عندما أعلن البيت الأبيض عن اتفاق للاعتراف المتبادل وتطبيع العلاقات بين السودان وإسرائيل في 23 تشرين الأول/أكتوبر، كان ذلك بمثابة إتمام ناجح لاتفاق شامل متعدد المستويات والأطراف تم التفاوض بشأنه بشكل مكثف لفترة دامت أكثر من عام. وكان الدافع الرئيسي لهذا الإنجاز هو قرار إدارة ترامب بإخراج السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب، وهو تصنيف وصم البلاد منذ عام 1993. ونظراً للأزمة الاقتصادية الحادة التي يشهدها السودان، كانت السلطات التي أطاحت بديكتاتورية اللواء عمر البشير وتولت الحكم في نيسان/أبريل 2019 تتوق لإنهاء العقوبات الأمريكية، وجذب الاستثمارات، وتمهيد الطريق أمام تخفيف أعباء الديون المتراكمة على الدولة والتي تناهز 60 مليار دولار.
وفي إطار المفاوضات، أودعت الحكومة السودانية 335 مليون دولار في حساب ضمان لتعويض ضحايا الهجمات الإرهابية التي استهدفت سفارتَي الولايات المتحدة في كينيا وتنزانيا عام 1998 والهجوم على المدمرة الأمريكية “يو أس أس كول” في عدن عام 2000. ووفقاً للسلطات المحلية، تلقت الخرطوم تأكيدات بعدم مطالبتها بأي تعويضات إضافية وشيكة. أما الخطوة التالية في العملية، فستتمثل برفع العقوبات على أن تليها محادثات مع “صندوق النقد الدولي” واستئناف المساعدات الأمريكية.
وإلى جانب الضغط الأمريكي المستمر لربط شطب الدولة من لائحة الإرهاب بخطوات السلام تجاه إسرائيل، استفادت المفاوضات الأولية من التشجيع من وراء الكواليس والتزامات بتقديم مساعدات مالية من الإمارات والسعودية فضلاً عن الدعم الضمني من جانب مصر، الدولة المجاورة للسودان. ويمكن أن يؤدي قرار الخرطوم أيضاً إلى تسريع جهود التطبيع المماثلة من قبل دول عربية أخرى، على الرغم من أن مثل هذا التقدم سيكون على الأرجح أكثر تدريجياً مما كان عليه اتفاقا السلام “المفاجئان والسريعان“ مع الإمارات والبحرين.
المواقف العدائية السابقة والمحادثات السرية
يختلف قرار الخرطوم عن خطوتي التطبيع الإماراتية والبحرينية من ناحية مهمة أخرى: يتشارك السودان وإسرائيل تاريخاً من الصدامات العسكرية وسلوكيات عدائية أخرى تجاه بعضهما البعض في الماضي. على سبيل المثال، حاربت الشركات السودانية إلى جانب الجيش المصري في حربي 1948 و1967. وبعد فترة وجيزة من الصراع الأخير، استضافت الخرطوم القمة التي تبنت فيها جامعة الدول العربية سياسة “اللاءات الثلاث” سيئة السمعة – لا سلام ولا مفاوضات ولا اعتراف بإسرائيل. وخلال حرب عام 1973، أرسل السودان قوة مشاة إلى جبهة السويس، على الرغم من وصولها بعد التوصل إلى وقف إطلاق نار، مما جعل نشر هذه القوات رمزياً إلى حدّ كبير.
وفي غضون ذلك، بدأت إسرائيل في مساعدة التمرد في جنوب السودان منذ عام 1968، حيث قدمت العتاد والتدريب لمتمردي “الأنيانيا”، ومن ثم إلى “جيش التحرير الشعبي السوداني”، واستمرت في ذلك إلى حصول جنوب السودان على استقلاله في عام 2011. كما شنت القوات الإسرائيلية عدة غارات جوية ضد منشآت تخزين الذخائر السودانية في الفترة 2009-2012، في محاولة للحد من ممارسات البشير بالسماح لإيران بشحن أسلحة عبر أراضيه إلى «حزب الله» و«حماس».
