تساءلت مجلة “إيكونوميست” في مقال افتتاحي عن السياسة الأمريكية في الشرق الأوسط، وماذا الذي يجب على إدارة جوزيف بايدن عمله للخروج من “عش الدبابير” مشيرة إلى أن الوضع معقد بشكل كبير.
والحل بالنسبة للمجلة هو ضرورة توقف أمريكا عن التأرجح بين الحرب والسلام. وبدأت بالقول إن بايدن لم يخف إحباطه بالسعودية “منبوذة” و”بقيمة اجتماعية قليلة مستردة”، كما وصف حكومتها في 2019. وكان أول عمل قام به كرئيس، هو الدعوة لوقف الحرب التي تقودها السعودية في اليمن.
وأصدر بايدن الأسبوع الماضي التقرير الاستخباراتي الذي أشار لتورط ولي العهد محمد بن سلمان في جريمة قتل الصحافي جمال خاشقجي عام 2018. وفي الوقت نفسه تصادمت مُثل بايدن مع المصالح القومية الأمريكية. وربما كان بن سلمان غاشما، إلا أنه يسيطر على دولة حليفة لأمريكا. وقرر بايدن في النهاية أن ثمن معاقبة ولي العهد قد يكون باهظا. وترى المجلة أن هذا هو جزء من التحليل الذي يدور في واشنطن حول الثمن ومنافع العلاقة الأمريكية مع الشرق الأوسط.
وأشار بايدن إلى أنه يريد وضع المنطقة في القائمة الدنيا من أولوياته. ولديه سبب وجيه للانسحاب، فلدى أمريكا آلاف الجنود في الدول العربية، إلا أن التدخلات العسكرية أدت لنتائج صارخة. ويرى الكثير من الأمريكيين أن على بلادهم توجيه نظرها لمواجهة الصين وتأثيرها العالمي.
والسؤال الذي يواجه بايدن يتعلق بكيفية تخفيف العبء الأمريكي في الشرق الأوسط، وفي الوقت نفسه العمل على حماية مصالح واشنطن الحيوية فيه، وهذه مهمة ليست سهلة.
وما يساعده في هذا هو أن المصالح التي يريد حمايتها لم تعد كما كانت في الماضي. فقد ركزت الولايات المتحدة في سياستها على نفط الخليج ونجاة إسرائيل. وفي العام الماضي كانت أمريكا مصدرا مهما للنفط والغاز الطبيعي. وعقدت إسرائيل الأكثر تسليحا بالمنطقة، اتفاقيات تطبيع مع عدد من الدول العربية. ومع ذلك فالمصالح الحيوية باقية، فقد وجدت الجماعات الإرهابية ملاجئ آمنة في العراق وسوريا واليمن وربما حاولت ضرب الغرب. ولو حصلت إيران على القنبلة النووية، سيؤدي ذلك إلى سباق تسلح في المنطقة ويضعها على حد السكين، ويمزق نظام الحد من انتشار السلاح النووي.
وفي الماضي، حاولت أمريكا فرض حلول سحرية، وحاول جورج دبليو بوش فرض الديمقراطية على العراق، وفرض دونالد ترامب العقوبات على إيران لدفعها إلى الاستسلام وتغيير النظام فيها. وفي الوقت الذي فشل فيه النهجان، ظلت السياسة الأمريكية تتأرجح بين المصلحة واللامبالاة والحرب والانسحاب.
ويحاول بايدن بدلا من ذلك جلب الاستقرار، عبر دفعه المنطقة لتحمل المسؤولية عن نفسها وتقليل اعتماد قادتها على القوة العسكرية. فصفقات السلاح الأمريكية للديكتاتوريين هي مصدر المشاكل. ولا تفعل الكثير لمساعدة شعوب المنطقة الذين يعانون من سوء الحكم والأنظمة القمعية والتي تعزز بدورها التطرف.
ولاحظ معهد “راند” في الفترة الأخيرة أن أمريكا تنفق على الجيش المصري أكثر مما تنفقه من مساعدات لكامل المنطقة. وعلى بايدن إلغاء الصك المفتوح للقمع والأذى. أما الدعامة الثانية للإستراتيجية، فهي تعزيز قدرة الشرق الأوسط الدبلوماسية وبخاصة الاتفاقيات التي عقدتها إدارة دونالد ترامب وأطلقت عليها “اتفاقيات إبراهيم” وأدت للتطبيع بين دول عربية وإسرائيل، وهي خطوة أولية نحو تقوية آلة الدبلوماسية وتحديثها.
