الأحزاب والميليشيات الشيعية تكتم أنفاس معارضة ناشئة من داخل خزانها البشري

الأحزاب والميليشيات الشيعية تكتم أنفاس معارضة ناشئة من داخل خزانها البشري

الاستهداف الاستثنائي للنشطاء من أبناء الطائفة الشيعية في العراق ولبنان وراءه خشية الأحزاب والميليشيات التي تنتمي إلى نفس الطائفة من تنامي حركة معارضة لها من داخل المكوّن المجتمعي الذي تعتبره خزّانها البشري. فهذا الأمر سيشكل خطرا وجوديا عليها وهي التي راهنت دائما على تحفيز النعرة الطائفية لتغذية صفوفها بالأنصار والمقاتلين وتمكّنت بفعل ذلك من فرض نفسها طرفا قويا وفاعلا في المشهد داخل البلدين.

بغداد- يشكّل تنامي تيار مناهض للأحزاب والميليشيات الشيعية ذات النفوذ الكبير في كلّ من العراق ولبنان حالة من القلق لتلك التنظيمات السياسية والفصائل المسلّحة المقامة على أساس ديني وطائفي. أما نشوء معارضة لها من داخل المجتمع الشيعي في البلدين، فيمثّل كارثة بالنسبة إليها لا مجال للتهاون إزاءها والتسامح مع من يمثّلها.

وأظهرت حركة الاحتجاج العارمة التي شهدها العراق ولبنان خلال السنتين الأخيرتين بعد وصول الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والأمنية هناك درجة من السوء لم يعد بإمكان المجتمعين تحمّلها، تقلّص شعبية الفصائل الشيعية بشقيها السياسي والعسكري في مقابل توسّع حالة من الرفض لها والنقمة عليها داخل الأوساط التي كانت تعتبرها خزّانها البشري ومصدر إمداد لها بالمقاتلين.

وفي ظلّ الخشية من تحوّل تلك الحالة إلى تيار معارضة منظمّ بقيادة مجموعة من النشطاء المدنيين الذين برزوا بشكل لافت في واسل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي وبدأت طروحاتهم تجلب أعدادا متزايدة من المتابعين أغلبهم من الشباب، فضلا عن نشاط بعضهم في ساحات التظاهر والاعتصام، تمّت مواجهة الناشطين المناهضين لحزب الله في لبنان، وللأحزاب والميليشيات المرتبطة بها في العراق بعنف شديد وصل حدّ تصفيتهم بطرق لم تخل في بعض الأحيان من استعراض لإحداث أكبر قدر من الترهيب وتوجيه رسالة بأنّه لا تسامح مع من يفكّر في الوقوف بوجه الميليشيات والأحزاب وقادتها.

بصمات متطابقة

أنشال فوهرا: لقمان سليم قتل لأنّه شيعي يعتبره حزب الله خائنا

سقط في موجة التصفيات الجسدية نشطاء بارزون ينتمون لشيعة العراق ولبنان في مقدمّتهم المحلّل السياسي العراقي هشام الهاشمي والناشط في الحراك الاحتجاجي بالعراق فاهم الطائي. أما في لبنان فتوجّه الاستهداف للناشط الأعلى صوتا والأكثر مجاهرة بانتقاد حزب الله والمطالبة بنزع سلاحه غير الشرعي لقمان سليم رغبة في جعله “عبرة” لباقي أبناء المكوّن الشيعي اللبناني.

وقتل الهاشمي في يوليو من العام الماضي أمام منزله في لبنان ومازال قتلته مجهولون رغم تعهّد رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي شخصيا بكشفهم والقبض عليهم وجلبهم إلى العدالة. وقبله قتل الكثير من نشطاء الحراك الاحتجاجي من أبناء المكوّن الشيعي أبرزهم الطائي الذي اغتيل بالرصاص في ديسمبر 2019 وهو في طريقه إلى منزله في مدينة كربلاء المقدسة لدى الشيعة عائدا إليه من إحدى ساحات التظاهر.

