توجّه البابا فرانسيس، رأس الكنيسة الكاثوليكية في العالم، عشيّة زيارة له إلى العراق تبدأ اليوم الجمعة ببث رسالة مصوّرة له يقول فيها إنه يزور العراق «حاجا تائبا كي التمس من الرب المغفرة والمصالحة بعد سنوات الحرب والإرهاب» وأنه يتوق لمقابلة ورؤية وجوه العراقيين «وزيارة أرضكم مهد الحضارة العريق والمذهل» وأتبع البابا رسالته تلك بتغريدة اختار أن تكون باللغة العربية قال فيها: «غدا سأتوجه إلى العراق في رحلة حج لمدة ثلاثة أيام» مشيرا إلى أنه كان يرغب منذ فترة طويلة في «لقاء هذا الشعب الذي عانى كثيرا».
تحمل زيارة البابا والكلمات التي يوجهها للشعب العراقي الكثير من المعاني والإشارات الرمزيّة الكثيفة، وأوّلها إبداء تواضع دينيّ محمود بوصفه نفسه كـ»حاج تائب» وبـ»طالب للمغفرة والمصالحة» ويعتبر التواضع من مزايا هذا البابا القادم إلى رئاسة الكنيسة من بلاد تتلطّف أدبيات السياسة والاقتصاد أحيانا باعتبارها من دول العالم «غير النامية» فيما تقوم أدبيات أخرى بتوصيفها بالدول «المتخلفة والفقيرة».
يعبّر هذا التواضع، من جهة أخرى، عن رغبة بالتعبير عن «وحدة الحال» التي تجمع بين العراقيين، وأمثالهم من أمم الأرض، كأبناء أمريكا اللاتينية التي جاء منها البابا الأرجنتيني الأصل، حيث تحدث عن معاناة العراقيين، كما يمكن استنتاج نقد خفيف لأحد أسلافه من إحدى الجمل التي قال فيها إنه «لا يمكن خذلان الناس مجددا» في إشارة إلى عدم تمكن البابا الراحل يوحنا بولس من زيارة العراق عام 2000 (لكنه زار القدس في العام نفسه وصلّى عند حائط البراق).
باستخدامه وصف «مهد الحضارة العريق» على العراق يضيف البابا بعدا آخر مهما للزيارة، وهو البعد الحضاري الذي تمت إهانته وتحطيمه خلال صراع بدا، في أذهان الكثيرين، على أنه صراع بين حضارتين ودينين، وذلك بعد أن اجتاحت الولايات المتحدة الأمريكية، وعدد من حلفائها الغربيين، العراق عام 2003، وكانت إحدى الصور التي لا تنسى، خلال تلك الحرب، حماية جيش الاحتلال لوزارة النفط، فيما تُركت المعالم الحضارية، ومنها المتحف الوطني العراقي، لنهب الناهبين.
تشير تفاصيل المواقع التي سيزورها البابا إلى أنه سيزور بغداد ليلقي كلمة في كنيسة «سيدة النجاة» في حيّ الكرادة، كما سيزور، من بين مواقع عديدة أخرى، مدينة النجف، التي تعد العاصمة الروحية لمجمل شيعة العالم، حيث سيلتقي بالمرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني (الذي نادرا ما يلتقي زوارا) وهو ما سيعتبر بالتأكيد لقاء رمزيّا تاريخيّا، يأتي بعد لقاء رمزيّ آخر عقده البابا مع شيخ الأزهر، والذي تعتبره بعض الأوساط السياسية والدينية، رمزا للإسلام السني، في الفاتيكان، عام 2017.
التقى البابا بشيخ الأزهر و«بمجموعة من كبار علماء المسلمين» عام 2019، في أبو ظبي، وهو أمر لا إشكالية عليه من حيث المبدأ، وقد تردّدت خلال تلك الزيارة فكرة «وحدة الأديان الإبراهيمية» وهي فكرة يؤمن بها أتباع ديانات «أهل الكتاب» والمسلمون منهم خصوصا، لكن هذا الشعار تم استخدامه أيضا ضمن دعوات ظاهرها «التسامح الديني» وباطنها استخدام الدين لتبرير قضايا سياسية تثير الخلاف بدل أن «توحّد» أتباع هذه الديانات، كما أنها تظلم شعبا أغلبيته من المسلمين، هو الشعب الفلسطيني، وتتقرّب من قيادة يمينية متطرّفة وعنصرية في إسرائيل.
سيزور البابا أيضا مدينة أور في محافظة ذي قار، التي يعود تاريخها إلى ما قبل المسيحية، ويعتقد أنها المكان الذي ولد فيه النبي إبراهيم، وسيقيم البابا في تلك المدينة مراسم تجمع الأديان المختلفة مع أقليات صغيرة كالإيزيديين والصابئة، كما سيزور الموصل، التي اختارها تنظيم «الدولة الإسلامية» لإعلان نشوء «الخلافة» في العام 2014، لكنها أيضا أهم مدن محافظة نينوى، التي هي مركز الطائفة المسيحية، وبذلك تكتمل رحلة «الحاج القادم بالسلام» وتمتلئ بالمعاني، التي تعيد للعراق بعضا من أهمّيته الكبيرة في تاريخ الإنسانية والأديان والمنطقة.
القدس العربي