ناقش خليل الشقاقي، مدير المركز الفلسطيني للبحوث السياسية والمسحية في مقال بمجلة “فورين أفيرز”، قال فيه إن الجولة العسكرية الأخيرة بين إسرائيل وحماس وإن انتهت، إلا أن تداعيات ما جرى من الضربات العسكرية الإسرائيلية في غزة، وهجمات حماس الصاروخية على المدن الإسرائيلية، وتصاعد العنف بين العرب واليهود، ستكون طويلة الأمد وعميقة.
وأضاف أن كل هذا سيعزز الشعور بين الإسرائيليين والفلسطينيين ومعظم المجتمع الدولي بأن البحث عن حل سلمي للصراع قد انتهى في المستقبل المنظور.
فالصراع الذي بدأ في أوائل أيار/ مايو لم يكن مخططا له، لكنه كانت تتويجا لخطوات صغيرة عدة ومهمة في الوقت نفسه، فعلى الرغم من ارتباطها ببعضها البعض، إلا أنها لم تجعل العنف أمرا لا مفر منه. ويطبع كل هذا مزيج من الديناميات السياسية المحلية الإسرائيلية والفلسطينية، والإخفاقات الدولية، والعلاقات المتدهورة بين الجانبين والتي خلقت الظروف المناسبة لسفك الدم.
كل هذا سيعزز الشعور بين الإسرائيليين والفلسطينيين ومعظم المجتمع الدولي بأن البحث عن حل سلمي للصراع قد انتهى في المستقبل المنظور
ويقول: “بغض النظر عن شكلها الآني، فإن جولة العنف الأخيرة ستكون لها عواقب دائمة. ستخرج حماس من الصراع أقوى، والسلطة الفلسطينية ورئيسها أضعف، وسوف يتراجع العنف بين عرب إسرائيل واليهود في نهاية المطاف، لكن تصورات العرب عن التمييز المنهجي سوف تنمو، وكذلك الاعتقاد بأن البحث عن المساواة داخل إسرائيل عبثي بطبيعته. كما سيتوسع دور القدس الرمزي، مما يعمق الأبعاد الدينية للصراع”.
ويرى الشقاقي أن هذه التطورات تشير بين العديد من الإسرائيليين والفلسطينيين إلى العودة إلى مرحلة قديمة من الصراع. ذلك أن الأسبوعين الماضيين عززا الاعتقاد بأن علاقتهما مرة أخرى وجودية، وأن الدبلوماسية لحل النزاع لا طائل من ورائها، والعنف أمر لا مفر منه.
وأشار إلى أربعة مسارح يكشف عنها النزاع الأخير، فقد دمر القصف الإسرائيلي البنية التحتية المدنية في غزة وقتل أكثر من 200 فلسطيني، 30% منهم أطفال، فيما قُتل عشرة إسرائيليين. أثارت التوترات العرقية داخل إسرائيل أعمال شغب وعنفا طائفيا غير مسبوق بين العرب واليهود. وهناك مواجهة في القدس بين الفلسطينيين من جهة والشرطة الإسرائيلية والجماعات القومية اليهودية المتطرفة والمستوطنين من جهة أخرى بشأن الوصول إلى الأماكن المقدسة الإسلامية وعمليات الإجلاء المخطط لها للعائلات العربية من حي الشيخ جراح. وفي الضفة الغربية، تصاعدت التوترات بعد أن قتلت القوات الإسرائيلية أربعة متظاهرين فلسطينيين وجرحت العشرات في 18 أيار/ مايو، وهو يوم احتجاج اجتاح المدن الفلسطينية الكبرى. وتم احتواء التوترات في الضفة الغربية حاليا وذلك عبر التنسيق المشترك للسلطة الفلسطينية والإسرائيلية.
ويعتقد الشقاقي أن هذه الديناميات بدأت بالتراكم منذ أن غزت إسرائيل غزة عام 2014. وكانت تلك الحرب بمثابة نهاية لأي أمل حقيقي في التوصل إلى صفقة لإنهاء الصراع، كما كان وزير الخارجية الأمريكي آنذاك جون كيري يعمل على القيام به. بعد عام 2014، ساءت العلاقات بين الجانبين وتضاءلت احتمالات حل الدولتين تدريجيا.