ويجب على إدارة بايدن تشجيع مزيد من المحادثات، فقد صُدمت السعودية والإمارات بسبب عدم مسارعة ترامب لنجدتهما بعدما تعرضتا لهجمات من الجماعات الوكيلة عن إيران في المنطقة. وتعاني إيران بسبب العقوبات الأمريكية عليها. ويعطي قلق الإيرانيين ورقة ضغط لبايدن بالتأكيد أن تخفيض التوتر هو من مصلحة الجميع. ولا يعني تشجيع الدبلوماسية سحب القوات الأمريكية، فقد ساعدت على هزيمة تنظيم “الدولة” والقاعدة اللذان لا يزالان ناشطان.
وعادة ما تنجح القوة الناعمة عندما تكون القوة الصلبة حاضرة في الإطار الخلفي. فالغارات الأمريكية الشهر الماضي على الجماعات الموالية لإيران في العراق، كانت رسالة لحكومة طهران أن بايدن لن يبدأ المفاوضات حول إحياء الاتفاق النووي. وتقول المجلة إن الحديث ليس سهلا، لكن لو أرادت أمريكا التركيز أقل على هذه المنطقة المضطربة من العالم، فهذا هو الطريق للأمام.
وتقول “إيكونوميست” في تقرير بعنوان “الخروج، الفصل 41: هل يستطيع بايدن إخراج أمريكا من الشرق الأوسط” إن باراك أوباما حاول توجيه سياسته نحو آسيا، لكن الربيع العربي وصعود تنظيم “الدولة” والمفاوضات مع إيران شغلته حتى نهاية رئاسته. ثم جاء ترامب متبجحا بأنه سيوقف الحروب الدائمة، فانتهى بإرسال 14 ألف جندي أمريكية إلى المنطقة، ولم يفعل الكثير ليخفف التزامات أمريكا الواسعة تجاه المنطقة.
وسيحاول بايدن تقليل اهتمامات أمريكا بالشرق الأوسط. فقد انتظر طويلا لكي يتصل برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو حتى 16 شباط/ فبراير، حيث دافعت المتحدثة باسم البيت الأبيض جين ساكي عن التأخير، وأنه ليس متعمدا. وبعد ذلك بأسبوع، اتصل بايدن بالملك سلمان، قبل يوم من رفع السرية عن تقرير حول مقتل خاشقجي يظهر تورط محمد بن سلمان بالجريمة.
وقالت المجلة إن الرئيس بايدن خيب آمال الكثيرين عندما قرر عدم معاقبة ولي العهد السعودي، ولكنه اختار عدم التصعيد، ويريد من حلفائه في المنطقة التعوّد على الانعزال الأمريكي الجديد. فقد أوقف بايدن صفقات الأسلحة للسعودية، وطلب مراجعة للصفقات مع الإمارات، ولم يظهر اهتماما بإحياء المحادثات السلمية بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وهي الكأس المقدسة التي لاحقها أسلافه.
وبدأ وزير دفاعه لويد أوستن بمراجعة انتشار القوات الأمريكية في الخارج، والذي قد يؤدي إلى التفكير بالتحول عن الخليج. وقال مارتن إنديك من مجلس العلاقات الخارجية الأمريكية: “هذا شيء كبير لا يمكن لقادة المنطقة هضمه”. وهذا أمر غير متوقع من الخبراء أصحاب الميول اليسارية. ففي العام الماضي كتب إنديك الذي عمل سفيرا في إسرائيل مقالا بصحيفة “وول ستريت جورنال” بعنوان “لم يعد الشرق الأوسط مهما”.
وترى المجلة أن أولويات السياسة الأمريكية تغيرت، فلم تعد تهدف إلى تأمين النفط من دول الخليج، فأمريكا تستورد النفط من المكسيك أكثر من دول الخليج، وتنتج المزيد منه عبر النفط الصخري، كما أن نجاة إسرائيل لم تعد أولوية بعد اتفاقيات التطبيع الأخيرة. ولم يعد الشرق الأوسط ممزقا بسبب النزاع العربي- الإسرائيلي أكثر من تمزقه بسبب الصراع السني- الشيعي، والذي اصطفت فيه إسرائيل مع الدول العربية السنية ضد إيران.
وفي مقال مشترك نشرته دورية “فورين أفيرز” العام الماضي وكتبه جيك سوليفان، مستشار الأمن القومي الأمريكي الحالي، ودانيال بينيم، مساعد وزير الخارجية لشؤون الجزيرة العربية، أن التحول عن الشرق الأوسط لا يعني الخروج منه، ولكن دبلوماسية ذكية تسمح بتخفيض مستمر للقوات العسكرية. لكن هناك معوقات تعرقل الخروج، وأبرزها إيران. ومن بين أول القرارات لبايدن هي دعوته للحد من تأثير طهران في المنطقة، ومطالبته بوقف الحرب التي تدعم فيها المتمردين الحوثيين في اليمن.
