ثلاثة دروس من أفغانستان للأمريكيين والعرب والفلسطينيين

ثلاثة دروس من أفغانستان للأمريكيين والعرب والفلسطينيين

مشهد سيريالي في مطار كابول.. الأمريكي المحتل يخرج هرولة بعد عشرين سنة من الاحتلال مخلفا معداته وعملاءه وكبرياءه. المشهد ليس جديدا، الغزاة في نهاية المطاف يهربون لأنهم غزاة. وكما تهاوت إمبراطوريات الاستعمار التقليدي وعادت وانكفأت في حدودها، تسير الولايات المتحدة على الطريق نفسه، بعد أن قدمت نموذجا مختلفا من الهيمنة والتسلط وغطرسة القوة. فقد هرب آخر جندي أمريكي من فيتنام عام 1975 في عهد الرئيس فورد، وهرب من تبقى من جنود من صحراء إيران عام 1980 في عهد الرئيس كارتر، وهرب جنود البحرية عن طريق البحر من بيروت عام 1983 في عهد الرئيس ريغان، وهربت فرقة النخبة «رينجرز» من الصومال عام 1993 بعد أن فقدوا 18 عنصرا في عهد الرئيس كلينتون. وغادرت القوات الأمريكية بمجملها العراق عام 2011 في عهد الرئيس أوباما، بعد أن خسرت نحو خمسة آلاف جندي، وها هي تجبر على الانسحاب المذل وغير المنظم من أفغانستان وتفقد 13 جنديا في اللحظات الأخيرة في عهد الرئيس بايدن. سلسة من المغامرات الفاشلة التي تقوم بها الولايات المتحدة. تقتل وتفتك وتدمر وتزيد من كراهية الشعوب لها. تتحول الكراهية والغضب والقهر إلى مقاومة موجعة لا تتحمل ثمنها فتهرب من المسالك الخلفية مخلفة وراءها آثار الهزيمة والفضيحة.
لكن الدروس المستفادة من تلك المغامرات، وآخرها أفغانستان، يجب أن تعمم على كل المعنيين، خاصة منطقتنا العربية. وسأختصر هذه الدروس في ثلاثة – واحد للأمريكيين وآخر للعرب والأخير للفلسطينيين.

درس للشعب الأمريكي

الديمقراطية لا تصدر بالبندقية والدبابة والقاذفة.. القوة الناعمة أسهل وصولا وأطول عمرا وأعمق تأثيرا، لقد بلغت تكاليف الحرب في أفغانستان واحتلالها لمدة عشرين سنة نحو ترليوني دولار بمعدل 300 مليون دولار في اليوم، كما قال الرئيس بايدن وهو يبرر للشعب الأمريكي أهمية الانسحاب. لو صرف عشر هذا المبلغ على تطوير البلاد لأصبحت أفغانستان دولة متطورة والتحقت بركب الحضارة، ولاختارت طوعا أن تكون حليفة للولايات المتحدة مثل دول أوروبا التي دمرتها الحرب العالمية الثانية، وأصبحت حليفة دائمة للولايات المتحدة بعد إطلاق خطة مارشال لإعادة البناء. ولو وضعت الولايات المتحدة مبلغا صغيرا جدا لتصيد أسامة بن لادن، بدل كل هذا الخراب والخسائر لما تأخر اعتقاله كثيرا، خاصة أنه محصور في منطقة محددة في أفغانستان لا تصعب على الأقمار الصناعية وأجهزة التنصت وتعاون بعض المخبرين على الأرض، لقد فعلتها الولايات المتحدة مرارا وتكرارا. أتذكرون خطف الليبيين المتهمين بقتل السفير كريستوفر ستيفنز في بنغازي بليبيا يوم 11 سبتمبر 2012، أحمد أبو ختالة عام 2014 ومصطفى إمام عام 2017. ألم تطارد أجهزة المخابرات الأمريكية عماد مغنية، أحد قادة حزب الله الميدانيين، لمدة 23 سنة وتصيدته في أول زيارة له لدمشق عام 2008. ومغنية كان المتهم الرئيسي بخطف وليم باكلي رئيس وحدة وكالة الاستخبارات المركزية في بيروت وتصفيته عام 1985 حتى رئيس شبكة إنتاج الكوكايين في كولمبيا أوسكوبار تمكنت من تصيده وقتله عام 1993.
الأمثلة كثيرة، فهل كانت هناك حاجة لاحتلال دولة كبرى مثل أفغانستان وقتل عشرات الألوف، وتدمير البلاد وإعادتها إلى العصر الحجري وتمكين اللصوص والفاسدين في إدارتها لعشرين سنة؟ وما المبرر لغزو العراق وقتل أكثر من مليون عراقي تحت ذريعة كاذبة، لكن الشعبين الأفغاني والعراقي أجبرا الولايات المتحدة على أن تحمل معداتها وجنودها وتغادر البلاد، بدون أن تحقق أي انتصار. وكم أصبحت جملة بوش عن حرب العراق «مهمة وأنجزت» موضع سخرية وتندر لسنوات طويلة بعد إطلاقها في الأول من مايو 2003. التدخل في أفغانستان سيكون آخر الحروب التي ستخوضها الولايات المتحدة بجيوش على الأرض، انتهى عهد إرسال الجيوش والمعدات والاحتلال. هذا ما قاله الرئيس بايدن. درس قاسٍ ومكلف لكن نأمل أنه بداية الدروس التي تعلمتها الولايات المتحدة من أطول حروبها منذ استقلالها عن التاج البريطاني.