أمّا لقمان سليم، المحلّل السياسي والناشط والمخرج اللبناني المعروف بنقده اللاذع لحزب الله، فقد قتل بدم بارد على أيدي مهاجمين مجهولين ليلة الثالث من فبراير الماضي متأثرا بإصابته في الرأس والرقبة. ووجدت جثّته داخل سيارته في جنوب لبنان الذي يسيطر عليه حزب الله.

وأوردت أنشال فوهرا في مقال لها بمجلّة فورين بوليسي تحت عنوان “الصراع العنيف المتصاعد بين الشيعة ووكلاء إيران” شهادة الناشرة والروائية رشا الأمير أخت الناشط القتيل قالت فيها “الحقيقة أنا أعرف من قتله في داخلي”، وذلك في إشارة واضحة إلى حزب الله. إذ كان سليم يتلقى تهديدات منذ فترة وقد أكّد في رسالة كتبها العام الماضي على تحميل الحزب المدعوم من إيران مسؤولية أي محاولة لاغتياله.

لكن وبعيدا عن كون الحادثة مأساة شخصية، تقول الكاتبة، يبقى مقتل سليم جزءا من اتجاه جيوسياسي مهم. وأشار محللون ونشطاء إلى تشابه بين مقتله وارتفاع عدد عمليات قتل النشطاء في العراق على يد الميليشيات المدعومة من إيران.

ويُعتقد على نطاق واسع أن سليم استُهدف لأنه شيعي وينظر إليه حزب الله على أنه “خائن” يسعى إلى إضعاف نفوذ الحزب في المجتمع الديني الذي تعتمد عليه الجماعة كقاعدة سياسية وخزانا بشريا يمدّها بالمقاتلين الذين يشكلون لها ما يشبه “جيش مشاة” تستخدمه محلّيا وفي النزاعات الإقليمية.

ديفيد إندرس: هشام الهاشمي قتل عندما بدأ ينتقد نشاط الميليشيات

ويقول الناشط والمدافع عن حرية التعبير أيمن مهنا، وهو المدير التنفيذي لمؤسسة سمير قصير التي سُمّيت بهذا الاسم تكريما للصحافي والكاتب الذي اغتيل في 2005 بعبوة وضعت تحت سيارته في بيروت، وهي مؤسسة غير ربحية تهدف إلى نشر الثقافة الديمقراطية في لبنان والعالم العربي، إن الاغتيالات توقفت لفترة في لبنان بعد أن أحكم حزب الله قبضته على البلد ولم يستطع أحد الوقوف ضده حيث لم تكن هناك حاجة لاغتيال أحد.

ويضيف أما الآن فهناك شكل جديد من المعارضة لحزب الله وللطبقة السياسية بأكملها من قبل كتلة من المعارضين بلا قيادة والذين يسعون إلى دولة علمانية تحركها حقوق الإنسان.

وكان للقمان تأثير ثقافي كافٍ لتشكيل الخطاب الذي دعا إلى عقد اجتماعي غير طائفي جديد بين المواطن والدولة. كما يعتبر مهنا أنّ الأهم من ذلك أن لقمان كان شيعيا وكان واحدا منهم وأعطوا صوتا للشيعة الساخطين على جماعة حزب الله.

خزان يغلي
لا يفتقر حزب الله في لبنان لقدر من الشعبية داخل بعض الأوساط اللبنانية، لكنّ جميع شيعة البلد يفكرون بنفس الطريقة. وقد نمت خيبة الأمل بينهم منذ انهيار الاقتصاد اللبناني. فقد كان العديد من الذين دعموا الحزب في مواجهته ضد إسرائيل في حيرة من أمرهم لرؤية حزب الله يدعم الطبقة السياسية الفاسدة بهدف الحفاظ على سيطرته على السياسة اللبنانية.

