تسارعت أحداث أفغانستان بشكل مذهل في الأيام الأخيرة، بشكل يجعل من التوقعات الأمريكية الأخيرة التي توقعت سيطرة حركة طالبان على العاصمة كابول خلال ثلاثة أشهر «متفائلة» وغير مطابقة لواقع الحال، فما يحصل في تلك البلاد عمليا هو تقدّم سريع جدا للحركة، يقابله انهيار بالسرعة نفسها لقوات الحكومة الأفغانية، مما يجعل احتمال سقوط النظام الذي نشأ بعد الهجوم الأمريكي قبل عشرين عاما وعودة الحركة للتحكم بمصير البلاد أقرب بكثير من تلك التوقعات.
يكشف نجاح هجوم طالبان أن انسحاب واشنطن من أطول حرب في تاريخها ليس غير إقرار بوضع محسوم على الأرض، وأن وجود قوات حلف الأطلسي، كان مجرد عامل تأخير لا يمكن الاستمرار فيه طويلا، وأن قرار الحرب، الذي أخذ على عجل، وبعد قرابة شهر من هجمات «القاعدة» في 11 أيلول/سبتمبر 2001، وشارك فيه عدد كبير من الدول الغربية، كان قرارا استراتيجيا خاطئا بشكل هائل.
يمثّل انتصار طالبان المقبل الإعلان الأكبر عن ذلك الخطأ، وهو يكشف، بأكثر من طريقة، جذور ذلك الخطأ، وأسباب انتصار الحركة، التي تكرّر مشهدا تكرّر عدة مرّات في تاريخ البلاد والعالم، ويذكر باجتياح الإمبراطورية البريطانية لأفغانستان، عام 1839، وهزيمتها المدوية بعدها بثلاث سنوات، وكذلك الاجتياح الروسي عام 1978، ثم الانسحاب بعد 11 عاما في 1989، الذي كان أحد أسباب انهيار الاتحاد السوفييتي وتفككه.
يظهر هذا التاريخ أن هذا البلد الفقير والضعيف والمحاصر بدول قويّة، واجه الامبراطوريات الكبرى في عصره وانتصر عليها.
دفع المدنيون الأفغان أثمانا هائلة لمحاولة تلك الامبراطوريات العظمى احتلال بلادهم، وتختلف المصادر التاريخية حول عدد من قتلوا منهم خلال الاحتلال السوفييتي، وذلك بين 526 ألفا وقرابة المليونين، فيما قدرت مصادر حقوقية وفاة قرابة 241 ألف أفغاني منذ الاحتلال الأمريكي للبلاد.
إضافة إلى الهزيمة والاضطرار للانسحاب فقد كلّفت هذه الحروب جيوش الاحتلال الكثير، فقتل في الحرب الإنكليزية ـ الأفغانية الأولى قرابة 18 ألف جندي بريطاني، وقتل من القوات السوفييتية 14453 جنديا (مقابل 90 ألفا من المقاتلين الأفغان) وحتى أيار/مايو 2020 كان قد قتل 3502 جندي من قوات «التحالف الدولي» الذي تقوده أمريكا في أفغانستان.
تقدّر الخسائر الماديّة التي تكلّفتها الولايات المتحدة الأمريكية على حربها الأفغانية بقرابة 978 مليار دولار (حتى عام 2020) كما تكلف دافع الضرائب البريطاني 31.3 مليار دولار، مع العلم أن عدد الدول المشاركة في هذا التحالف هو 32 دولة، بينها كندا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا وأستراليا وإسبانيا وهولندا والسويد والبرتغال وجنوب كوريا وغيرها.
تدل هذه الوقائع على أن طالبان، ليست غير ظاهرة للتعبير عن مسألة تاريخية كبرى تتعلّق بذلك البلد الذي تخصّص بهزيمة الامبراطوريات الكبرى، وهو ما يجعله مثالا تاريخيا يوجب دراسته وتحليل عناصره، ومن العناصر المفيدة للدراسة معرفة لماذا تصرّ الدول الكبرى على احتلاله، وتفشل دائما في ذلك.
القدس العربي