أثارت أحداث الشيخ جراح والأقصى ثم العدوان الإسرائيلي على غزة أسئلة كبيرة بشكل غير مسبوق وفي جغرافيات سياسية غير متوقعة، وبأشكال حديثة على علاقة بوصول العولمة الرقميّة إلى مساحات شاسعة من كوكب الأرض بحيث ما عاد ممكنا أن يمرّ حدث كبير أو صغير من دون أن يشارك فيه عشرات الملايين بالتعليق أو إعلان الرأي والمشاركة والتفاعل.
غير أن الحدث الفلسطيني الأخير لم يحظ بنصيبه من التفاعل فحسب بل يمكن اعتباره حدثا فارقا، على أكثر من مستوى، بدءا من السياق الفلسطيني، ومرورا بالامتدادات العربية والإقليمية له، وأخيرا، وليس آخرا، عبر تفاصيل اشتباكه مع القضايا الداخليّة لمجمل المنظومة الغربية.
تبدّى الأمر على شكل لغز، وخصوصا حين ننظر إليه على ضوء الموجة الطامّة التي حصلت في الشهور الماضية تحت مسمى «صفقة القرن» وعمليات التطبيع العربية مع إسرائيل. لقد بدا، وللمرة الأولى في التاريخ العربي الحديث أن فلسطين، ليس فقط لم تعد قضية العرب المركزية، بل إن إسرائيل صارت هي مركز الجاذبية، ومقابل التحالف معها بأشكاله السياسية والعسكرية والأمنية والرياضية والاقتصادية، عبّر البعض عن أشكال من الكراهية للقضية الفلسطينية والفلسطينيين، بحيث بدا أن انقلابا مناخيا قد حصل ضمن الدائرة العربية، وما على الفلسطينيين سوى أن يذعنوا لقدرهم البائس، كيف لا، وقد خسروا الظهير العربيّ الذي صار حليفا لعدوّهم؟
مع إحساس حكومة إسرائيل العنصرية والمستوطنين المتطرّفين بطمأنينة التطبيع العربية والاستقواء الهائل على الفلسطينيين خططوا لإفساد أحد الأيام المقدسة عند المسلمين، الذي يتزامن مع ليلة القدر التي نزّل فيها القرآن لاقتحام الأقصى المبارك والاحتفال بيوم احتلال إسرائيل للقدس، وكان ذلك، مترافقا مع حدث التصدّي لمحاولة إسرائيل تقنين سرقتها لبيوت فلسطينيين في حي الشيخ جرّاح، هو الحادث الذي يشبه «أثر الفراشة» الذي تطوّر بسرعة، مع تدخّل حركتي «حماس» و«الجهاد» في غزة عسكريا، ليعيد جلاء اللغز الفلسطيني مجددا، والذي يتمثّل عمليّا في مسألتين:
الأولى هي النضال الدؤوب الذي لا يستسلم لأجيال من الفلسطينيين، والذي أرخته منذ إضراب عام 1936 الكبير، ونضالهم للحفاظ على أرضهم وصولا إلى حدث النكبة الهائل عام 1948 الذي رافق نشوء إسرائيل، واستمرّ رغم الهزائم العربيّة المتلاحقة، والعسف الهائل الذي تعاونت عليه إسرائيل وأنظمة عربيّة عديدة، حتى الآن.
والثانية هي أن الشعوب العربية، التي تعاني، في معظمها، من مخاطر وجودية، مثل الشعب الفلسطيني، لا تلبث أن تهبّ، مع كل حدث فلسطيني، للتضامن مع فلسطين والفلسطينيين، بشكل يصعب فهمه على أنظمة ونخب أمنية وعسكرية بائسة فعلت كل ما هو ممكن، تحت راية فلسطين، لاستغلال القضية الفلسطينية، ولاضطهاد شعوبها، ولتعريض الفلسطينيين، والمتعاطفين معهم، لأنواع فظيعة من العسف والقمع والبطش.
على المستوى العالمي، تبدّى اللغز الفلسطيني مجددا على شكل أسئلة مزعجة وحارقة وتنامي الوعي السياسي حول القضية الفلسطينية والطابع الاستعماري والاحتلالي والقمعي لإسرائيل، ورغم أشكال متعددة من إعلان بعض الدول الغربية عن «التضامن» مع إسرائيل، فإن تلك الأسئلة المزعجة طاردت تلك الحكومات والمسؤولين، وأحرجتهم ودفعتهم لتخفيف لهجة تبرير الإجرام الإسرائيلي.
القدس العربي