ولأن اليمين الإسرائيلي أدرك أن النتيجة السلمية مستحيلة على المدى القصير إلى المتوسط، فقد بدأ بفرض وجوده وخاصة بعد انتخاب دونالد ترامب رئيسا لأمريكا عام 2016، والذي شجعت سياساته العديد من المحافظين الإسرائيليين ومهدت الطريق لسياسات شديدة المناهضة للفلسطينيين. وبدأ المستوطنون الإسرائيليون بالتوسع في مناطق جديدة من الضفة الغربية، وبدأت إسرائيل بشكل روتيني بمصادرة الأراضي الفلسطينية وهدم المنازل. وبحلول 2019، بدأ العديد من الإسرائيليين بالمطالبة بضم مساحات واسعة من الأراضي الجديدة دون منح حقوق متساوية للمواطنين الفلسطينيين.
ومما فاقم الوضع أيضا، هو قرارات عدد من الدول العربية تطبيع العلاقات مع إسرائيل، والتي أبرمت في نهاية المطاف ما يسمى باتفاقات إبراهيم عام 2020. ومع انحسار تضامن الدول العربية مع القضية الفلسطينية، شعر الفلسطينيون بالخذلان بشكل متزايد.
مما فاقم الوضع أيضا، هو قرارات عدد من الدول العربية تطبيع العلاقات مع إسرائيل، والتي أبرمت في نهاية المطاف ما يسمى باتفاقات إبراهيم عام 2020، حيث شعر الفلسطينيون بالخذلان بشكل متزايد
وكانت هذه الضغوط واضحة بشكل خاص في القدس.بعد اعتراف واشنطن عام 2017 بالمدينة كعاصمة لإسرائيل، حيث زادت إسرائيل من وتيرة الضم غير القانوني، وكثفت جهودها لتغيير الوضع الراهن في الأماكن المقدسة في المدينة القديمة، وقامت الشرطة الإسرائيلية بتقييد وصول الفلسطينيين إلى المسجد الأقصى وحاولت إسكات الأذان، وسمحت بدخول أعداد كبيرة من اليهود الإسرائيليين إلى المسجد، كما تحركت السلطات الإسرائيلية لإجلاء عرب القدس الشرقية من منازلهم، وبدأت في تأكيد وجود أجندة يهودية قومية دينية مهيمنة في جميع أنحاء المدينة.
وفي داخل إسرائيل نفسها، اتخذ الجناح اليميني الوقح أيضا خطوات لتهميش المواطنين العرب الإسرائيليين، الذين رأوا ما يسمى بقانون الدولة القومية لعام 2018، الذي يعلن إسرائيل كوطن تاريخي للشعب اليهودي، ويؤكد أن اللغة العبرية هي اللغة الرسمية للدولة، ويشدد على أن المستوطنات اليهودية هي “قيمة قومية”، وهو ما رأوه مثالا آخر على التمييز ضد عرب إسرائيل لصالح اليهود.
بعد ذلك بعامين، تم التصويت على تعديل كان من شأنه أن يضيف المساواة للأقليات إلى القانون، ويقلل من فرصة استخدامه لإضفاء الشرعية على التمييز القانوني ضد عرب إسرائيل. ويقوم السياسيون اليمينيون، بمن فيهم رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بالتحريض بشكل روتيني على الكراهية والخوف ضد عرب إسرائيل وممثليهم في الكنيست. علاوة على ذلك، يؤدي الارتفاع الهائل في معدلات الجريمة في المدن العربية إلى تفاقم المشاكل الاجتماعية والاقتصادية القائمة بالفعل.
وعلى الصعيد الفلسطيني، فقد ابتليت السياسة الفلسطينية بسلسلة من الانتكاسات. حيث قوضت السلطة الفلسطينية وعلى مدى السنوات العديدة الماضية ثقة الجمهور في قدرتها على الحكم. وبعد عدم إجراء أي انتخابات عامة منذ عام 2006، أضرت السلطة بسيادة القانون، وأضعفت القضاء وقلصت الحريات الإعلامية، وقلصت مساحة المجتمع المدني، حيث فقدت المنظمات الكثير من استقلالها عن الحكومة. كل هذا زاد من السخط العام والمطالبات لرئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بالاستقالة. لم يكن سلوك حماس في قطاع غزة أفضل. وبسبب عدم تأثره بالمبادئ الدستورية والأعراف وسيادة القانون، فقد أصبح قاسيا على نحو متزايد.
وقبل أسبوعين، اصطدمت أخيرا هذه الديناميكيات المتضاربة بين الإسرائيليين والفلسطينيين. كان السبب الأول والأكثر وضوحا هو سياسات إسرائيل تجاه الأماكن المقدسة الإسلامية في البلدة القديمة بالقدس، ومعركتها الديمغرافية ضد الفلسطينيين في بقية القدس الشرقية المحتلة. مهّد هذا الطريق لمواجهات صغيرة خلال شهر رمضان بين الفلسطينيين والشرطة الإسرائيلية والمتطرفين اليمينيين في البلدة القديمة حول التغييرات في الحرم الشريف والوصول إلى باب العامود.
