يستمرّ النظام اللبناني هذه الأيام في الدوران في حلقة الفراغ الحكومي الذي سبَّبه فشل أقطاب النظام اللبناني بالاتفاق على تشكيل حكومة، بسبب صراعهم على حقائب وزارية سيادية، يريد كل فريقٍ سياسي منهم أن يتناهش ما بقي من جثثها، بعد أن دخلت البلاد في طور الانهيار المالي والاقتصادي. وبعد اعتذار أحد أهم أقطاب النظام اللبناني، سعد الحريري، عن تشكيل الحكومة، بعد تسعة أشهر من تكليفه وبعد الفراغ الحكومي، اقترحَ تسميةَ قطبٍ آخرٍ من أقطاب هذا النظام، متهمٍ بقضية إثراء غير مشروع، رئيس الحكومة الأسبق، نجيب ميقاتي، لتشكيل الحكومة. ثم سرعان ما أصدر رئيس الجمهورية، ميشيل عون، قرار التكليف وسلّمه لميقاتي. وبالنظر إلى عدم تغير الوقائع على الأرض، وبالاستناد إلى تاريخ ميقاتي في وزارتيه، يتأكّد لدى جميع المراقبين أن هذا النظام وصل إلى مرحلة ترقيع نفسه من أجل ضمان استمراره، بعد أن باتت مهمّة إعادة إنتاجه دوريّاً صعبةً.
قيل إن الاتجاه إلى تكليف ميقاتي بتشكيل الحكومة اللبنانية جاء نتيجة موقفه حول ضرورة تشكيل حكومة إنقاذ، تستنير بالمبادرة الفرنسية من أجل إجراء إصلاحاتٍ في البلاد، وفق الصيغة التي وضعها صندوق النقد الدولي ومؤتمر سيدر للمانحين الدوليين الذي عُقدت جلسات عديدة له في باريس. ولكن هل يمكن لحكومة سيشكلها ميقاتي إجراء الإصلاحات التي وعدت الطبقة السياسية الرئيس الفرنسي، إيمانويل ماكرون، مراراً، بإجرائها، حين زار بيروت عشية انفجار المرفأ، في 4 أغسطس/ آب 2020، وبعد ذلك؟ إذا كانت تستطيع فعل ذلك، فإن زملاء ميقاتي في الطبقة الحاكمة سيمنعونه، لأن إصلاحاً كهذا هو بمثابة حفر هذه الطبقة قبرها بنفسها. إضافة إلى ذلك، أي إصلاح سيتضمن مكافحة الفساد وإعادة الأموال المنهوبة من المصارف اللبنانية ومن مؤسسات الدولة إلى مستحقيها، وهو ما لن يفعله ميقاتي، المتهم بقضايا التربُّح عبر قروض الإسكان التي جيَّرها لمؤسساته، وحرم منها الشباب اللبناني واستحق على إثرها اتهام النيابة العامة الاستئنافية في جبل لبنان له بتحقيق مكاسب غير مشروعة، علاوة على اتهامه بقضايا فسادٍ أخرى في حقل الاتصالات.
إهمال متعمد من السياسسن للمشكلات الحقيقية التي تعاني منها البلاد بسبب سياساتهم، عبر افتعال مشكلاتٍ أخرى تدخل في صلب إدارة الدولة
يخالف تكليف ميقاتي تطلعات المواطنين اللبنانيين، ولكنه متوقَّع من هذه الطبقة السياسية التي تحاول النجاة بأي طريقة، على الرغم مما يعترضها من ضغطٍ شعبي بسبب أزمة البلاد التي انهارت فيها قطاعات الصحة والكهرباء والمصارف وغيرها. وفي إطار مخالفة تطلعات المواطنين، وفي إطار الهجوم الدائم والمتواصل على المعارضين منهم، والمستمر منذ اندلاع انتفاضة 17 تشرين الأول (2019)، يخرج محللون سياسيون ممن يدورون في فلك هذا النظام على شاشات القنوات الفضائية اللبنانية، من أجل تلميع صور أقطاب هذا النظام. وآخر ما قاله أحد هؤلاء قبل أيامٍ: من يحلم بتغيير النظام اللبناني فهو واهم… وفي لغة جازمة تشبه في جزمها ما خرج به الأمين العام لحزب الله، حسن نصر الله، عشية انتفاضة تشرين، حين بشَّر اللبنانيين قائلاً: “هذا النظام لا يسقط، وإن العهد (عهد الرئيس ميشيل عون) لا يسقط”، أردف هذا المحلل جازماً: “هذا النظام لا يتغيَّر، بل يُعاد إنتاجه في كل مرحلة ليكون على مقاس المرحلة”. ثم، ولتأكيد نبوءته، لا يرى غضاضةً في تذكير اللبنانيين بأن كل ما جرى في لبنان من حروب أهلية وانتفاضات ومظاهرات وتحرّكات مطلبية، عمالية ونقابية وأهلية، وغيرها من التحرّكات، لم تستطع تغيير النظام.
