تصادف انتخاب الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، يوم الجمعة الماضي 18 يونيو لدورة ثانية، مع إصدار تقرير انتهاكات حقوق الأطفال في مناطق النزاعات المسلحة. وقد خلا التقرير، مثل التقارير السابقة في سنواته الخمس من إدراج اسم إسرائيل ضمن القائمة السوداء (قائمة العار) للدول والجماعات والكيانات، الأكثر انتهاكا لحقوق الأطفال، علما أن التقرير نفسه يتضمن تفاصيل كثيرة حول تلك الانتهاكات، بما فيها القتل والإصابات والتعذيب والاعتقال الإداري، والحرمان من الخدمات الأساسية، واستهداف مدارس الأطفال، إضافة إلى عنف المستوطنين.
وبعد ضغط الصحافة على فرجينيا غامبا، الممثلة الخاصة للأطفال في النزاعات المسلحة، حول مسؤولية عدم إدراج إسرائيل في القائمة قالت، إن تلك المهمة من صلاحيات الأمين العام وليس من مسؤولياتها. وهذه الحادثة توضح مدى محاولات الأمين العام الحالي خلال دورته الأولى تجنب مواجهة الدول الكبرى، مثل الولايات المتحدة التي تشكل سياستها داخل المنظومة الدولية شبكة أمان للدولة المارقة إسرائيل التي لم تشهد المنظمة الدولية منذ إنشائها دولة تنتهك كل قواعد القانون الدولي مثلها.
تجنب مواجهة الدول الكبرى
هذا الموقف ليس جديدا على الأمين العام، بل استهل به دورته الأولى في الأول من يناير 2017، عندما اتخذ قراره في فبراير بسحب ترشيحه لرئيس الوزراء الفلسطيني الأسبق سلام فياض لمنصب الممثل الخاص للأمين العام في ليبيا، فقط لكونه فلسطينيا لا غير. وانصاع عندها للضغط الأمريكي عبر السفيرة المتعجرفة نيكي هيلي، التي أجبرته على إلغاء ترشيح فياض. إدعى غوتيريش من جهته أنه سحب الترشيح عندما أحس بأن الإجماع حول تعيينه غير متوفر، لكن هيلي تفاخرت بهذا الإلغاء ونسبته لنفسها. كما طلب غوتيريش في بدايات دورته الأولى من ريما خلف، المديرة التنفيذية للجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا آنذاك (الإسكوا) سحب تقرير أعدته اللجنة بعنوان: “ممارسات إسرائيل تجاه الشعب الفلسطيني ومسألة الفصل العنصري”، الذي يصف إسرائيل بأنها دولة أبارتهايد، ونقد التقرير فكرة الدولة اليهودية، والحديث عن الظلم الواقع على الفلسطينيين منذ نكبة عام 1948 لا 1967. وتحدث التقريرعن التمييز الذي يلحق بالفلسطينيين داخل إسرائيل والقوانين العنصرية التي تصل إلى 40 قانونا يستهدفهم، كونهم ليسوا يهودا. كما يصف التقرير ما حدث في فلسطين بالتطهير العرقي. أمر غوتيريش بسحب التقرير فورا من موقع الأمم المتحدة، فرفضت ريما خلف بسبب قناعتها بصدق ما جاء في التقرير، ثم استقالت يوم 17 مارس 2017 بسبب هذا التصرف من الأمين العام قائلة في رسالة الاستقالة: “أجد نفسي غير قابلة للخضوع إلى هذه الضغوط”. وقد تباهت نيكي هيلي في مؤتمر “الأيباك” بأنها أمرت الأمين العام بسحب التقرير فسحبه ولم يأت القرار منه.
أحجم غوتيريش خلال دورته الأولى عن توجيه انتقادات للدول الكبرى، فرضوا عنه وأجمعوا على قبول ترشيحه لدورة ثانية تمتد من بداية 2022 وتنتهى مع آخر أيام 2026. لم ينتقد انتهاكات حقوق الإنسان للإيغور، تلك الأقلية المسلمة في ولاية شينغ جيانغ بالصين، التي تتعرض للاضطهاد والترحيل والإكراه على القيام بممارسات مخالفة لتعاليم الدين الإسلامي. لم ينتقد غوتيريش انتهاكات حقوق الإنسان التي تمارسها القوات الروسية في القرم أو سوريا، ولم ينتقد بشكل واضح إرسال مرتزقة الفاغنر إلى ليبيا، وبقي يتحدث عن المرتزقة بشكل عام. كما تغاضى عن الممارسات الفرنسية، التي وصفت بالعنصرية ضد الإسلام والمسلمين. ولم يصدر بيانا بعد اعتراف فرنسا بدورها ومسؤوليتها في حرب الإبادة في رواندا عام 1994، ولم نسمع منه انتقادات للدور الفرنسي في مالي، الذي أجج الشعب بكامله ضد الوجود الفرنسي، لكنه لا يتردد في إدانة انتهاكات حقوق الإنسان في “مناطق الأمان” مثل ميانمار ومالي والصومال وبيلاروس وكوريا الشمالية. أما عن جرائم إسرائيل، فحدث ولا حرج. فهو لا يستعمل كلمة “أدان – يُدين” ومشتقاتها إلا عندما يتعلق الأمر بالفلسطينيين ومقذوفاتهم البدائية، أما جرائم إسرائيل فتسبب له القلق أو الأسى، ثم يطالب الطرفين بضبط النفس، والعودة إلى طاولة المفاوضات، من أجل حل الدولتين الذي مات وشبع موتا. هل يعقل أنه لم يصدر بيانا خاصا بمقتل 66 طفلا في العدوان الأخير على غزة، لكنه سرعان ما أصدر بيانا “يدين بأقسى العبارات” مقذوفات حماس ليلة العاشر من مايو لتفريق مسيرة الأعلام؟
أعيد انتخاب غوتيريش بسهولة بدون منافسة من أحد، ما أدى إلى انتقادات من منظمات غير حكومية، لإحجام الدول عن تقديم أي مرشح منافس، لعلمها أن لا فائدة من الترشيح لاصطفاف الدول الخمس دائمة العضوية موحدة خلفه. لقد أعلن عدد من الأفراد ترشحهم للمنصب، بدون دعم من دولهم، إلا أن مجلس الأمن لم يناقش أياً من هذه الترشيحات كونها لم تأت من دول أعضاء. كنا نظن عند انتخابه للدورة الأولى أنه عيي على الضغوطات، وأنه سيقف أمام الدول الكبرى ليذكرنا ببطرس غالي بعد سنوات الضعف والهوان، التي جسدتها شخصية بان كي مون الضعيفة والمهزوزة.
