تضاربت التكهنات حول موقف إدارة الرئيس بايدن من الملف النووي الإيراني، إذ اعتقد المتفائلون أن الرئيس الجديد سيعود للاتفاق النووي، ما أن يضع قدميه في المكتب البيضاوي، بينما أشار المتشائمون إلى أن قرار العودة صعب جدا، إن لم يكن مستحيلا بشروطه القديمة، التي وافق عليها الرئيس أوباما في تشرين الأول/أكتوبر 2015. لقد جرت تحت الجسر مياه كثيرة طوال عهدة الرئيس ترامب، وتغير بناء على ذلك الكثير من المواقف، ما يستوجب اليوم، بالضرورة، إعادة النظر في تفاصيل الاتفاق وتعديلها بما يتلائم والأوضاع الجديدة.
ويبدو مأزق الوضع الحالي بين طهران وواشنطن ملخصا في سؤالين، من سيقدم على اتخاذ الخطوة الأولى؟ وما هو حجم التنازلات التي سيقدمها كل طرف لتسهيل العودة إلى الاتفاق النووي؟ مع معرفة الطرفين الأكيدة، بأن عدم العودة للاتفاق النووي بأسرع وقت، تعني خسارتهما لأوراق ستصعب استعادتها، بعد أن تفوت الفرصة.
تصريحات إدارة بايدن المبكرة، التي شملت تصريحات وزير الخارجية أنتوني بلينكن، ومستشار الأمن القومي جاك سوليفان، وحتى الرئيس بايدن نفسه حول موضوع العودة للاتفاق النووي، شابها نوع من الحذر، فمع تأكيد الكل على أهمية العودة للاتفاق النووي، والإشارة إلى أن هذا المسار هو الطريق الوحيد لضبط سلوك إيران، ومنعها من الوصول إلى السلاح النووي الذي سيزلزل استقرار المنطقة، إلا إنهم ربطوا هذه العودة بالتزام إيران بشروط الاتفاق، وجعلوا هذا الأمر شرطا لعودة الولايات المتحدة للاتفاق. كما أن التصريحات الأمريكية الرسمية كانت واضحة في إشارتها إلى وجوب إجراء تعديلات على شروط الاتفاق القديم، إذ تضمنت التعديلات المطلوبة إدخال برنامج الصواريخ البالستية الإيراني، ضمن شروط السيطرة والمراقبة الدولية، وإشراك أطراف إقليمية في الاتفاق، إذ طرحت فكرة إدخال المملكة العربية السعودية، ودولة الإمارات كأطراف إقليمية جديدة في الاتفاق النووي الجديد. التصريحات الإيرانية الأولية حول الاتفاق النووي انطلقت مبكرا، مستبشرة بفوز الرئيس بايدن بالانتخابات في تشرين الثاني/نوفمبر الماضي، ووضعت حكومة روحاني سقفا عاليا لمطالبها، تضمن الإيقاف الفوري لحزم العقوبات التي فرضتها إدارة ترامب، وعودة إدارة بايدن للاتفاق النووي من دون تغيير أو تعديل بنوده، بالإضافة إلى دفع تعويضات لإيران عما أصابها من أضرار منذ أيار/مايو 2018 عندما انسحب الرئيس ترامب من الاتفاق وأعاد العمل بالعقوبات الاقتصادية المفروضة على إيران حتى الآن.
المجتمع الإيراني يعلم أن خروجه من أزمته الخانقة لا يمكن أن يمر إلا من خرم إبرة العودة للاتفاق النووي
ابتدأ الفتور يظهر في التصريحات الأمريكية الرسمية، إذ صرح المتحدث باسم الخارجية الأمريكية نيد برايس مطلع شهر شباط/فبراير الجاري قائلا «لم نجرِ أي مناقشات مع الإيرانيين، ولا أتوقع أن نشرع في ذلك قبل المضي قدماً في تلك الخطوات الأولية» وأضاف «هنالك الكثير من الخطوات في تلك العملية، قبل أن نصل إلى النقطة التي سنتفاوض فيها على نحو مباشر مع الإيرانيين، ونكون على استعداد لقبول أي نوع من المقترحات». تصريحات الخارجية الأمريكية الباردة، كانت نوعا ما ردا على مقترح وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف، الذي طالب فيه الجانب الأمريكي بالعودة المباشرة إلى الاتفاق النووي بشروطه القديمة، بل رفع ظريف سقف مطالبه وطالب واشنطن بأن تكون العودة للاتفاق الذي مزقه الرئيس ترامب متزامنا مع رفع العقوبات التي فرضها على إيران. لكن اللافت في تصريحه الأخير في الاول من فبراير الجاري، بدا تراجع محمد جواد ظريف واضحا، إذ رد على سؤال في مقابلة مع شبكة (CNN) الإخبارية حول كيفية تقريب وجهات النظر بين واشنطن وطهران، قائلا «يمكن أن تكون هناك آلية تحدد إما تزامن هذه الخطوات، أو تنسق ما يمكن القيام به». كما أشار ظريف إلى أن جوزيب بوريل، مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي، يمكن أن «ينسق» هذه الخطوات. لكن، ما الذي تمتلكه طهران لتضغط به على واشنطن وحتى على المجتمع الدولي؟ بالمقابل هل ستتمكن إدارة بايدن من تطوير موقفها التفاوضي، انطلاقا مما حققته عقوبات ترامب على إيران لتضغط عليها أكثر، وتفوز بتعديل شروط الاتفاق؟ هذان هما السؤالان المحوريان في معركة عض الاصابع الدائرة حاليا بين طهران وواشنطن.