وتقول المحللة السياسية رندا سليم، إنّ مقتل لقمان يعدّ رسالة واضحة من حزب الله للشيعة مفادها أنه لن يتسامح مع معارضيه.

وتضيف “لن يكتفي الحزب بعد الآن باغتيال الشخصيات البارزة لإسكات هذه المعارضة”. وذكرت أن محاسبة حزب الله على الأوضاع الاقتصادية الصعبة التي حلت بلبنان وطالت الشيعة مثل غيرهم كانت جزءا من حجج لقمان ضد الحركة. وكانت دعوته تكتسب زخما داخل المجتمع الشيعي.

حزب الله يختار التصفية الجسدية لإسكات معارضيه

وبحسب ديفيد إندرس، الذي كتب لفورين بوليسي مقالا بعنوان “اللبنانيون يشهدون لغز جريمة قتل أخرى”، فقد كان لقمان شيعيا وأراد إعادة الشيعة إلى الأحضان العربية كجزء من هويتهم الوطنية.

وقال المحاضر في كلية التاريخ بالجامعة الأميركية في بيروت، مكرم رباح وهو صديق مقرب للناشط القتيل، إن سليم شجّع الهوية الوطنية على حساب إيران ومشروع حزب الله الطائفي في المنطقة.

وقالت الباحثة اللبنانية في معهد واشنطن لسياسة الشرق الأدنى حنين غدار، وهي منتقدة قوية لحزب الله، إنّ هناك صلة واضحة بين مقتل سليم في لبنان ومقتل نظرائه في العراق.

وتابعت قولها “بالنسبة إلى العديد من المنتقدين المناهضين لحزب الله في لبنان يعني هذا أنه إذا لم تتم محاسبة الحزب فسيواصل استهداف معارضيه الشيعة واحدا تلو الآخر على غرار سلسلة الاغتيالات التي شهدها العراق وطالت العديد من النشطاء الشيعة أبرزهم هشام الهاشمي الذي تُتهم الميليشيات الموالية لإيران في العراق بقتله”.

وقد قُتل الهاشمي وهو محلل السياسي بدأ قبل مقتله ينتقد نشاط الميليشيات، بالرصاص في نفس اليوم الذي ورد أنه اتصل فيه بصديق مقيم في لندن وشاركه مخاوفه من احتمال قتله على يد الفصائل التابعة لإيران.

وبحسب منظمة العفو الدولية، منذ بداية الاحتجاجات في العراق في أكتوبر 2019 قُتل العشرات من النشطاء على أيدي الميليشيات التي كانت جزءا من وحدات الحشد الشعبي التي يحظى العديد منها بدعم إيران، لكن تمّ استيعابها شكليا داخل القوات العراقية وأصبحت بشكل صوري جزءا منها.

وقالت نائبة مديرة المكتب الإقليمي للشرق الأوسط وشمال أفريقيا في منظمة العفو الدولية لين معلوف، إن “مسلحين مجهولين يُعتقد أنهم أعضاء في الميليشيات وفي الحشد الشعبي استهدفوا النشطاء بالاغتيال أو الاختطاف وقتلوا ما لا يقل عن 30 في بغداد والناصرية والبصرة”.

وجرت محاولات لاغتيال أكثر من 30 آخرين نجوا بعد أن لحقت بهم إصابات. ووفقا لبعثة الأمم المتحدة في العراق بحلول مايو 2020 بقي مصير 20 ناشطا ومتظاهرا مجهولا.

وخلال احتجاجات العراق كانت هناك هجمات متكررة على المتظاهرين وقُتل فيها أكثر من 500 شخص، علما وأنّ انتفاضة أكتوبر 2019 انطلقت في مدن ومحافظات وسط وجنوب العراق حيث يتركّز وجود غالبية شيعة البلاد الذين تنظر إليهم الأحزاب الشيعية والميليشيات المرتبطة بها باعتبارهم خزانّها البشري. لكنّ ذلك “الخزان” بدأ في الغليان بعد وقوف أبناء المكوّن الشيعي مثل سائر العراقيين على فشل تجربة حكم تلك الأحزاب والمردود الكارثي لتلك التجربة وما ألحقته من ضرر بالغ بالبلاد بما في ذلك مناطق الجنوب، حيث يعمّ الفقر والبطالة وتتفشّى الجريمة وانعدام الأمن، بينما ينهب المتنفّذون من قادة الأحزاب والميليشيات والمقرّبون منهم ثروات البلاد ومواردها.

