في السادس والعشرين من الشهر الجاري نوفمبر/ تشرين الثاني عُقد الاجتماع السادس للجنة الاستراتيجية العليا القطرية التركية في العاصمة أنقرة. ترأس الاجتماع أمير دولة قطر الشيخ تميم بن حمد، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان. وفيما أكد أمير قطر في تغريدة على حسابه عبر تويتر بأنها كانت (جولة ناجحة من المباحثات حول الشراكة القطرية التركية، واتفقنا على توظيف المزيد من إمكانيات بلدينا لتوطيد هذه الشراكة) فإن الرئيس التركي بدوره قال على حسابه (وقعنا عددا من الاتفاقيات، وسنواصل تعزيز تضامننا في المجالات كافة).
من الجدير بالذكر أن هذا اللقاء هو الـ28 في سلسلة لقاءات قمة بين الزعيمين خلال 70 شهرا. كما بلغت الاتفاقيات التي تم توقيعها بين الطرفين 52 اتفاقية، شملت جوانب كثيرة، كان آخرها 10 اتفاقيات منها، حصول قطر على 10% من أسهم بورصة إسطنبول من الصندوق السيادي التركي، وحق إدارة منشآت ميناء أنطاليا في الجنوب التركي، ومشروع تطوير خليج القرن الذهبي في إسطنبول، وإنشاء منطقة تجارة حرة بين البلدين، وكذلك الاستثمار في الصناعات الحربية التركية. وكل ذلك يدل دلالة راسخة على عمق هذه العلاقة، ومراهنة كلا الطرفين على تطويرها. وعلى الرغم من غلبة الطابع الاقتصادي على اللقاء الأخير، لكن أمير دولة قطر قال في تغريدته (تبادلنا الرأي في عدد من القضايا والتطورات الإقليمية والعالمية) وهو استحقاق تفرضه التطورات الأخيرة على الصعيد الدولي، بعد أن أوشك التغيير في الإدارة الأمريكية قاب قوسين أو أدنى، خاصة أن الرئيس ترامب كان يبدو وكأنه هو من أشعل فتيل الأزمة الخليجية.
كما أن الانفتاح الواسع على التطبيع، بين دول الخليج وإسرائيل، والذهاب إلى أبعد من ذلك في شكل تحالف استراتيجي، كان لابد أن يفرض نفسه على القمة، كما يحاول الطرفان ترتيب أوراقهما استعدادا للتعامل مع الإدارة الأمريكية الجديدة. وعلى الرغم من استحالة وجود تطابق تام في الرؤى بين أي دولتين في العالم، إلى حد الاستنساخ، لكن المشتركات بين البلدين كانت كبيرة، وكان التفاعل السياسي متناغما بشكل مريح. فقد كان موقفاهما متطابقا حول ثورات الربيع العربي، وكذلك في القضيتين السورية والليبية. ولأن هذه القضايا على درجة عالية من الأهمية، فإن ذلك يعطي انطباعا بأن التوافق في ملفات أخرى ممكن، خاصة في التعامل مع الإدارة الأمريكية المقبلة. فما تتوجس منه القيادة التركية في الوقت الحاضر، هو كيفية التعامل مع الرئيس الأمريكي المنتخب بايدن. فالأخير أعطى مؤشرات أحدثت نوعا من القلق لدى صانع القرار التركي، حينما كان قد صرح بأنه سيدعم المعارضة التركية، لإسقاط حكم الرئيس أردوغان، وكذلك تأييده لعقوبات تفرض على تركيا، في موضوع منظومة الصواريخ الروسية أس أس 400. في حين تبدو القيادة القطرية في وضع أفضل في هذا الجانب، وإن حصول تناغم سياسي بينها وبين بايدن في الملفات السياسية للمنطقة ممكن. وعليه فإن أنقرة قد تجد في الدوحة عنصر تقريب في وجهات النظر بينها وبين واشنطن، خاصة أن أي إدارة أمريكية مهما كان لونها وطبيعة سياستها، لا يمكن أن تنسى أن تركيا عضو مهم في حلف شمال الأطلسي، وأن القطيعة معها غير ممكنة. كما يمكن القول بأن الملف الإيراني كان حاضرا على طاولة البحث بين الزعيمين كذلك. فقد تواترت الأنباء قبل وأثناء انعقاد القمة، عن احتمالية شن الإدارة الأمريكية الحالية ضربات جوية ضد المنشآت النووية والصاروخية الإيرانية. كما أن وزير الدفاع الامريكي بالوكالة، كانت له زيارة غير مُعلنة إلى قاعدة العديد الجوية في قطر. هذا الموضوع يبعث على الشعور بعدم الارتياح لدى الزعيمين، لأن نشوء صراع في منطقة الخليج في هذه اللحظة، بوجود ترامب، يعني أن مدياته ستكون واسعة.
