينية والصراع العربي – الإسرائيلي على السواء.

الصورة
اتفاقية السلام
السادات وكارتر وبيغن بعد توقيع معاهدة السلام في البيت الأبيض (26/3/1979/Getty)
أثارت الاتفاقية مخاوف كبيرةً لدى قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، لأنَّ الخلافات بين الفلسطينيين ومصر، أو خسارة مصر جرَّاء خروجها من دائرة الصراع العربي – الإسرائيلي، ستقدّم فرصةً كبيرةً لكل خصوم القضية الفلسطينية كي يهاجموها، ويتهموا الفلسطينيين بالتدخل في شؤونهم الداخلية. ومهَّدت “كامب ديفيد” الطريق لشن حرب استئصالٍ إسرائيلية على منظمة التحرير في بيروت في مطلع شهر يونيو/ حزيران 1982، فأدَّت تلك الحرب إلى خروج كوادر المنظمة وقياداتها من لبنان إلى تونس، كما احتلَّ الجيش الإسرائيلي بيروت في مشهد كان مستبعد الحدوث بعد انتصار العرب في حرب 1973.

لم يكن خافياً أنَّ اتفاقية كامب ديفيد كانت أُولى مراحل تصفية احتمالات إقامة دولة فلسطينية على حدود 4 يونيو/ حزيران 1967، وجرى الحديث في المفاوضات عن الحكم الذاتي للفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة خلال مدة لا تتجاوز خمس سنوات، حيث جاءت على أساس قرار مجلس الأمن 242 الذي قضى بانسحاب إسرائيل من “أراضٍ” احتلت في النزاع الأخير، ولم يحدّد كل الأراضي. ولكن إسرائيل والولايات المتحدة رفضتا منح الفلسطينيين حكما ذاتياً على الأرض، واقترحتا أن يكون حكماً ذاتياً للشعب في الضفة الغربية وقطاع غزة فقط من دون أن يشتمل على الفلسطينيين المقيمين في خارجهما، بدعوى أنَّ السيادة على الأرض ستبقى للحكومة الإسرائيلية.

عاشت قيادة منظمة التحرير في أحلك الظروف بعد خروجها من بيروت، وكانت أشبه بشخصٍ غير مرغوب به

كانت أحداث اتفاقية كامب ديفيد بمثابة الخنجر المسموم الذي جرى طعنه في خاصرة الصراع العربي – الإسرائيلي والقضية الفلسطينية، فلم يعد صراعاً عربياً – إسرائيلياً، بل تقزَّم إلى صراعٍ فلسطينيٍ – إسرائيليٍ. وشهد النظام الإقليمي العربي تراجعاً واضحاً في موقفه من المقاومة الفلسطينية، والذي كان مبادراً إلى دعم المقاومة في قمتي القاهرة والإسكندرية عام 1964، وعمل على حمايتها من احتمالات الصدام مع دول الإقليم في قمة القاهرة 1970، بعد وقوع أحداث أيلول الأسود في ذلك العام في الأردن. ثم انتقل النظام العربي إلى مربع الدعم الإعلامي فحسب، ولم تعد الدول العربية ملتزمةً تماما بتقديم الدعم المالي والتسليح. ثم اندلعت الانتفاضة الفلسطينية الأولى في العام 1987، وتاليا لم تعلن قيادة منظمة التحرير إدانة غزو الجيش العراقي للكويت في 1990. ووصل الانحدار في النظام الإقليمي العربي إلى محاصرة المقاومة الفلسطينية قبل توقيع اتفاقية أوسلو. وبعد فوزها في الانتخابات التشريعية الفلسطينية في العام 2006، حاصرت أنظمة عربية حركة المقاومة الإسلامية (حماس).

