يخرج الرئيس الإيراني السابق على شاشة “العربية” ليتحدث عن ضرورة تسوية الخلافات مع السعودية، ويتحدث عن الصداقة والإخاء بين البلدين، ومهما تكن الخلافات القائمة بين مؤسسة الحكم في إيران ونجاد، فإنه يبقى أحد اللاعبين الرئيسيين في طهران، وصوتاً محافظاً لديه الكثير من المستمعين، وشخصاً مناسباً ليطلق تصريحات، تمثل جزءاً من خيارات النظام الإيراني، بدون أن تكون ملزمةً له.
على الجانب الآخر، يفوز إبراهيم رئيسي بالانتخابات الرئاسية الإيرانية، وتصبح المعادلة اليوم، رئيس إيراني متشدد في مواجهة رئيس أمريكي معتدل، بعد سنوات من التشدد الأمريكي في مواجهة الاعتدال الإيراني، وفي النهاية يثبت الإيرانيون أنهم يجيدون التموقع على رقعة الشطرنج الدولية.
تلتقط مصر الرسالة بعد الانتخابات الأمريكية، ويحدث التقارب المصري ـ التركي، الذي ينعكس بصورة مباشرة على الأوضاع في ليبيا، وتستأنف مصر علاقاتها الدبلوماسية بسفير فوق العادة مع قطر، ويظهر وزير خارجيتها الذي ناصب مايكروفونات قناة “الجزيرة” العداء طويلاً على شاشة القناة القطرية، وتتحسن العلاقات المصرية ـ السودانية في إطار المواجهة مع إثيوبيا حول مياه النيل، وتستمر مصر في استثمار نجاحها في إدارة ملف قطاع غزة بعد الأحداث الأخيرة. وبين شاشة فضائية وأخرى تتواصل بالونات الاختبار، وتتخذ الخطوات المتوقعة مساراً حذراً ومتأنياً، والثابت الوحيد أن المنطقة تخلصت من الفوضى الذهنية والاستراتيجية، التي كان يصطنعها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، وأصبحت اليوم أمام مواجهة استحقاقات جديدة تتبلور مع الإدارة الأمريكية الجديدة، التي لم تتواصل جدياً مع أي طرف في المنطقة باستثناء المهاتفات التي حدثت على هامش الحرب الإسرائيلية الأخيرة على قطاع غزة. في جنيف كان اللقاء المرتقب بين الرئيسين الأمريكي والروسي، في مشهد يسترجع بعضاً من التوتر المكتوم للحرب الباردة، ليخرج الرئيس بوتين بتصريح محمل بمجازات هائلة: “لا توجد سعادة في الحياة، هناك سراب في الأفق وسنتعلق به”، والممكن الوقوف عليه هو نهاية عصر ذهبي من وجهة نظر موسكو، عصر من العلاقة بين الرجل القوي المتمرس بالتعامل مع المافيات، ورجل الكازينو الذي يستشعر الضعف أمام هذه النوعية من الشخصيات.
مع تراجع الانتفاخات الشخصية التي تغذت على طريقة ترامب، يكون الحل هو في العودة إلى السياسة من جديد، وإلى لعبة المصالح
مع تراجع الانتفاخات الشخصية التي تغذت على طريقة ترامب وعشوائيته، يكون الحل هو في العودة إلى السياسة من جديد، إلى لعبة المصالح الواضحة والتي يمكن فهمها، والعناوين العريضة تتمثل في علاقة المنطقة بشكل عام بتنافس القوى الكبرى على المستوى العالمي، الأمريكيون عليهم محاصرة الصين، وبينما استعادة باكستان للحلف الأمريكي تبدو أمراً صعباً، فالبديل الإيراني موجود بسواحله على المحيط الهندي، وتماسها مع منطقتي الخليج العربي وآسيا الوسطى وثرواتهما الطبيعية. ترويض الدب الروسي أولوية أمريكية استراتيجية بعيدة المدى، والغاز الأوروبي جزء من المعادلة، ولذلك تعود قطر وإيران إلى الواجهة من جديد، ويبقى الحليف الذي يمكنه أن يمرر الغاز إلى أوروبا، وتطرح مصر نفسها في الصورة، وتتخلص من المماحكة التركية في شرق المتوسط، ولذلك من المتوقع أيضاً أن تطوي الولايات المتحدة صفحة انتقاداتها للمصريين والأتراك في ملفات حقوق الإنسان والحريات السياسية مع الوقت، على ألا تقع حوادث جديدة ذات طبيعة استفزازية.
تدرك إسرائيل في وسط هذه المعضلات، أن أهميتها الاستراتيجية تتراجع لدى الأمريكيين، وإن بقي التعهد الأمريكي بالمحافظة على أمن وسلامة إسرائيل قائماً تحت الضغط المستمر من اللوبيات المتحمسة لمشروعها، وستحاول إسرائيل أن تتصرف في حدود هذه الحقائق الجديدة، وتعرف جيداً حدود التسخين الذي لا يمكنها تجاوزه، وأهم هذه الحدود يتعلق بإيران، بانتظار ما يمكن وصفه بصفقة كبرى لا تستعجلها إيران إطلاقاً، فما حققته من نفوذ في المنطقة العربية أصبح يمثل أمراً واقعاً، باستمراره تستطيع أن تتحصل على مقابل أكبر استراتيجياً واقتصادياً. قد تترقب إسرائيل وقبل خطوات جديدة أن تنطوي صفحة رئيس وزرائها السابق بنيامين نتنياهو بصورة نهائية، بفشل نهائي لمحاولاته إجهاض الحكومة الجديدة، والإفلات من العواقب القانونية المتعلقة باتهامات الفساد التي تؤرقه، وتمثل دافعاً رئيسياً لتشبثه بالسلطة. أتت مقابلات الرئيس الإيراني الأسبق مع قناة “العربية”، ووزير الخارجية المصري مع قناة “الجزيرة” في وقت متزامن تقريباً، وإلى اليوم تبدو المفاجآت مفتوحة، وستتصاعد مستوياتها مع الوقت، وليس مستبعداً أن يظهر الرئيس الإيراني في الرياض، كما كان الأمر مع أحمدي نجاد سنة 2007، ويبقى لقاء بين أردوغان والسيسي متوقعاً وينتظر الترتيبات الدرامية اللازمة للخروج بصورة مناسبة للطرفين، خاصة بعد سنوات من التصعيد المتبادل والتصريحات عالية النبرة.
تبقى بعض الدول عالقة في المرحلة الماضية ورهاناتها الكبيرة والباهظة على الرئيس ترامب وأسلوبه في المنطقة، وهذه الدول تفتقد للمؤسسات العميقة التي يمكنها أن تعيد التمركز بصورة واقعية ومدروسة، ويبقى الرئيس الأمريكي بايدن متمهلاً في إعلان دخوله على خط الترتيبات الخاصة بالمنطقة، لأنه يدرك بدوره أن كثيراً من الخطوات ستتخذ في هذه الأثناء لاستباق التدخل الأمريكي، أي ستنضج ذاتياً تحسباً للسلوك الأمريكي في السنوات المقبلة، فبايدن ما زال ينتظر (كنس) عصر ترامب على المستوى الدولي، قبل أن يبدأ مرحلته الخاصة ملتزماً بصمت مؤرق ومحير أحياناً، ولكنه مفيد على أية حال.
سامح محاريق
القدس العربي