نقطة صدام أخرى كانت حي الشيخ جراح في القدس الشرقية. في نمط يتكرر في جميع أنحاء المدينة المحتلة، واجه العديد من السكان الفلسطينيين إخلاء وشيكا من منازلهم من قبل المستوطنين اليهود. واحتشد سكان القدس الشرقية وفلسطينيون آخرون والعديد من عرب إسرائيل ردا على ذلك، وأطلقوا سلسلة من الاحتجاجات المحدودة وغير العنيفة أساسا.
كان الدافع المنفصل هو القرار الإسرائيلي بمنع إجراء الانتخابات الفلسطينية التي كان من المقرر إجراؤها في 22 أيار/ مايو، في القدس الشرقية، على الرغم من التزامها بتسهيلها بموجب شروط اتفاقيات أوسلو التي تم التوصل إليها عام 1993. يبدو أن القرار الإسرائيلي لا علاقة له بالانتخابات نفسها (أعلنت إسرائيل أنها لا تنوي التدخل في العملية ككل). وبدلا من ذلك، نُظر إلى هذه الخطوة على أنها محاولة لإنكار مطالبة الفلسطينيين بالقدس الشرقية المحتلة، على الرغم من أن إسرائيل قد اعترفت بالفعل بذلك في ثلاث انتخابات سابقة. كانت هذه الخطوة الإسرائيلية هي الأكثر صلة بتوقيت المواجهة الحالية.
وبحجة قرار إسرائيل، قرر عباس إلغاء انتخابات السلطة الفلسطينية في أيار/ مايو، ووعد بإجرائها بمجرد موافقة إسرائيل على التراجع. لكن هذا أدى فقط إلى مضاعفة التوترات الفلسطينية الداخلية. حيث رفضت جميع القوائم الانتخابية الفلسطينية والمرشحون الآخرون تقريبا القرار، بما في ذلك حماس. وشكت معظم الأحزاب في أن الدافع الحقيقي هو إدراك عباس أنه سيخسر السباق وسيضطر لتقاسم السيطرة على البرلمان مع ثلاثة منشقين بارزين عن فتح: محمد دحلان ومروان البرغوثي وناصر القدوة. وجادل معارضو عباس بأن على الفلسطينيين ألا يمنحوا إسرائيل حق النقض على انتخاباتهم. وبدلا من ذلك فضلوا إجبار إسرائيل على قبول التصويت في القدس الشرقية من خلال الحملات الانتخابية غير العنيفة وحملات التصويت في الأقصى وغيرها من المساجد والكنائس وبعثات الأمم المتحدة والبعثات الدبلوماسية.
وكان المحفز الأخير لجولة العنف الحالية هو عجز حماس عن تشكيل تحالف مشترك ضد إلغاء عباس للانتخابات، على الرغم من المعارضة الواسعة له. على الرغم من أن الحركة قد مدت يدها إلى قوائم انتخابية أخرى للحصول على دعمها، إلا أن أحدا منهم لم يرغب أن ينظر إليه على أنه حليف لحماس. وقد وجه ذلك ضربة قوية لاستراتيجية الحركة على المدى الطويل.
كان المحفز الأخير لجولة العنف الحالية هو عجز حماس عن تشكيل تحالف مشترك ضد إلغاء عباس للانتخابات، على الرغم من المعارضة الواسعة له
ومن خلال إعادة دمج نفسها في العملية السياسية للسلطة الفلسطينية عبر الانتخابات، سعت حماس إلى استعادة شرعيتها وتحرير نفسها من عبء حكم قطاع غزة.
ولأن هذه الاستراتيجية أصبحت تعاني من تصدعات، تولت قيادة حماس الأكثر تشددا الدفة. أتاح تصعيد الشرطة الإسرائيلية في الأقصى وعمليات الإخلاء الوشيك في الشيخ جراح الفرصة لتحقيق هدفين: الأول هو معاقبة عباس بإلغاء أهميته السياسة. والثاني هو معاقبة إسرائيل على سياساتها المعادية للفلسطينيين في القدس الشرقية وقرارها وقف الانتخابات في المدينة.