ولكن أي نظامٍ هو الذي يُبشِّر هذا المحلل بصعوبة تغييره؟ إنه الذي يواصل أقطابه البقاء في السلطة، على الرغم من افتضاح صفقاتهم المشبوهة بعد تحكُّمهم بمفاصل البلاد الاقتصادية ومرافقها الحيوية، علاوة على إهمالهم الذي أدّى إلى انفجار مرفأ بلادهم الأساسي، وتدمير ثلث عاصمتهم وقتل عدد كبير من أبنائها، من دون أن يؤثر ذلك على مشاعرهم، أو يدفع أحدهم إلى الخجل، ومن ثم الانتحار تحت ضغط تبكيت ضميره بعد مشاهد الخراب التي أدّى إليه الانفجار. ليست مشكلة هذا المحلّل، أو غيره، ممن يدافعون عن النظام اللبناني، وينظِّرون لصعوبة تغييره، أنهم يعيشون تحت ضغط مرض “خط الزمن” الذي لا يستطيعون الفكاك منه، بل مشكلتهم أنهم يعيشون في حالة اغترابٍ تدفعهم إلى إنكار الواقع الذي يقول إن أقطاب النظام يؤسّسون لسقوطهم مع بدء الانهيار في البلاد. كما أنهم في حالة إنكار أن التغيير في مزاج أتباع زعماء الطوائف وفي ولائهم قد بدأ، وهو يحدث على الرغم من بطئه، وأن هذا النظام لا يفعل شيئاً سوى إدارة أزمة البلاد والاستثمار في انهيارها المالي والاقتصادي إلى أبعد حد، قبل حصول الانهيار الشامل.
يخالف تكليف ميقاتي تشكيل الحكومة تطلعات اللبنانيين، ولكنه متوقَّع من الطبقة السياسية التي تحاول النجاة بأي طريقة
لقد انحصر همُّ أقطاب النظام اللبناني ووسائلهم الإعلامية ومحلليهم والمنظّرين لبقائهم في طمس المشكلات الحقيقية التي تعاني منها البلاد بسبب سياساتهم، عبر افتعال مشكلاتٍ أخرى تدخل في صلب إدارة الدولة. وهي مشكلاتٌ تتعلق بتشكيل الحكومة وفي نوعها؛ سياسية أم حكومة تكنوقراط. كما نفخوا في المشكلات المزمنة التي تمنع تشكيل الحكومة، من ثلثٍ معطِّلٍ ومن أحقية بعض الحقائب لهذا الطرف أو ذاك، على الرغم من الانهيار الذي يرون كيف تكبر كرته أمام أعينهم كل لحظة. وإذا كان تبادل الأدوار بين الحلفاء، حليفٌ راضٍ وحليف رافض، والصراع على الحصص، هما ما منعا سعد الحريري من تشكيل حكومته، فإن ملامح ظهور هذا التبادل للأدوار مع ميقاتي قد بدأت، حين أيَّد حزب الله تكليف ميقاتي، في حين رفض حليفه، رئيس التيار الوطني الحر، جبران باسيل، تأييد تكليفه. ولم يفعل باسيل ذلك فحسب، بل عاد إلى نقطة الانطلاق الأولى التي سبّبت فشل الحريري، وهي المطالبة بحصته، بدءاً بوزارة الداخلية، حتى قبل استلام ميقاتي قرار تكليفه الرسمي من رئيس الجمهورية.
عملية توليد الحاضر من الماضي تحْكمُ على الحاضر الذي يُراد توليده بالفشل، إذ ما لم يستطع ميقاتي أن يقدمه خلال الحكومتين اللتين شكلهما، سنتي 2005 و2011، أي خلال أيام الراحة وقلة الأزمات، لن يستطيع أن يقدّمه في طور انهيار البلاد. وإذا استنتج محللو النظام اللبناني، عبر سرد تاريخ الحركات الاحتجاجية فيه، أن النظام عصيٌّ على التغيير، فإن عليهم أن يستنتجوا أن الحكومات التي يشكلها أقطاب هذا النظام ستبقى عاجزة، أو متمنعة عن إجراء إصلاح ينفي وجودها، وهو إصلاحٌ ربطه الدائنون بتقديم قروضٍ لا يريدون أن تجد طريقها إلى جيوب فرقاء النظام، كما حصل مع قروضٍ سبقتها، بل إلى إصلاحٍ لن يتم ما دامت الوجوه هي ذاتها وتتبادل الأدوار ذاتها. من هنا، يمكن القول إن تشكيل الحكومة اللبنانية على يد نجيب ميقاتي، إذا تم، سيبقي النظام اللبناني أعرج فاقداً قدرة العمل، وهي، وإن عجزت عن إعادة إنتاجه، فلن يتسنى لها حتى ترقيعه.
مالك ونوس
العربي الجديد