التفاعل والاشتباك ما بين الخطاب السياسي والثقافي، فيه كثير من السرد والتخيّل، إذ لا يمكنه أن يكون أفقا واضحا لصياغة عقد اجتماعي جديد، بدون وجود السلطة، وهنا نعني «السلطة الصيانية» بالمعنى النمطي، أو بمعنى وجود المؤسسة التي تملك توصيف الهيكل القانوني والإطار الشرعي لتمثيل ذلك العقد، وللتعبير عن رمزية القوة الفاعلة، التي تتيح لها ممارسة صلاحيات مراقبة السرديات التي تصنعها الجماعات، فضلا عن الترويج لسياسات التطويع والترويض والإرضاء، وهي صلاحيات لم تنفصل عن تاريخ السلطة العربية، على مستوى توصيفها كإدارة لـ»الحسبة» أو للحكم أو للحماية، أو على مستوى وجودها السردي في «ثقافة العمران» كما يسميه ابن خلدون، حيث ترتبط بتأمين القدرة الحمائية لعصبوية الملك أو الحكم، ولمنح السياسي تمثيل تلك «العصبوية» مثلما تعطي للثقافي هامشه المحدود والمُراقَب في النقد والتعريف، والتوصيف، وحتى في صناعة حدود غير مفارقة لمفهوم تداولي للسلطة يقوم على فكرة النظر إلى إليها بوصفها «حكم الأفندية» أي حكم الجماعة والتجار والنخب والعسكر، وحالما تفقد هذه الجماعة قدرة «الغلبة والاستيلاء» تفقد شروطها في تمثيل أنموذج «دولة مضر» كما سماها فتحي المسكيني، بوصفها «سلطة العصاب» التي تعني نهاية تاريخية وزمنية، تفقد فيها تلك السلطة قدرتها على ممارسة إنتاج فعل القوة والبقاء والخطاب، أي كلّ ما يدخل في صناعة وتأطير عمل مؤسسات الحكم، وضبط مركزية السيطرة على البنيات التي تخصّ التجارة والتعليم والمعرفة والفكر، وليبدأ حكم «العشوائيات» أو «العصبويات المتشظية» في مراكز المدن وفي المعسكرات، أو عبر تريييف أو بدونة القوة، من خلال سلطة العشيرة والقبيلة، وهي بنيات شعبوية تتضخم فيها الأنثروبولوجيا والحكايات والسرديات، التي تعزز حكمها في السيطرة على نسق الدولة والمجتمع..
ما حدث بعد عام 2003 كشف الرعب التداولي لمفهوم الهوية، ولأزمة الشخصية العراقية وتمثلها لفكرة المعيش والعلاقة مع الآخر
الدولة العراقية لا تعدو أن تكون سوى تشييء لتلك السلطة، وأن تموضعها التوصيفي لا يجعلها أنموذجا استعاديا للتاريخ الخلدوني، بقدر ما يمنحها مجالا تمثيليا لتاريخ رمزي، ظلا محكوما بقيمة المكان/ العراق وحمولته الأنثروبولوجية، الذي ارتبط بالحكايات والسرديات والقصص والبطولات الدينية والمخيال التاريخي، وبأحداث كبرى تبدأ من مراحل نشوئية عند غزوات الخلافة، وإلى مكانٍ لخلافة الإمام علي ومقتله فيه، إلى حادثة كربلاء ومقتل الإمام الحسين، وصولا إلى الظواهر السياسية والسردية، التي ارتبطت بمدن ثقافية انتعشت فيها علوم الشعر والتصوف والنحو والترجمة مثل، البصرة والكوفة وبغداد، فضلا عن ارتباطها بظواهر ودول وجماعات مثل الدولة العباسية، وجماعة السلاجقة، وجماعة البويهيين وحركات ثقافية مثل المعتزلة وأخوان الصفا والمتصوفة، وحوادث مفارقة مثل حادثة مقتلة ابن المقفع، ومحنة البرامكة، ومحنة أحمد بن حنبل، وصلب الحلاج، وغزوات هولاكو وتيمورلنك، وحركات الزنج والقرامطة وغيرها..
