في موازاة الانتشار المسلح لعشرات الفصائل العراقية المنضوية ضمن “الحشد الشعبي”، داخل مدن الشمال العراقي وغربه، تبرز واجهات عديدة وبأسماء وعناوين مختلفة تابعة بالمجمل لفصائل بارزة في “الحشد”، مثل “المكاتب الاقتصادية” المتهمة بالتدخل بعقود الإعمار ومناقصات تأهيل المباني والبنى التحتية المدمرة في الموصل وسهل نينوى وصلاح الدين. وتبرز أيضاً لجان “التدقيق والمعلومات”، ومديرية “مكافحة الإرهاب الفكري”، التي نشطت بشكل كبير في الأشهر الماضية، مع إبعادها الكثير من الخطباء ورجال الدين والمدرّسين أو تجميد عملهم تحت عناوين مختلفة.
وتنشط هذه المديرية، التي يمكن اعتبارها الذراع الأحدث لـ”الحشد”، في مدن ومحافظات الأنبار وصلاح الدين وديالى وكركوك ونينوى إضافة إلى بغداد. وتتولى إدارتها شخصيات من جماعة “الرباط المحمدي”، وهي جماعة دينية صوفية برزت في السنوات الأخيرة التي أعقبت تحرير المدن من تنظيم “داعش” بدعم من “الحشد”، بالإضافة إلى بعض الزعامات في “الحشد العشائري” المرتبط تنظيمياً بـ”هيئة الحشد الشعبي”.
الدائرة تُقصي شخصيات محددة وتقرّب أخرى وفقاً لولائها
وتأسست الدائرة في نهاية عام 2017 باسم “وحدة التبليغ الديني”، قبل أن يتغير اسمها إلى “دائرة مكافحة الإرهاب الفكري”، كقسم جديد داخل “هيئة الحشد الشعبي”. وهو ما يصفه مراقبون بأنه مخالف للقانون الذي على أساسه تم إنشاء الهيئة عام 2016، وحدد سلفاً وحداتها وأقسامها كمظلة جامعة ومنظمة لعمل نحو 80 فصيلاً مسلحاً. وتظهر أنشطة التشكيل الديني الجديد ضمن الموقع الإلكتروني الرسمي لـ”الحشد الشعبي”، عبر فعاليات مختلفة، مثل حوار الأديان والتسامح بين الطوائف وإعادة النظر بالخطاب الديني وتعزيز الوسطية.
وحيال هذه المواضيع، تحدثت مصادر مقربة من “الحشد الشعبي” عن أن دائرة “مكافحة الإرهاب الفكري” مهمتها مراقبة المُخلّفات الفكرية التي تركها تنظيم “داعش”، بعد سيطرته على مناطق واسعة شمالي العراق وغربه. وتضيف في حديثٍ لـ”العربي الجديد”، أن الدائرة تقوم بعمليات إبعاد وتدقيق على هذا الأساس في الهيكل العام للمساجد والجوامع والمنظمات الإسلامية الخيرية والدعوية، إلا أن مسؤولين محليين وسياسيين، بينهم نائب في البرلمان، اتّهموها بكونها تتولى أنشطة سياسية والترويج للفصائل المسلحة الأكثر ارتباطا بإيران، تحديداً مليشيات “كتائب حزب الله” و”النجباء” و”سيد الشهداء” و”عصائب أهل الحق” و”بدر”. ويشيرون إلى أنها تُقصي شخصيات محددة وتقرّب أخرى وفقاً لولائها وتوجهاتها السياسية والفكرية، وتفرض نهجاً معيناً مستندة إلى سلطة ونفوذ المليشيات التي تمتلكها في تلك المناطق.
من جهته، يتحدث نائب بارز عن بغداد لـ”العربي الجديد”، عما يصفه بـ”عمليات إقصاء لعشرات من خطباء الجوامع والمساجد والمعلمين والمدرسين في المدارس الدينية منذ عام 2019 ولغاية الآن، وصلت إلى إبعاد بعض خدّام الجوامع بفعل إجراءات دائرة مكافحة الإرهاب الفكري التي باتت تفرض قراراتها على جهات عدة في المدن المحررة ومنها الوقف السنّي، مستمدة نفوذها من هيمنة فصائل الحشد الشعبي وليس من القانون أو الإجراءات الجزائية في القضاء العراقي”. ويضيف أن “القائمين على هذه الدائرة يستخدمون شعار محاربة الفكر السلفي التكفيري في عمليات إقصاء غير قانونية بعضها يحمل جوانب شخصية وأخرى سياسية”، واضعاً الإجراءات الأخيرة في إطار “محاولة فرض إرادات وسيطرة على المساجد ومديريات الأوقاف ودور تحفيظ القرآن الكريم، إضافة إلى فرض نمط معين ومحدد من خطب الجمعة والمحاضرات الدينية”، ويعتبر أن مهمة الدائرة تحولت من محاربة أفكار “داعش” إلى عزل شخصيات واستقدام أخرى موالية لـ”الحشد الشعبي”، بما يفرض إرادات على التوجهات الدينية والعقائدية لسكان تلك المناطق.