وعلى الرغم من هذه الأعمال العدائية، أجرت إسرائيل والسودان اتصالات سرية متقطعة لعقود من الزمن قبل إبرام الاتفاق الحالي. وقد بدأت هذه الاتصالات في منتصف خمسينيات القرن الماضي مع الصادق المهدي، رئيس “حزب الأمة القومي” النافذ، الذي كان يخوض في ذلك الوقت صراعاً مع الرئيس المصري جمال عبد الناصر. (من المثير للاهتمام أن المهدي البالغ من العمر خمسة وثمانين عاماً أصبح منذ ذلك الحين من أشد المعارضين المحليين لحملة التطبيع الحالية، في محاولة لعكس اتجاه التهميش السياسي الذي يواجهه). ولاحقاً، تعاونت إسرائيل سراً مع الرئيس جعفر النميري، الذي صافح رئيس الوزراء الإسرائيلي مناحيم بيغن خلال جنازة أنور السادات في القاهرة عام 1981 – وهو حدث قاطعه زعماء عرب آخرون بسبب وجود بيغن. كما تلقت إسرائيل مساعدة غير علنية من الخرطوم لإجلاء اليهود من إثيوبيا.
وفي ظل حكم البشير، سعت الخرطوم إلى مدّ جسور التواصل مع إسرائيل بعد قطع علاقتها مع إيران، وابتعادها عن تركيا، وانضمامها إلى جهود الحرب السعودية في اليمن. وبعد الإطاحة به، استأنف السودان حواراً سرياً مع إسرائيل أدى إلى اللقاء العلني الأول بين رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ورئيس “المجلس السيادي” الفريق أوّل عبد الفتاح البرهان في أوغندا في شباط/فبراير من هذا العام.
التداعيات المحلية على السودان
أثار الاجتماع في أوغندا جدلاً محتدماً في الصحافة ووسائل التواصل الاجتماعي السودانية بشأن إيجابيات وسلبيات المصالحة مع إسرائيل. وكان نائب رئيس المجلس اللواء محمد حمدان دقلو، الملقب بحميدتي، المحرك الرئيسي لعملية التطبيع السريعة، علماً بأنه قائد “قوات الدعم السريع”، وهي منظمة عسكرية قوامها 70 ألف عنصر ومنفصلة عن الجيش السوداني ومتحدرة من الميليشيات التي تشكلت خلال الصراع الطويل في دارفور. وغالباً ما اتُهمت هذه القوات غير النظامية بارتكاب فظائع، لكن حميدتي ينفي هذه الاتهامات ولم يكن من بين المتهمين من قبل “المحكمة الجنائية الدولية” في لاهاي.
وفي حين التزم البرهان الصمت بشأن التطبيع في المجالس العلنية، إلّا أن حميدتي حشد الدعم له في التجمعات في مختلف أرجاء البلاد، معتبراً أن التعامل مع إسرائيل يصب في مصلحة السودان. وجاءت الاعتراضات الرئيسية من قبل رئيس الوزراء عبدالله حمدوك، الذي يترأس حكومة مدنية نشأت عن صيغة الشراكة التي تمّ التوصل إليها بين القادة العسكريين والتحالف السياسي “الحرية والتغيير”. وفي أيلول/سبتمبر، كان حمدوك لا يزال يسعى إلى فك الارتباط بين مسألة إسرائيل وتصنيف الولايات المتحدة للسودان ضمن قائمة الإرهاب. غير أن موقفه خفّ حالما اشترطت واشنطن بحزم بالتوصل إلى سلام مع إسرائيل لإنهاء العقوبات.
