طوال سنوات، بقي العراق ضحية الفشل العسكري والسياسي الأميركي، والتدخلات الإيرانية في شؤونه. وفي بيئةٍ مستقطبة بين حلفاء إيران والولايات المتحدة، مثّل العراق استثناء فريدا حين ربطته مع كليهما علاقات وثيقة، لكن هذا جعله عرضةً دائما لخطر أن يصبح ساحة معركة لحرب بالوكالة. مع هذا الاستثناء، ظلّت الحكومات العراقية المتعاقبة، منذ العام 2003، عاجزةً عن اتخاذ موقف يضع الأمور في نصابها بشأن العلاقة بين الدولتين، وظلّ الفلتان الأمني وعدم الاستقرار سيدَي المشهد العراقي، نتيجة تعدّد مراكز القوى.
وبعد نحو خمسة أشهر على تسلم مصطفى الكاظمي منصبه رئيسًا لوزراء العراق لا يبدو أمام الرجل هدنة يمكنه من خلالها التقاط أنفاسه. فبعد التصفيق وقراءة الفاتحة بالقصر الجمهوري لحظة تكليفه بدأت الشروط ومحاولات الإملاء عليه بدءاً من كابينته التي استكملها على مرحلتين من البرلمان العراقي الذي يعكس إرادة القوى السياسية التي دأبت على الاختلاف على كل شيء.
واليوم يحاول مصطفى الكاظمي إنشاء نموذج مختلف للعراق، يؤكّد على السيادة، ومكافحة الفساد، ويتقرّب من المحتجين الذين تظاهروا في الشوارع، ويريد علاقة مساعدة عسكرية مستدامة مع واشنطن، وحصر السلاح بيد الدولة في مواجهة الفصائل المسلحة الموالية لإيران التي لم تؤيد صراحةً تكليف مصطفى الكاظمي، رجل الاستخبارات الأسبق المقرّب من الولايات المتحدة الأمريكية، لقيادة الحكومة الجديدة، إلا أنها لم تعترض عليه بوصفه قناة اتصال مفيدة وغير مباشرة مع الإدارة الأميركية. سعى الكاظمي إلى إمساك العصا من المنتصف، محاولا إعادة التوازن إلى علاقات العراق بالخارج، وحاول أن يوفق بين متناقضات؛ التقارب مع الولايات المتحدة من دون أن ينفجر في وجهه سخط المعارضين لها، والحد من تنامي النفوذ الإيراني من دون أن يمسّ بمصالحها الحساسة. يعوّل الكاظمي على تحقيق هذا التوازن، لتأمين الإستقرار في الداخل العراقي.
إن صراع محاور في العراق، يجعل الكاظمي في امتحان صعب لتحديد وجهته، ومحاولة السير بشكل سليم لتطبيق برنامجه الحكومي. ويسعى المحور الذي يميل إلى الجانب الإيراني لجر الكاظمي إلى منطقته عبر رفض وجود القوات الأميركية في العراق، وبين محور آخر يميل للجانب الأميركي، ويرى أن تحول مواقف الكاظمي سيفتح المجال للحكومة بالمضي بسلام.
ويرى المتابعون للشأن العراقي أن الحوار الوطني صار ضرورة ملحة لأنه من دون هذا الحوار، فإن عمليات الاستهداف للمنطقة الخضراء ستستمر، طالما أن هناك رسائل سياسية يراد بعثها عبر هذه الصواريخ مرتبطة بشكل واضح بالصراع الأميركي – الإيراني، وهو ما يعمل الكاظمي على تجنيب العراق مخاطره». وأوضحوا أن الحوار الاستراتيجي الذي يقوم به الكاظمي منذ شهور مع واشنطن هو الذي يحدد طبيعة الوجود الأميركي الذي لن يتعدى في كل الأحوال الوجود الاستشاري.
إن جهود مصطفى الكاظمي في مجال إصلاح النظام السياسي وانتزاع السيادة من الجهات الفاعلة غير الحكومية” المليشيات الولائية” هي مهمة وطنية شاقة نظراً إلى التغلغل المستمر للأموال الفاسدة في السياسة، والمقاومة الشرسة من قبل الميليشيات التي تتصرف دون عقاب، مستفيدةً جزئياً من داعميها الإيرانيين، ونقاط الضعف الهيكلية المتأصلة في الحوكمة والاقتصاد في فترة ما بعد الصراع. ولكن على الرغم من هذه التحديات، تتماشى الرؤية الأمريكية للعراق مع رؤية الشعب العراقي وقيادته الجديدة – في توجّه سياسي جديد يعطي الأولوية لاحترام الدولة كمظلة للهويات العرقية والطائفية [المختلفة]. ومن خلال تعزيز الاستقرار الداخلي، والشمولية السياسية، والمرونة الاقتصادية، يمكن لهذه الرؤية المشتركة أن تساهم في جعل العراق شريكاً استراتيجياً أكثر قيمةً للولايات المتحدة.
فالكاظمي منذ مجيئه إلى حكم العراق يسعى أن يجعل من حلمه الوطني واقعًا معاش، وهو إعادة بناء الدولة العراقية أو ترميمها على الأقل. فالكاظمي لا ينتمي إلى فئة المغامرين. يعرف قسوة الماضي، ويدرك وطأة الحاضر، ويخاف على مستقبل العراق، لذلك يكاد يكون آخر فرصة لبارقة أمل لعراق مشرق.
وحدة الدراسات العراقية
مركز الروابط للبحوث والدراسات الاستراتيجية