أحجم غوتيريش خلال دورته الأولى عن توجيه انتقادات للدول الكبرى، فرضوا عنه وأجمعوا على قبول ترشيحه لدورة ثانية
لكننا سرعان ما اكتشفنا أنه ينصاع لأوامر الدول الكبرى ويحاول إرضاءها والعمل على مداراتها والتسامح معها. كان يتجنب إغضاب الولايات المتحدة ورئيسها دونالد ترامب، الذي أعلن أنه ليس صديقا للأمم المتحدة، ولا لما تمثله من التعددية الدولية، وظل يعاملها ووكالتها بالازدراء والتضييق عليها، سياسيا ودبلوماسيا وماديا، ما وضع الأمين العام في موقف صعب للغاية مع أكثر الدول تمويلا وتأثيرا في المنظمة الدولية. ولا بد من الإقرار بأن مهمة غوتيريش تعقدت أكثر بعد انتشار جائحة كورونا، وما تركته من آثار اقتصادية واجتماعية وسياسة عالميا. لقد زادت الجائحة التحديات الدولية أمام الأمم المتحدة وبرامجها الطموحة في التعامل مع تحديات التغيير المناخي، وتحقيق أهداف التنمية المستدامة (2030) التي تراجعت برامج تنفيذها على مستوى العالم. ولعل انتخاب جو بايدن، وإيمانه بالعمل الجماعي وعودته إلى اتفاقية المناخ، تسهل من مهمته في دورته الجديدة، فحيثما يتم التوافق بين الدول الكبرى تصبح الإنجازات الدولية أسهل.
التحديات العديدة التي تواجه
دورة غوتيريش الثانية
في كلمة ألقاها غوتيريش بعد انتخابه بالإجماع قال، إن جائحة كورونا ستبقى تشكل التحدي الأكبر والآني للبشر جميعا: “لقد واجه العالم واحدة من أخطر التهديدات منذ إنشاء الأمم المتحدة. وأظهرت الجائحة ضعف المجتمعات والشروخ الموجودة فيها. من المقدر أننا خسرنا أكثر من 114 مليون وظيفة حول العالم وهناك نحو 55% من سكان العالم لا يتمتعون بأي شكل من أشكال الحماية الاجتماعية. وللمرة الأولى منذ عشرين عاما تزداد نسبة الفقر حول العالم، حيث انزلق نحو 124 مليونا نحو الفقر المدقع”. وراح الأمين العام يحدد التحديات الكبرى التي يواجهها العالم، عدا عن الجائحة، حيث يقف التغير المناخي كأكبر تهديد يواجه الكون على المديين المتوسط والبعيد، وكذلك انخفاض التنوع البيولوجي والنزاعات الإقليمية والإرهاب، وعدم المساواة بين الجنسين وغياب الاتفاق على تنظيم العالم السيبراني، والهوة في التعليم وانتشار الأوبئة، وغياب التعاون بين الدول الصناعية والدول النامية، والهوة التكنولوجية بين المجموعتين، وتفاقم انتهاكات حقوق الإنسان. وقال إن كثيرا من هذه التحديات يمكن أن تحل بشكل واسع إذا كان هناك تعاون جدي بين الدول جميعها.
لقد وضع نصب عينيه أن يركز في ولايته الثانية على سياسة “الدبلوماسية الوقائية” والعمل على تطويق الأزمات قبل تفجرها. وقال “في نيتي أن أخدم المجتمع الدولي بنوع من التواضع، وبروح بناء الثقة والأمل. فهذه هي مهمتنا المشتركة. ضمن هذه الروح أنظر إلى الأمام لاستمرار التعاون الوثيق معكم جميعا في السنوات المقبلة. إن الحفاظ على كرامة الإنسان يجعلنا متساوين رغم تنوعنا، وأكبر الحريات لا يمكن تأمينها إلا من خلال العمل المشترك”.
هل سيترك غوتيريش بصمة جديدة أكثر تأثيرا وإيجابية في ولايته الثانية يتذكره بها العالم على مرّ السنين؟ هل سيستخدم رمزيته الأخلاقية وموقعه الأهم في العالم فيقف مع الغلابى والمظلومين والمضطهدين، ويقف في وجه الحكومات المستبدة والظالمة، صغيرة كانت أم كبيرة؟ هل سيظل رهينة لحسابات الموقع وتأثير الدول الكبرى واضطراره مرارا أن يساوم أو يختبئ أو يدفن رأسه في الرمال، كي لا يغضب الدول الكبرى؟ هذا ما سيكشفه لنا المقبل من الأيام والسنين.
عبدالحميد صيام
القدس العربي