وكان الاتفاق النووي الإيراني أكبر إنجاز لأوباما، ولكن ترامب اعتبره “أسوأ اتفاق” وألغاه في 2018، وأعاد فرض العقوبات على إيران. وحتى مع انهيار العملة الإيرانية وانتشار كوفيد-19، ردت طهران بـ”أقصى مقاومة” على استراتيجية ترامب “أقصى ضغط”. وزادت من تخصيب اليورانيوم وخرقت شروط الاتفاق النووي بعدم استخدام أجهزة الطرد المركزي، وهي اليوم أقرب للقنبلة النووية مما كانت عليه عندما مزّق ترامب الاتفاق، وتظل تؤكد أن المشروع كله من أجل الأغراض السلمية. وأعلنت إدارة بايدن عن استعدادها للعودة إلى الاتفاق، لكن طهران رفضت لقاء وجها لوجه في نهاية شباط/ فبراير، قبل التزام أمريكا برفع العقوبات.
ويصر المسؤولون الأمريكيون على ضرورة التزام إيران بالاتفاق النووي قبل تخفيف العقوبات. وكل طرف يحاول اكتشاف ما يريده الطرف الآخر، ويناور مع أن الفترة الزمنية قليلة قبل الانتخابات الإيرانية في حزيران/ يونيو المقبل، وظهور حكومة متشددة بحسب ما هو متوقع، سيكون من الصعب على إدارة بايدن التعامل معها. وهو ما يدعو لفترة انشغال في الربيع.
ويقول علي فائز من مجموعة الأزمات الدولية في بروكسل: “لقد شاهدت هذا الفيلم من قبل”، وتذكّر كيف طلب كل طرف في الاتفاق الأول التحرك أولا و”عندما أنظر لطاقم الشخصيات في هذه الإدارة أعجب لماذا تركوا الاتفاق ينهار أمام ناظريهم”.
وحتى وقت قريب كان رئيس فائز، هو روبرت مالي، المفاوض في عهد كلينتون وأوباما، والذي أصبح مبعوث بايدن لإيران. وقبل مغادرة مالي منصبه، نشرت المجموعة تقريرا ضمنته توصيات للإدارة الحالية منها التزام أمريكي بدعم القرض الذي طلبته إيران من صندوق النقد الدولي لمواجهة كوفيد-19، وجدول زمني للمفاوضات، وعودة إيران للالتزام بالاتفاق النووي، إضافة لتخفيف العقوبات عنها.
وبعد الانتخابات الإيرانية يمكن للإدارة الأمريكية متابعة اتفاق “أطول وأقوى” ويتضمن تطبيعا اقتصاديا وضمانات طويلة الأمد لبرنامج نووي سلمي، والحد من برامج إيران في الصواريخ الباليستية. ويرى مساعدو بايدن أن مراجعة الدبلوماسية مع إيران يمكن أن تخلق قاعدة تقوم من خلالها أمريكا بالدفع في اتجاه الحوار بين دول المنطقة لإنهاء حروب الوكالة.
وتريد الإدارة الحالية البدء في اليمن الذي يلقي بظلاله على ضمير الكثير من المسؤولين الحالين في إدارة بايدن بسبب دعم أوباما للجهود السعودية. وزاد بايدن من الجهود لوقف الحرب التي ترى الأمم المتحدة أنها خلقت أكبر كارثة إنسانية في العالم. وعيّن بايدن مبعوثا خاصا لليمن، وهناك إشارات عن تقدم على الاقل بين الأطراف الخارجية. وينتظر أن يظهر المتحاربون اهتماما بوقف الحرب. وبحسب رؤية سوليفان، مستشار الأمن القومي، فهناك حاجة لإطار جديد للمنطقة يتم من خلال حل الخلافات بين الأطراف إلى جانب الدبلوماسية النووية، وهذا سيمنح أمريكا فرصة لتخفيض وجودها العسكري.
وفي النهاية تجد الإدارات الأمريكية المتعاقبة سهولة في الحديث عن حرف الانتباه عن الشرق الأوسط أكثر من عمله، كما يقول كريس ميرفي، السناتور الديمقراطي وعضو لجنة العلاقات الخارجية في مجلس الشيوخ: “دائما هناك أزمة”. و”هناك دائما شيء جديد ومثير يحدث في الشرق الأوسط في وقت يظل فيه المسار الصيني بطيئا وثابتا”.
القدس العربي