طهران تمتلك أوراق ضغط تتركز في خرقها قوانين رقابة منظمة الطاقة الذرية الدولية، فبعد أن كانت تنتج يورانيوم مخصب بتركيز 3% فقط، والمخصص كوقود لمحطة بوشهر لتوليد الطاقة الكهربائية، تحولت لإنتاج يورنايوم مخصب بتركيز 20% الخاص بالأبحاث، وفي31 كانون الثاني/ يناير2021، أعلنت طهران أنها أنتجت 17 كيلوغراماً من اليورانيوم المخصب بنسبة 20%، ما يجعلها على بعد خطوة من تخصيب اليورانيوم بنسبة 90% الصالح للاستخدام في صنع الأسلحة النووية، لذلك حذر المدير العام للوكالة الدولية للطاقة الذرية رافائيل ماريانو غروسي بقوله «من الواضح أننا لا نمتلك عدة أشهر. لدينا أسابيع لاستعادة خطة العمل الشاملة المشتركة» في إشارة إلى أن وصول إيران لنقطة اللاعودة في تخصيب اليورانيوم بات قريبا جدا. لذلك لم يكن تصريح وزير الخارجية الأمريكي أنتوني بلينكن الأخير حول الموضوع تهويلا أو تضخيما للخطر عندما قال في مقابلة مع تلفزيون (NBC) يوم الاثنين الأول من فبراير «إن إيران ربما تكون على بعد أسابيع من امتلاك مواد لسلاح نووي إذا واصلت خرق الاتفاق النووي». وجاءت التصريحات الإسرائيلية متزامنة مع هذا التصريح ومؤكدة لها، إذ حذر رئيس الأركان الإسرائيلي الجنرال أفيف كوخافي بقوله «إن الجيش الإسرائيلي أعد خططاً هجومية محتملة على إيران، بهدف إحباط محاولاتها للاقتراب من قنبلة نووية» وأضاف محذراً، أن «أي عودة أمريكية إلى الاتفاق النووي مع طهران ستكون خطأ» وأضاف في مؤتمر بمعهد دراسات الأمن القومي بجامعة تل أبيب، أنه «في ضوء هذا التحليل الأساسي، أصدرت تعليماتي للجيش الإسرائيلي بإعداد عدد من الخطط العسكرية، بالإضافة إلى تلك الموجودة بالفعل» مشيراً إلى أن «الأمر سيكون متروكاً للقيادة السياسية، لاتخاذ قرار بشأن تنفيذ أي هجمات ضد إيران، لكن هذه الخطط يجب أن تكون مطروحة على الطاولة».
إن ادارة بايدن تضع نصب عينيها من دون شك التغيير المقبل الذي سيحصل نتيجة انتخابات الرئاسة الايرانية في يونيو المقبل، واحتمالية سيطرة المحافظين على رئاسة الجمهورية، كما سيطروا قبل ذلك على البرلمان، لأن هذا الأمر يكاد يكون شبه مؤكد. علما أن التصعيد الأخير الذي حصل في خرق الرقابة الدولية على البرنامج النووي الإيراني الذي أدى إلى زيادة تخصيب اليورانيوم، جاء بناء على قرارات البرلمان الإيراني الذي يسيطر عليه المحافظون، وأن هذه القرارات صدرت ردا على حزم عقوبات ترامب الاقتصادية، ما يعني أن توترا وتعنتا في المواقف مقبل لامحالة بعد عدة أشهر فقط.
الاقتصاد الايراني اليوم لم يعد واقفا على حافة الانهيار، بل انزلق إلى مراحل متقدمة من الانهيارات، التي انعكست بشكل دراماتيكي على الوضع السياسي الايراني الداخلي الذي شهد طوال العامين الماضيين تظاهرات شعبية كبيرة في العديد من المدن الايرانية احتجاجا على الوضع الاقتصادي المتردي، واليوم بات المجتمع الايراني يعلم جيدا أن المخرج الإيراني الوحيد من أزمته الخانقة لا يمكن أن يمر إلا من خرم ابرة العودة للاتفاق النووي، الذي سيعقبه الانفراج الاقتصادي، فهل تتنازل إدارة بايدن، وتتخذ الخطوة الأولى بالعودة إلى الاتفاق النووي وتظهر حسن النوايا؟ لتقابلها حكومة روحاني بالتنازل عن تشددها وطلبها التعويضات عن الأضرار التي أصابت إيران نتيجة العقوبات الاقتصادية؟
صادق الطائي
القدس العربي