وفي غضون ذلك، أدى تطوير التعاون بين حميدتي وحمدوك إلى تحقيق انفراجة في الجهود المبذولة لإحلال السلام داخلياً، حيث وقّعت الجماعات المتمردة التي تمثلها «الجبهة الثورية السودانية» “اتفاق جوبا” في أوائل هذا الشهر. وتدعم كافة هذه الجماعات التقارب مع إسرائيل وتعارض الإسلام السياسي. وقد سبق لعبد الواحد النور – القائد المقيم في باريس لأقوى فصيل متمرد، “حركة تحرير السودان”، والتي لا تزال تتفاوض بشأن اتفاق السلام الخاص بها – أن أدلى بتصريح علني رحب فيه بالتطبيع. ومن المتوقع أن تحذو حذوه شخصية متمردة رئيسية أخرى هي عبد العزيز الحلو، قائد “الحركة الشعبية لتحرير السودان – شمال”. أما حمدوك، وهو خبير اقتصادي متمرس، فخلص على ما يبدو إلى أنه قد يستفيد من المزايا العملية للتطبيع للتغلب على معارضة الشيوعيين والناصريين والبعثيين والإسلاميين. وبالفعل، لم تنجح هذه الجماعات في تنظيم احتجاجات كبيرة ضد الاتفاق حتى الآن، كما أنها لم تنسحب من الحكومة.
ومن خلال وزير الخارجية عمر قمر الدين، يَعِد حمدوك الآن بمصادقة البرلمان على الاتفاق مع إسرائيل. غير أنه لم يتمّ بعد تشكيل المجلس التشريعي الذي كان من المفترض تأسيسه لتولي الفترة الانتقالية إلى حين إجراء الانتخابات في عام 2022. واستناداً إلى الترتيبات بين القادة العسكريين والسياسيين المدنيين في السودان، قد يمارس اجتماع مشترك بين “المجلس السيادي” ووزراء الحكومة صلاحيات البرلمان الذي لا وجود له [بعد]. وقد تسمح هذه الآلية لإسرائيل والسودان بتفعيل بروتوكولات التطبيع القادمة دون تصويت برلماني.
وفي الوقت الحالي، منح السودان إسرائيل الحق في استخدام مجاله الجوي من أجل تقصير الرحلات إلى أمريكا اللاتينية – وهي إحدى أولويات نتنياهو الطويلة الأمد لتعزيز العلاقات التجارية. كما يسعى السودانيون إلى الحصول على دراية وتكنولوجيات إسرائيل في قطاع الزراعة وغيره من القطاعات. وبفضل الإصلاحات الجذرية والاستثمارات الضخمة، يمكن أن تصبح البلاد في نهاية المطاف مصدر ثروة غذائية لشبه الجزيرة العربية وما يتخطاها – وقد أعرب الإماراتيون والسعوديون بالفعل عن اهتمام كبير بهذه الإمكانات. علاوةً على ذلك، من شأن الكهرباء المتدنية التكلفة من “سد النهضة” في إثيوبيا، على بعد أميال قليلة فقط من حدود السودان، أن تعزز احتمالات التعافي الاقتصادي في المستقبل غير البعيد.
وليس من الواضح في الوقت الحالي مدى سرعة توقيع إسرائيل والسودان على كل من البروتوكولات الفردية وافتتاح السفارات بين البلدين. ومع ذلك، يمكن الافتراض أن البرهان يحرص على إتمام ذلك بأسرع وقت ممكن – وبالتأكيد قبل كانون الثاني/يناير، عندما قد ياتي رئيس جديد للبيت الأبيض.
احتمالات للمزيد من اتفاقيات التطبيع؟
تنتظر معظم الدول العربية نتائج الانتخابات الأمريكية قبل القيام بأي مبادرات علنية تجاه إسرائيل. وتدرس المغرب وعُمان وقطر الفوائد المحتملة لتطوير علاقاتها مع إسرائيل – على الرغم من أن جيبوتي قد تتجاوز هذه الدول الثلاث في الطريق الوعرة المؤدية إلى القدس، والتي حثت الإمارات رئيس هذه الجمهورية على التفكير في هذه الخطوة. وفي نهاية المطاف، قد يؤدي نفوذ أبوظبي الكبير الممتد على ساحل شرق أفريقيا إلى نوع من التعاون بين إسرائيل والدولتين بحكم الأمر الواقع “صوماليلاند” (أرض الصومال) و “بونتلاند” (أرض البنط). كما ستكثف إسرائيل جهودها لإقامة علاقات مع دول الساحل ذات الأغلبية المسلمة، بما فيها موريتانيا، التي اعترفت بإسرائيل عام 1999 لكنها قطعت علاقاتها الرسمية معها بعد عقد من الزمن.
إيهود يعاري
معهد واشنطن