لا أحد في استطاعته التكهّن بما تريده السياسة الأميركية في العالم، وخصوصاً في الشرق الأوسط. وإذا كانت الصحافة الأميركية تتفق مع تلك “السياسة” أو تخالفها، فليس معنى ذلك أنها تدرك ما الذي وراء ما يرسمه أصحاب القرار من استراتيجياتٍ خفية بمعزل عن غيرهم أبداً.. فهل من الغباء أن تسيطر حركة طالبان مثلاً على أغلب أراضي أفغانستان إثر الانسحاب الأميركي منها؟ وهل تنفع النيات الحسنة هنا، في أنه سيتم تعويض أميركا أفغانستان عن الأضرار التي أحدثتها وحجم الآلام وعدد الوفيات التي تسببّت فيها؟ من السذاجة معالجة الأمور بهذه “الطريقة”. إذ لا يهم ما يكتبه هذا أو ما يذيعه ذاك عن خسران أميركا في أفغانستان، ولكن أحداً لا يعلم ما الصفقة القادمة بين الفرقاء؟ وما الاستراتيجية الجديدة التي قد يتبّعها الأميركان في أفغانستان أو مع العراق لاحقاً.
نزل الشباب العراقي إلى الشوارع في عام 2019 للاحتجاج على 16 عاماً من مفاسد حكومات متتالية تعيسة، اعتمدت على طبقة سياسية طائفية فاسدة، تعتبرها كل من أميركا وإيران مجرّد دمى لهما. كانت الاحتجاجات موجّهة ضد فساد الحكومات العراقية المتعاقبة وفشلها، وصولاً إلى تشكيل حكومة جديدة في مايو/ أيار 2020، برئاسة مصطفى الكاظمي (يحمل جنسية بريطانية)، وكان منذ 2003 صحافياً ومحرراً لموقع مونيتور الإخباري العربي (مقرّه الولايات المتحدة)، ثم تسلّق ليكون رئيساً فاشلاً لجهاز المخابرات العراقية. وعلى الرغم من مرور أكثر من سنة على تسلمه الحكم، لم يستطع فعل أي شيء، بسبب ضعف قدراته وإمكاناته لإيقاف انهيارات البلاد، والحدّ من بطش المليشيات الموالية والولائية لإيران، كما لم يوقف أبداً استشراء الفساد واستفحال الجرائم. وتعلم أميركا فشله وفشل من سبقوه في حكم العراق، ولكنها، كما يبدو، لا تقبل بتغيير نظام الحكم الحالي، كونه يخدم وضعها تماماً.
كانت جملة مليشيات كالتي سموها قوات الحشد الشعبي قد تشكلّت عام 2014 لمحاربة عصابات تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، وقد سمح بإطلاق العنان لتلك المليشيات أن تساهم بوجود نفوذ إيراني متمكّن في سورية التي باتت رهينة بواسطة تلك القوى العراقية. وتضم قوات الحشد الشعبي الآن حوالي 130.000 مقاتل يتوزّعون في 40 وحدة مختلفة أو أكثر. وقد جنّدت معظمهم الأحزاب والجماعات السياسية العراقية الموالية لنظام خامنئي الإيراني، لكنهم يموهون وجودهم باعتبارهم جزءاً من القوات المسلحة العراقية، فيما هي مليشيات يمكن لإيران تشغيلها وإيقافها كسلاح ضد الولايات المتحدة، وهي وحدات لها مصالحها وهياكل صنع القرار الخاصة بها، ومتنفذة في العراق، ولها قوة بطش تخشى منه الحكومة نفسها! ومنذ اغتيال القائد السابق لفيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني، الجنرال قاسم سليماني، وقائد الحشد الشعبي، أبو مهدي المهندس، في يناير/ كانون الثاني 2020، بدأ الهتاف بإخراج القوات الأميركية المتوزّعة في العراق. واتفق العراق والولايات المتحدة في أوائل إبريل/ نيسان على مغادرة القوات القتالية الأميركية قريباً، وهي قصة تمويهية أخرى!
يمكن لإيران تشغيل مليشياتها وإيقافها كسلاح ضد الولايات المتحدة، وهي وحدات لها مصالحها وهياكل صنع القرار الخاصة بها، ومتنفذة في العراق، ولها قوة بطش تخشاه الحكومة نفسها!