منذ قرن كامل لم تستطع هذه «الدولة» أن تصنع نسقا واضحا وتداوليا لها، إذ عمد الاحتلال الإنكليزي بعد 400 سنة من الاحتلال العثماني، الذي غابت فيه الدولة مقابل حضور الولاية، وعبر إيجاد نسق تعويضي استعادي من خلال صناعة «هيكل» افتراضي للدولة، وفق الأنموذج الإنكليزي وليس التاريخي، حيث إيجاد تشكلات سياسية وتمثلات تنظيمية، أرادت من خلالها الحكومات الملكية والجمهورية أن تصنع جمهورا يتمثل لفكرة الشعب، ويقبل بالترويض وبشرعنة الحكم الجديد، وهو ما يعني فصلها عن تاريخ المدن والولايات، وعن اللاوعي الجمعي، الذي ظل يحكمها عبر المقدس والجماعة والميثولوجيا، حيث تفترض الحكومة، أي حكومة تأطيرا أيديولوجيا للحكم، بما فيها العسكرة، التي تشبعت بمفهوم القوة التي صنعها العسكر بنزعاتهم الانقلابية.
فعبر كثير من الانقلابات العسكرية التي بدأت منذ عام 1936 وإلى وصول البعثيين إلى الحكم، كان الدافع هو البحث عن تمثيل نسق السلطة عبر ظاهرة الحكم العسكري، حتى إن صدام حسين الذي لم يدخل أي مؤسسة عسكرية، ولم يشارك في أيِّ حرب من حروب العراق الطويلة، صار بين ليلة وضحاها جنرالا وبهيبة عسكرية، والدافع هو الحفاظ على النسق المضمر لمفهوم الحكم العسكري، الذي أسس تقاليده المتعالية ضباط تشبعوا بالعقيدة العسكرية «العصملية» بدءا من ياسين الهاشمي جعفر العسكري ونوري السعيد، وليس انتهاء ببكر صدقي صانع أول انقلاب عسكري في الذاكرة العراقية الملكية.
الشخصية وأيديولوجيا العنف
صورة الدولة الغائمة انعكست على صورة الجماعة والشخصية، فالمقدمات السسيولوجية التي تحدث عنها علي الوردي حول «شخصية الفرد العراقي» وفي كتابه «دراسة في طبيعة المجتمع العراقي» لا تكشف في جوهرها عن تحولات عميقة في مسار تلك الشخصية، وعلاقتها بالدولة والحضارة، والبداوة والحداثة، وبالدولة وبمفاهيم الإصلاح والتنوير والحرية، بل قدمت لنا توصيفا للحال الذي تعيشه تلك الشخصية في تناشزها وفي تناقضها، وفي معيشها المشوه داخل الإطار غير المؤَسس للنظام الاجتماعي، فالمجال المفهومي لثنائية «الحضارة والبداوة» لم يكن واضحا، كما أنّ الدولة لم تكن فاعلة في صياغة عقد اجتماعي حقيقي، والمجتمع لم يكن قابلا للانخراط في تشكيل سمات قانونية واضحة، على مستوى التنوع والتعدد، أو على مستوى الهوية والاندماج والتعايش في المكان المتحوّل، من الريف إلى المدينة، أو من البادية إلى المدينة، فما كان يحدث هو تشظٍ غير واضح تعيشه تلك الشخصية، مقابل ما تصنعه السلطة/ الدولة من مهيمنات ومركزيات لها علاقة بتكريس الحكم، وليس العمران.
الفرد العراقي لم يكن منتميا للدولة، إذ ظل مفهوم الانتماء لديه مشوها، تحكمه العصبية القبيلية والطائفية والقومية، أكثر مما تحكمه منظومة القوانين التي سعت الدولة لتطويعه وترويضه من خلالها، وحتى بعد نشوء الأحزاب والأيديولوجيات ظل مفهوم الترويض ذا بعد عصابي تعويضي واستيهامي، أكثر من كونه ذا حمولات طبقية أو اجتماعية، وعبر أقنعة أيديولوجية تقوم على فكرة الطاعة، والالتزام، وهذا ما اعترف به الوردي في كتاباته، على مستوى توصيفه للشخصية المدينية، أو الشخصيات الريفية والبدوية، أو حتى على مستوى علاقتها بالسيطرة والاحتكار وفرض الرأي والقيمة الطبقية والتمتع بالحقوق الاجتماعية أو الطبيعية.