وبحسب المفوضية العليا المستقلة لحقوق الإنسان في العراق فقد أصيب 15 ألف شخص في الاحتجاجات، حيث كان المسلّحون يصلون في شاحنات صغيرة إلى مواقع الاحتجاج ويصعدون على أسطح المباني في بعض الأحيان ويطلقون النار عشوائيا.

تربط المصادر بدء عمليات قتل النشطاء والمحتجّين بزيارة قام بها قاسم سليماني الذي قتل لاحقا في غارة بطائرة أميركية دون طيار، إلى العراق مباشرة بعد انطلاق انتفاضة أكتوبر 2019 لتقديم المشورة للحكومة ووحدات الحشد الشعبي. ويومها قال سليماني في اجتماع سرّي مع قادة الميليشيات وقيادات أمنية عراقية داخل المنطقة الخضراء ببغداد “نحن في إيران نعرف كيفية التعامل مع المتظاهرين. لقد حدث هذا في إيران وسيطرنا عليه”.

وقالت وكالة “أسوشييتد برس” إنّه في اليوم الذي تلا زيارة سليماني توسّعت حملة القمع ضد المتظاهرين في العراق حيث استهدف القناصة المجهولون المتظاهرين. وكانت الحملة على المحتجين العراقيين شديدة لدرجة أنه في أقل من أسبوع قُتل 150 محتجا.

وفي لبنان اُتّهم أنصار حزب الله الذي داهمت الاحتجاجات معاقله مثل أغلب أنحاء البلاد في نفس الفترة، باقتحام مواقع الاحتجاج على الدراجات النارية وتهديد المتظاهرين وتفكيك خيامهم ووصفهم بالخونة الذين تحرّضهم السفارات الغربية.

تآكل رصيد الولاء
وكان الشبان العاطلون عن العمل في كلا البلدين العراق ولبنان يطالبون بفرص عمل ودعوا إلى إنهاء الفساد وعبّروا عن تطلعهم إلى دولة تقام على أسس وطنية رافضين السياسة الطائفية وتحدوا الأحزاب السياسية من جميع المشارب. لكن كلا البلدين يخضعان لسيطرة الميليشيات المدعومة من إيران إلى حد كبير. وتستعرض الميليشيات قوتها في الشارع بينما هي جزء من الحكومتين.

وللميليشيات الشيعية في العراق تمثيل تحت قبّة البرلمان من خلال تحالف الفتح بينما يشارك كبار قادتها مثل هادي العامري وقيس الخزعلي ومقتدى الصدر في صنع القرار السياسي للبلاد.

الفصائل الشيعية في العراق ولبنان زادت حياة الفئات التي تزعم الانتماء إليها صعوبة وتعقيدا ولذلك خسرت ولاءها

أما حزب الله في لبنان ففضلا عن احتفاظه بقوّة عسكرية تفوق القوات النظامية تسليحا وتنظيما، فإنّه يتحكّم إلى حدّ كبير في عملية تشكيل الحكومات وتعيين رئيس للجمهورية، كما يشارك في صياغة سياسات البلد وصنع قراراته.

لكن وعلى الرغم من هذه السطوة الكبيرة لتلك الفصائل إلا أنها فشلت في تحسين حياة الفئات التي تزعم أنها تمثلها، بل على العكس من ذلك زادت أوضاعها صعوبة وتعقيدا، ولذلك خسرت إلى حدّ كبير ولاء الشيعة.

العرب