أوسلو والانتقال من الصراع إلى النزاع

عاشت قيادة منظمة التحرير في أحلك الظروف بعد خروجها من بيروت، وكانت أشبه بشخصٍ غير مرغوب به، إذ لم يكن متوقعاً أن تطمئن الدول العربية لوجودها على أراضيها، خصوصا في ضوء تجربة كوادر المنظمة مع الأردن ولبنان، ولذلك وجدت قيادة المنظمة نفسها تذهب إلى مفاوضات تسوية مع الاحتلال الإسرائيلي. وبعد فترة من التفاوض، جرى التوقيع على اتفاقية إعلان المبادئ بينهما (أوسلو)، في 13 سبتمبر/ أيلول 1993، برعاية الولايات المتحدة، وكان العرب شاهد زورٍ على اتفاقية يوقعها الفلسطينيون بأنفسهم للتنازل عن 78% من أرضهم. وأخرجت القضية الفلسطينية من دائرة الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي إلى دائرة النزاع بين الطرفين، ولم تعد القضية الفلسطينية تمثل صراع وجودٍ بين الطرفين، بقدر ما باتت تمثل نزاع حدود بينهما، خصوصا بعد قبول قيادة منظمة التحرير بتشكيل سلطة سياسية تحت سلطة الاحتلال، بالتزامن مع تحوُّل حركة فتح، وهي كبرى حركات التحرير الوطني الفلسطيني، من دائرة الصراع مع الاحتلال إلى أداء دورٍ وظيفيٍ لصالحه نظير مقابل مالي.

صارت اتفاقية أوسلو جسراً عربياً لكسر المحرّمات والإسراع نحو التطبيع مع الاحتلال الإسرائيل

وصارت اتفاقية أوسلو جسراً عربياً لكسر المحرمات والإسراع نحو التطبيع مع الاحتلال الإسرائيلي، فشهد عقد التسعينيات من القرن الماضي تدشين مكاتب تمثيل تجاري بين أكثر من دولة عربية ليست من دول الجوار، بجانب أنَّ الأردن وقَّع اتفاقية وادي عربة للسلام مع الاحتلال بعد 13 شهراً من توقيع اتفاقية أوسلو التي ما زالت أداة بعض العرب لتبرير تطبيعهم مع الاحتلال. وقد انتهت السنوات الخمس المتفق عليها في الاتفاقية للتفاوض على قضايا الحل النهائي بنهاية 1999، وشهدت التوقيع على اتفاقيات أمنية عديدة تعزز مبدأ وظيفية السلطة الفلسطينية، ولعل الأهم من ذلك أنَّ الدول التي ضغطت على قيادة المنظمة لتوقيع الاتفاقية لم تقف مع المنظمة، ولم تضغط على الاحتلال الإسرائيلي للالتزام بما ورد في الاتفاقيات، حتى عندما فكرت الدول العربية بإيجاد مخرج للقضية الفلسطينية قامت بتنظيم قمة بيروت في العام 2002، وخرج الحكام بمبادرة السلام العربية التي رعاها ولي العهد السعودي (في حينه) عبد الله بن عبد العزيز، ودعت الاحتلال للموافقة على إقامة دولة فلسطينية على حدود 67 مقابل تطبيع عربي كامل مع الاحتلال، لكن الاحتلال ضرب بهذه المبادرة عرض الحائط.

مع مجيء محمود عباس رئيسا للسلطة الوطنية الفلسطينية في يناير 2005، شهدت القضية الفلسطينية انتكاساتٍ كبيرةً

وتبعاً لما حدث، شهدت السنوات الأخيرة تطبيق جزء من مبادرة السلام العربية، حيث لم تتم إقامة دولة فلسطينية. في المقابل التحقت دول عربية في قطار التطبيع. ومنذ 2002 شهدت القضية الفلسطينية تطورات عديدة، منها أن محمود عباس صار رئيساً للحكومة في الأراضي الفلسطينية بناءً على رغبةٍ أميركيةٍ، ومع مجيئه رئيسا للسلطة الوطنية الفلسطينية في 9 يناير/ كانون الثاني 2005، شهدت القضية الفلسطينية انتكاساتٍ كبيرةً، فحدث الانقسام السياسي بين الضفة الغربية وقطاع غزة في منتصف 2007، وتفرَّد عباس في حكم البلاد عشر سنوات زيادة عن فترة ولايته، ونشط التنسيق الأمني، فتوقفت عجلة المفاوضات عند إنجاز بحجم الصفر الكبير، على حد تعبير رئيس الحكومة الفلسطينية الأسبق أحمد قريع، وتم تقسيم المسجد الأقصى زمانياً ومكانياً، وتمدّد الاستيطان في كل المناطق الاستراتيجية في الضفة الغربية، وقطَّع جدار الفصل العنصري أوصال الضفة، وأوقفت الولايات المتحدة مساهمتها في تمويل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (أونروا)، وتمَّ نقل السفارة الأميركية إلى القدس المحتلة، وأعلن ترامب عن “صفقة القرن”.

أحمد فايق دلول

العربي الجديد