تصادم الشخصية العراقية داخل المكان/ المدينة/الدولة تكشف عن تصادم أنثروبولوجي بين مهيمنات الثقافة والطبيعة، فبقدر ما أن المدينة/ بغداد قد تحولت في القرن التاسع عشر إلى أنموذج لمشروع يتمثل المدينة الحديثة تجاريا في أسواقها وحرفها ونمط حياتها، وتعايش مكوناتها الهجينة، وخدماتيا عبر مؤسسات الحكومة/ السراي، وحيث البيمارستانات، وحيث خط التراموي الجديد، وفي أماكن لهوها عبر المقاهي، والملاهي، فإن الشخصية ظلت عائمة، ولم تتبلور ملامح لمدينيتها، إذ ظل الاغتراب ملازما لها، اغتراب عن الحداثة، وعن المكان والمعيش والاندماج والمتعة، وحتى نشوء طبقة «الأفندية» أي الموظفين الحكوميين، لم يؤشر إلى تحول كبير، إلّا لأبناء الأثرياء والعوائل التجارية والقريبين من مجال الولاية العثمانية.
الشخصية العراقية والهوية
قد يبدو موضوع الهوية ملتبسا وغامضا، وخاضعا لمقاربات عدة، ولأسئلة مفتوحة، تخصّ التأطير والمعنى والمرجع، مثلما تخص الوظيفة، وعلاقة ذلك بالمكان والسلطة والنظام الاجتماعي، والعلاقة مع الآخر، فضلا عن علاقة الهوية المتشظية بالهوية الجامعة، وعلاقته كذلك بترسيم حدود الشخصية العراقية، ولعل ما يجري من صراع إثني وطائفي وجماعوي ينعكس بشكل أو بآخر على المفهوم التداولي للمجتمع، وعلى فكرة «الهوية الوطنية» وهو ما أكده ثامر عباس في حديثه عن «الهوية الملتبسة» إذ ربط بين ضعف الشخصية الاجتماعية والفردية، وضعف الهوية الوطنية لأي شعب، لاسيما وسط تموضع هذه الشخصية وخضوعها لكثير من «التوترات السياسية وسيادة العنف وديمومة الاستبداد والديكتاتورية» وتحوّل الدولة إلى مركز مكثف للسلطة.
إن ما حدث بعد عام 2003 كشف عن الرعب التداولي لمفهوم الهوية، ولأزمة الشخصية العراقية وتمثلها لفكرة المعيش والعلاقة مع الآخر، فكلا الأمرين واجها أوضاعا معقدة، على مستوى توصيف الظواهر- الوطن، الجماعة، الدين، المجتمع، الحق، العدالة، المواطنة، الانتماء – كذلك على مستوى علاقة الأكثرية بالأقلية، وبالمكونات غير الإسلامية كالمسيحيين والصابئة والأيزيديين، إذ كشفت عن أزمة التاريخ، مثلما تحولت هذه العلاقات إلى واقع اضطهادي في عديد مظاهره، وإلى منصات إشهار عصابية التكفير والتخوين والطرد، وهو ما يعكس غياب البنية الإطارية الكبرى التي تمثلها الدولة، ليس بوصفها عصابا كليانيا على طريقة ابن خلدون، بل بوصفها مؤسسة حمائية، تحتاج إلى ما يشبه ثقافوية الاعتراف الذي تحدث عن أكسل هوينث، حيث الحب والحق والمشاركة والتذاوت، والتواصل، والتضامن، وحيث سمو فكرة القانون الذي يمكن أن يتحول إلى متراس، وإلى طريق يلجأ إليها الضعفاء والمهمشون ليواجهوا القوة المضادة، الغاشمة التي تصنعها مهيمنات المركز الذي يبتكر لوجوده نصا/ خطابا، وتأويلا يختلط فيه المقدس والغلو والصفاء البراديغمي..
قد تعد اللحظة العراقية معنية بـ»عودة الوعي» مع وهم الديمقراطية، إذ برزت مع هذه اللحظة شخصية مغامرة، تحلم بالتعويض، وبالسلطة أيضا، ورغم أن الاحتلال هو الذي صنع الظاهرة، إلّا أن الغلو المرآوي الذي استشاطت به الشخصية جعلها تتوهم هوية افتراضية، ووجودا مغلولا إلى التاريخ، وهذا ما جعل علاقة تلك الشخصية بمفهوم الدولة يمرّ عبر سيميائية الاعتراف بها أولا، وعبر هوية السلطة التي تصنعها ثانيا، وعبر ربط تلك الهوية باللاوعي المجروح تاريخيا وسياسيا..
علي حسن الفواز
القدس العربي