وحول هذه التطورات، يقول الباحث في الجماعات الإسلامية والفرق فاروق الظفيري، لـ”العربي الجديد”، إن “مكافحة الإرهاب الفكري” تعمل على إقصاء المخالفين لـ”الحشد الشعبي” ووجوده في المناطق الشمالية والغربية من العراق، و”وصمهم بالدعشنة”. ويضيف الظفيري أن المديرية التي يرأسها عبد القادر الألوسي وينوب عنه محمد نوري العيساوي، متورطة بالترويج لإيران بشكل مباشر، وأقدمت أخيراً على فتح فروع في مختلف المدن. ويشدّد على أن العنوان الذي تتخذه المديرية للتحرك، مثل الوسطية ومحاربة الإرهاب، مجرد غطاء لأنها بالحقيقة تعمل على خدمة مليشيات محددة وتمكينها في تلك المناطق.
يتم فرض نمط معين ومحدد من خطب الجمعة والمحاضرات الدينية
في المقابل، يدافع عادل الكرعاوي، المتحدث باسم حركة “أنصار الله الأوفياء”، إحدى فصائل “الحشد الشعبي” الناشطة في مناطق عدة شمالي البلاد وغربها، عن المديرية. ويقول في حديثٍ لـ”العربي الجديد”، إن “الحشد الشعبي يدرك أهمية محاربة الخطاب الديني المتطرف وأن هذا الخطاب كان سبباً لولادة تنظيمات إرهابية كثيرة، وربما ما زال الخطاب المتطرف موجوداً ويؤثر على شباب العراق في المناطق المحررة، لذلك يتم تنقية رجال الدين الذين يعتلون المنابر في تلك المناطق، شرط أن يكون ذلك وفق آلية حكومية ونظامية وليس تعسفية”. ويضيف أن “الأفكار الإقصائية والتكفيرية ما زالت موجودة في العراق وتحتاج إلى حملات لإنهاء هذا الخطر، بالتالي فإن مهمة الحشد الشعبي ليست قتالية فقط، بل تسعى إلى عدم السماح للمتطرفين بكسب مزيدٍ من العراقيين إلى صفوفهم”.
لكن الخبير بالشأن السياسي مؤيد الجحيشي، يشرح لـ”العربي الجديد” تفاصيل عمل دائرة “مكافحة الإرهاب الفكري”، ويشير إلى أنها خارج إطار القانون، وقائمة على اجتهادات العاملين فيها. ويضيف أن “أغلب أنشطة الحشد الشعبي حالياً ليست أمنية أو قتالية، بل باتت تتدخل في مجتمعات المدن، وكأنها منظمات أو أجهزة رقابية متجاوزة القانون والقضاء وحتى الإجراءات الأصولية للدوائر والمؤسسات، وتعمل تحت حجة محاربة داعش والتطرف وغيرها من هذه الأهداف، لكن الحقيقة أنها تستهدف كل صوت معارض لوجودها”.
ويكشف أن “هيئة الحشد تمكنت خلال العامين الماضيين من تأسيس جمعيات ودوائر ثقافية ودينية، في سبيل تقديم نفسها للمجتمعات في تلك المدن والترويج، وخلال الفترة الماضية شهدت المحافظات المحررة افتتاح سلسلة من مدارس الأطفال، بعناوين مستفزة، ومنها (روح الله الخميني) في نينوى، و(أبو مهدي المهندس) في صلاح الدين، وهو ما لا ينسجم مع طبيعة المجتمعات ذات الطيف الواحد في تلك المدن”. ويلفت إلى أن “بعض خطباء الجوامع ورجال الدين أُبعدوا بالإكراه عن دور العبادة، ومنعوا من التواصل مع الأهالي عبر خطب الجمعة، وتم تعويضهم بآخرين من المدن نفسها لكنهم منسجمون مع الفصائل المسلحة، وجميع هذه التحركات هي ذات طابع سياسي، وعلى السلطات أن تنتبه لذلك”.
زيد سالم
العربي الجديد