المعادلة في العلاقات الدولية لا تقوم على فائدة طرف دون الآخر، ولا تتأسس على المبدأ الذي تعمل به المنظمات الإنسانية
إن التهديدات التي تعرضت لها قطر من نسيجها الخليجي، والحصار الذي فُرض عليها، جعلها تنظر إلى تركيا على أنها نوع من العمق الاستراتيجي لها، وأي دولة في العالم عندما ترى أن محيطها، بات يمثل تهديدا وجوديا لها، فإنها تذهب في هذا الاتجاه. في ظل هذا الواقع أصبحت تركيا حليفا وضمانة.. ولأن المعادلة في العلاقات الدولية لا تقوم على فائدة طرف واحد دون الآخر، كما أنها لا تتأسس على المبدأ الذي تعمل به المنظمات الإنسانية، فمن الطبيعي أن تنظر أنقرة إلى المحفظة المالية للدوحة، وكونها سوقا تجاريا مهما لها. وهنالك اليوم حوالي 550 شركة تركية تعمل في قطر، ونفذت مشاريع بقيمة 20 مليار دولار. ولأن الاقتصاد التركي يعاني من أزمات مستعصية على وقع الانهيار الكبير في العملة المحلية، وارتفاع نسب البطالة والتضخم، فإن توسيع وتوطيد العلاقات التجارية مع الدوحة يعطي دفعة قوية للاقتصاد التركي. فإذا كانت تركيا قد سارعت للوقوف إلى جانب قطر في الأزمة السياسية، التي ألمت بها مع شقيقاتها الخليجيات، فإن استحقاق ذلك الموقف السياسي الذي دفع المخاطر بعيدا عن الدوحة، لابد أن يكون له ما يقابله في الأزمة الاقتصادية التي تعانيها أنقرة. هذا هو السياق الطبيعي للعلاقات الدولية والتحالفات الاستراتيجية بين الدول، حيث لا يمكن فصل الاقتصادي والتجاري عن السياسي والاستراتيجي. لكن هذا السياق من العلاقات يجبرنا على طرح العديد من التساؤلات.. لماذا لا يوجد هذا الأفق الواسع من العلاقات الاقتصادية بين دولنا العربية؟ لماذا لا يرتقي النظام الرسمي العربي إلى صيغة التحالفات البينية، كتلك التي يذهب لإقامتها مع الاخرين؟ لماذا لا توجد صيغة علاقة بين قطر ومحيطها العربي، كالتي بينها وبين تركيا؟ لماذا لا توجد صيغة علاقة بين الإمارات والبحرين ومحيطهما العربي بمثل هذه الحميمية والاندفاعة التي نراها بينهما وبين إسرائيل؟ لماذا لا توجد صيغة علاقة بين العراق وسوريا ومحيطهما العربي، كتلك التي نراها بينهما وبين إيران؟ لماذا لا نرى علاقة كالتي بين السعودية وأمريكا مع دول عربية؟ لماذا نرفع تأشيرات الدخول للسياح الإسرائيليين، ونمنع العرب من الدخول إلى بلداننا، كما فعلت الإمارات مؤخرا؟ الجواب على ذلك هو أن هذه الصيغ من التحالفات العربية مع دول المثلث غير العربي في المنطقة، هي نتيجة وجود صراع محاور محتدم هو جزء من الصراع الجيوستراتيجي الدولي في الشرق الأوسط. وهذا النوع من الصراع دفع النظام الإقليمي العربي إلى التلاشي تماما، وأفقد الدول العربية القدرة على التمييز بين هل هم هدف لتأثير خارجي؟ أم أنهم دول قادرة على تحقيق مصيرها، كل منها على حده أو جماعة على مستوى المنطقة.
أيضا نتج خلل بنيوي عميق في إدراك المصالح العربية، لذلك نجد التناقض عاما وشاملا بين كل الدول العربية، وحتى دول الخليج التي يضمها مجلس إقليمي ونسيج اجتماعي متشابه. كل هذا جعل العرب يفهمون ما يجب فعله بشكل مجزأ وليس موحدا، لذلك نجد بعضهم يريد علاقات مع إيران وغيرهم يرفض ويعتبرها عدوا، ونجد آخرين يريدون علاقات مع إسرائيل وبعضهم يرفض. يبدو أن هنالك حاجة ماسة إلى مركز متخصص لتخفيف حدة التناقضات بين كل الاطراف العربية.
د. مثنى عبدالله