فعلتها إيران وأحبطت المبادرة الفرنسية في لبنان. كثيرون توقعوا ذلك، مستندين إلى الوقائع اللبنانية الداخلية، وسلوك حلفاء طهران من اللبنانيين، لكن الموقف الإيراني الرسمي لم يدع مجالاً للشك في أنه لن يسمح لمشروع التسوية الفرنسي في لبنان بالوصول إلى نهايته السعيدة.
قبل يوم من إعلان مصطفى أديب اعتذاره عن عدم تشكيل الحكومة المطلوبة المتّفق على مواصفاتها وبرنامجها خلال زيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون مطلع سبتمبر (أيلول)، كان وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف يتساءل في موسكو: ماذا يفعل ماكرون في بيروت؟. وجاءت تساؤلات ظريف في سياق مناقشة مع المسؤولين الروس الذين طرحوا ضرورة إسهام بلاده في تذليل العُقد أمام انطلاقة الحكومة اللبنانية المنتظرة.
وليس رد الفعل الإيراني مفاجئاً. فعندما حضر الرئيس الفرنسي إلى العاصمة اللبنانية إثر انفجار مرفئها مباشرة، لحقه ظريف في زيارة حذر خلالها من “النوايا الفرنسية”، ولدى حضوره في مطلع الشهر الحالي لوضع ترتيبات الحكومة الإنقاذية، “أرسل” الإيرانيون بالتكافل مع الأتراك والقطريين زعيم حركة “حماس” اسماعيل هنية ليجول ويصول في بيروت، برعاية وحماية الإيرانيين، مطلقاً التهديدات بقصف تل أبيب وبخوض المواجهات ضد “اتفاقات السلام”.
لم يكن الموقف الإيراني الذي قاد إلى تعذّر ولوج لبنان مرحلة استعادة الأنفاس وليد اللحظة، بل خطة ثابتة واكبها الإعلام الإيراني (وكله ناطق باسم أجهزة السلطة) منذ استقالة حكومة حسان دياب، إلى ما بعد تكليف أديب في نهاية أغسطس (آب). في البداية، عارض الإيرانيون استقالة دياب، وقالوا بوجوب استمرارها ولو بصيغة تصريف الأعمال.
بعد زيارة ماكرون الأولى، كتب معلّق إيراني شبه رسمي أن “حكومة دياب هي حكومة مخلصة تبلورت من تضاريس أوجاع الناس… وهي أشرف من كل تاريخ الذين تربّوا في أحضان الدول الكبرى والقناصل والسفارات… وهي ستعمل حتى الساعة الأخيرة من زمن الصمود والتصدي قبل أن يقرر أصحاب القرار الحقيقيين استبدالها بحكومة أُخرى”!.
كانت الانحناءة الشكلية مطلوبة أمام هول كارثة المرفأ ثم صدور قرار المحكمة الدولية في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري، وهذا ما حصل بموجب نصائح إيران، غير أن الماكينة السياسية الإعلامية التابعة لنظام طهران لم تتوقف لحظة عن التشكيك في أهداف الفرنسيين وعنونت إحدى وكالات الأنباء التابعة للحرس الثوري تحليلاً لها (13/9/2020) خبراً لها كالتالي “صديق الشعب اللبناني عدو شعبه. حراك شعبي في جميع المدن الفرنسية ينادي بإسقاط الرئيس الفرنسي ماكرون”.
جرى إنضاج إسقاط المخرج الذي عوّل عليه اللبنانيون بهدوء ووسط حفلة كذب وأكاذيب عن تمسّك أنصار الملالي من اللبنانيين بالمبادرة الفرنسية. وكان طرح الشروط التعجيزية الوسيلة الوحيدة لمنع الحل من دون إعلان الموقف الحقيقي. هذا الموقف لم تبخل وسائل إعلام إيرانية في الكشف عنه عشية اعتذار أديب، بل صبيحة انسحابه من مشروع تأليف الحكومة.
في ذلك اليوم (السبت الماضي)، خرجت صحيفة “خراسان” بتحليل عنونته “مخطط ماكرون لتجريد حزب الله من السلاح”، فقالت: “إن وراء ضغوط وتهديدات ماكرون بشأن تشكيل حكومة لبنانية بوصفة غربية، هدف يتمثل في تجريد حزب الله من السلاح”. وأضافت: “نعم فرنسا والولايات المتحدة تتحدثان عن ضرورة إجراء إصلاحات جذرية في لبنان عبر تشكيل حكومة تكنوقراط وتربطان تحقيق ذلك بتقديم المساعدات والقروض له، لكن وراء هذا الكلام هدف يرتبط بإعادة الهيمنة الغربية على لبنان لمصلحة الكيان الصهيوني عبر تجريد حزب الله من السلاح…”.
صحيفة إيرانية أخرى هي “جوان” قالت في اليوم ذاته: “تتحرك أميركا وفرنسا لإيجاد هيكلية جديدة لنظام الحكم في لبنان، تنسجم مع الرؤية والنوايا والمصالح الغربية. وفرنسا هي التي تقود هذا التحرك بإشراف وتوجيه أميركا… لدفع الأمور باتجاه تشكيل حكومة لبنانية جديدة على أساس وصفة تتلخّص بعزل وتهميش قوى المقاومة… إن هذا التركيز الفرنسي الأميركي لا يرتبط بالحرص على مصالح ومستقبل لبنان، بل بضمان مصالح وأهداف الكيان الصهيوني وبإعادة لبنان إلى دائرة النفوذ الغربي بإضعاف المقاومة”.
لا يحتاج الأمر إلى مزيد من الشرح والتفصيل. فطهران لا تميّز بين باريس وواشنطن في المسعى الفرنسي تجاه لبنان الذي تعتبره منطقة نفوذ خاصة بها منذ إعلانها السيطرة على أربع عواصم عربية، وهي مصممة على إفشال هذا المسعى وتركت لأنصارها اختيار الأساليب المناسبة، فكان التمسّك بوزارة المالية وبتسمية الوزراء، أي استنساخ حكومة دياب، أو الإبقاء عليها كما ورد في الرؤية الإيرانية المبكرة للتطورات اللبنانية.
طوني فرنسيس
اندبندت عربي