وفي تحقيق هذين الهدفين، سعت حماس إلى أن تثبت للفلسطينيين ولآخرين أنه بينما يهرب عباس من معركة على القدس، فإن حماس ستقف مع سكانها. في الواقع، كانت الحركة مستعدة للمخاطرة بالحرب في غزة للدفاع عن المدينة والمسجد الأقصى. في نهاية المطاف، في 10 أيار/ مايو، أصدرت حماس إنذارا نهائيا: إذا لم تسحب إسرائيل أفراد الشرطة والجيش من المسجد والشيخ جراح، فإنها ستهاجم. بعد دقائق من انتهاء المهلة، بدأت حماس في استهداف البلدات الإسرائيلية بصواريخ أطلقت من قطاع غزة، مما أدى إلى غارات جوية إسرائيلية انتقامية.
حماس لم تطلق العنان للمواجهة الحالية. لقد استفادت فقط من التوترات المتصاعدة لإثبات ضرورة استبدال عباس. وأدى قرار إسرائيل بإلغاء الانتخابات في القدس الشرقية وخطوة عباس اللاحقة لإلغاء العملية برمتها إلى سلسلة من ردود الفعل لم يتوقعها أي من الطرفين. لو جرت الانتخابات كما هو مخطط له، لكانت المواجهات في القدس الشرقية قد اشتدت، ولكن من المرجح أن تظل سلمية. حماس وفتح وقوائم انتخابية أخرى كانت ستنشغل أكثر من اللازم بتعبئة ناخبيها ضد الشرطة الإسرائيلية والمستوطنين المتطرفين. لم تكن حماس لتخاطر بشن حرب في غزة كان من الممكن أن توقف الاستعدادات الانتخابية، وبالتالي تقضي على فرصتها في إعادة الاندماج في العملية السياسية الرسمية. لكن بدون انتخابات، كانت الساحة مهيأة للعنف.
ويتساءل الشقاقي، كيف ستؤثر المواجهة الحالية على آفاق سلام طويل الأمد؟
لن يكون من السهل إبعاد الضفة الغربية عن الصراع القادم أو حتى الصراع الحالي. ولن يكون التنسيق الأمني بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية كافيا لاحتواء النيران المتصاعدة
على الجبهة الإسرائيلية- الفلسطينية، ربما تلقّى حل الدولتين ضربة قاتلة. بالنظر إلى الجهود الإسرائيلية لتهميش عباس والسلطة الفلسطينية، لن يكون من السهل إبعاد الضفة الغربية عن الصراع القادم أو حتى الصراع الحالي. لن يكون التنسيق الأمني بين إسرائيل والسلطة الفلسطينية كافيا لاحتواء النيران المتصاعدة. وبالنظر إلى الخطاب الدائر حول الضم، لن تكون أي حكومة يمينية إسرائيلية مستعدة أو قادرة على تجديد عملية سياسية تتطلب مفاوضات مع قيادة السلطة الفلسطينية، حتى بالنسبة لخطوات تدريجية صغيرة.
وفي الداخل، لن يتمكن عباس من البقاء في منصبه إلا إذا كان قادرا على منع إجراء الانتخابات. ولكن مع تزايد السخط الشعبي، تتضاءل قدرة أجهزة الأمن التابعة للسلطة الفلسطينية على الحفاظ على السيطرة وتهدئة السخط. قد تجد السلطة نفسها هدفا لجمهور غاضب. سيخسر عباس والسلطة والحركة الوطنية الفلسطينية الثقة القليلة التي ما زالوا يحتفظون بها. الانتخابات والإصلاحات السياسية هي الوسيلة الوحيدة لجعل النظام شرعيا وخاضعا للمساءلة مرة أخرى. أولئك الذين يرفضون الانتخابات لأن عباس سيخسر أو لأن العملية قد تضفي الشرعية على حماس، يجب أن يأخذوا العواقب في الاعتبار. تجاهل المشكلة وإبقاء حماس محاصرة في قطاع غزة ليس بالحل.
ويقول الشقاقي إن الوهم حول ما يمكن للمجتمع الدولي عمله يجب أن يكون في أدنى الحدود، ففي أحسن الأحوال، يمكن للدول العربية وغيرها، بما في ذلك واشنطن، المساعدة في إدارة الصراع فقط من خلال جعل الوضع الراهن مستداما. ومع ذلك، ليس لديهم القدرة أو الإرادة السياسية لإجبار إسرائيل على احترام القانون الدولي، أو على عباس والسلطة الفلسطينية احترام معايير الحكم الرشيد. على الرغم من صعوبة الأمر، يجب على الإسرائيليين والفلسطينيين القيام بذلك بأنفسهم.
القدس العربي