لم يتم تحديد موعد، ولم يتمّ التوقيع على اتفاق مفصّل بين العراقيين والأميركان، ورئيس وزراء العراق، مصطفى الكاظمي، فاقد للثقة والأهليّة من كلّ الأطراف، والعالم يشهد توالي الهجمات على القوات الأميركية، من دون أي رد فعل مضاد. ولكن إيران ربما تبيعهم في صفقة مع الأميركان في محادثات فيينا بشأن الاتفاق النووي وخطة العمل الشاملة المشتركة، مع عرض عسكري كرنفالي في يونيو/ حزيران 2021 للاحتفال بالذكرى السابعة لتأسيس الحشد الشعبي. وفي اليوم التالي، قصفت الولايات المتحدة قوات الحشد في العراق وسورية، ما أثار إدانة علنية من الكاظمي وحكومته، باعتباره انتهاكاً للسيادة العراقية. وبعد شنّ ضربات انتقامية، أعلنت قوات الحشد الشعبي وقفاً جديداً لإطلاق النار في 29 يونيو/ حزيران استمرّ ستة أيام، كي يستأنف ثانية بالهجمات الصاروخية والطائرات المسيّرة على أهداف أميركية. وهدد بايدن بالرد بضرباتٍ جويةٍ، حتى أنه لم يسقط أي ضحايا أميركيين، وفعلاً ردّت القوات الأميركية بضربات جوية أكثر أو أشد، كون الأميركان يدركون أن الهجمات إيرانية بأيد عراقية.
واضح أن لدى الأميركيين أسبابهم للاحتفاظ بقواتهم في العراق الذي يعتبرونه قاعدة أمامية في حربهم المحتدمة على إيران. وكان الرئيس بايدن قد ابتلع، من دون وعي، الحبّة السامة لسياسة سلفه ترامب تجاه إيران، من خلال استخدام “الضغط الأقصى”، واحداً من أشكال “النفوذ”، ما أدّى إلى تصعيد لعبة القط والفأر التي لا نهاية لها، والتي ستفوز الولايات المتحدة بها في النهاية. وهو تكتيك بدأ أوباما يمارسه قبل ست سنوات من خلال توقيع خطة العمل الشاملة المشتركة. ولا يزال مصير الاتفاق النووي الإيراني غير مؤكد. وقد انتهت الجولة السادسة من الدبلوماسية المكوكية في فيينا يوم 20 يونيو/ حزيران الماضي، ولم يتم تحديد موعد للجولة السابعة. ويبدو التزام الرئيس بايدن بالاتفاق أكثر اهتزازاً من أي وقت مضى، وقد أعلن الرئيس الإيراني المنتخب، إبراهيم رئيسي، أنه لن يسمح للأميركيين بمواصلة رسم المفاوضات.
لدى الأميركيين أسبابهم للاحتفاظ بقواتهم في العراق الذي يعتبرونه قاعدة أمامية في حربهم المحتدمة على إيران
رفع وزير الخارجية الأميركية، أنتوني بلنكين، يوم 25 يونيو/ حزيران الرهان، مهدّداً بالانسحاب من المحادثات تماماً. وقال إنه إذا استمرّت إيران في تدوير أجهزة طرد مركزي أكثر تطوّراً على مستويات أعلى سيصبح من الصعب للغاية على الولايات المتحدة العودة إلى الصفقة الأصلية. ولدى سؤاله عما إذا كانت بلاده قد تنسحب من المفاوضات، أو متى ستنسحب، قال: “لا يمكنني تحديد موعد لها، لكنه يقترب”. وعليه، ليس من العقل حقاً انسحاب القوات الأميركية من العراق ومماثلته بأفغانستان، فالأمر مختلف تماماً بين البلدين في الاستراتيجية الأميركية. كان الجيش الأميركي يقصف العراق 26 عاماً في الثلاثين عاماً الماضية. وتثبت الحقيقة أنه لا يزال يشنّ “ضربات جوية دفاعية” بعد 18 عاماً من غزوه 2003، وما يقرب من عشر سنوات منذ النهاية الرسمية للحرب، فمن التعاسة أن يكون العراق ميداناً للكوارث من خلال تدخلات الآخرين في أراضيه وشؤونه.
.. ينفذ الرئيس بايدن اليوم استراتيجية خفية في أفغانستان، وقد أجاب: “بالنسبة للذين جادلوا بأنه يجب علينا البقاء ستة أشهر أخرى فقط أو سنة واحدة أخرى، أطلب منهم التفكير في دروس التاريخ الحديث…”. هذا “الدرس” لا يمكن تطبيقه على العراق، الغارق في الموت والبؤس، وقد سحقت عديد من مدنه الجميلة، وشهد ولم يزل أشكالاً رهيبة من العنف الطائفي، وهو يختلف عن أفغانستان جملة وتفصيلاً، وستشهد الأيام المقبلة تحوّلات غاية في الخطورة، وستكون مؤثرة على عموم الشرق الأوسط.
العربي الجديد