درس للعرب

قبل سقوط الرئيس حسني مبارك بأيام معدودة، اتصل أحد القادة العرب بالرئيس الأمريكي باراك أوباما قائلا «كيف تتخلون عن حليف خدمكم 30 سنة بسبب مظاهرة قام بها شوية عيال؟». هذا الزعيم وغيره لم يتعلموا من دروس التاريخ وممارسات الدول الكبرى. ما أسهل أن تتخلى الولايات المتحدة عن حلفائها وعملائها بعد انتهاء الدور المطلوب منهم. مخطئ من يراهن على الولايات المتحدة فما أسهل أن تدير ظهرها للحليف بعد نهاية مهمته وبعد أن تمتص منه كل ما تريد، فقد تخلت الولايات المتحدة عن حليفها الأهم محمد رضا بهلوي، ورفضت أن تمنحه ملاذا آمنا في أراضيها، وتخلت قبل ذلك وبعده عن حلفائها وعملائها كارلوس في الفلبين وبينوشيه في تشيلي وهيلا سيلاسي في إثيوبيا وموبوتو في زائير وأرستيد في هايتي وبرويز مشرف في باكستان. الرئيس ترامب استقبل في جلسة «خطاب الاتحاد» مساء 4 فبراير 2020 الشاب الفنزويلي خوان غوايدو، الذي اعتبره ممثل فنزويلا الشرعي رغما عن وجود الرئيس المنتخب نيكولاس مادورو. بعد غياب ترامب هل عاد أحد يسمع بغوايدو؟ هل له أي قيمة؟ أين ذهب اعتراف ترامب واستقباله كممثل فنزويلا الشرعي. مخطئ من يضع أمنه في أيدي غيره. ومخطئ أكثر من يعتقد أن الولايات المتحدة ستحميه إلى الأبد، وأنها لن تتخلى عنه. إن الحماية الحقيقية تأتي من الشعب الذي له مصلحة في حماية النظام إذا كان هذا النظام يعبر حقيقة عن مصالح وآمال وأحلام وتطلعات شعبه. وليتذكر القادة العرب أن الشعب التركي عندما سمع بالانقلاب على الرئيس رجب طيب أردوغان في يوليو 2016 هب بكل فئاته لحماية الديمقراطية حتى المعارضة كانت من أوائل المنتصرين للديمقراطية. كما أن محاولات ترامب الانقلاب على الديمقراطية والادعاء بتزوير الانتخابات ارتدت عليه وبالا، وخرج من البيت الأبيض ذليلا. الشعوب هي التي تحمي حكوماتها المعبرة عن إرادتها وليس الدول المتعاقدة على تلك الحماية من أجل المال.

مخطئ من يراهن على الولايات المتحدة فما أسهل أن تدير ظهرها للحليف بعد نهاية مهمته وبعد أن تمتص منه كل ما تريد

درس للفلسطينيين

تميزت حركة طالبان بصفتين أساسيتين: الوحدة الداخلية والثبات على هدف طرد الغزاة بالكفاح والجهاد. عشرون سنة من النضال ضد الغزاة استطاعت الحركة أن تكسب إلى جانبها معظم فئات الشعب الأفغاني. لم تقاتل الأمريكيين وحلفاءهم من خارج الحدود، بل من داخل المدن والقرى والصحارى والجبال. ارتكب الغزاة من الأخطاء والخطايا ما حوّل الشعب الأفغاني إلى جانب المقاومة بعد أن تنفس الصعداء عندما طويت صفحة طالبان عام 2001. استمرت الحركة تقاتل إلى أن بدأت موازين القوى تختل لصالح المقاومة. لم تخجل بعدها أو تتردد في مفاوضة الأمريكيين. كانت تقاتل وتفاوض، بل كانت تتراخى كثيرا في المفاوضات على أساس أنها ليست في عجلة من أمرها. الأمريكيون هم من كانوا يستعجلون الاتفاق. وعندما نفذت كل طلباتهم في المفاوضات بما في ذلك تحديد موعد نهائي لانسحاب آخر جندي أمريكي من أفغانستان وهو 31 أغسطس 2021. لم تأبه باعتراف أمريكا بها أو لا، لم تستجد المساعدات، لم تكترث باتهامها بأنها حركة إرهابية، أو أنها حركة متطرفة، أو لا تعطي المرأة حقوقها. لم تدخل في هذه التفاصيل. الانسحاب الشامل دون قيد أو شرط. إنهاء الاحتلال تماما ولا دخل لهم في أفغانستان ما بعد الانسحاب الأمريكي. تماسك داخلي. تمسك بالمبادئ بدون أي تنازلات. تمدد على الأرض. مفاوضات في الدوحة وقتال في أفغانستان. والنتيجة انسحاب أمريكي غير منظم بطريقة مهينة. يذكرنا بمفاوضات أمريكا مع الفيتناميين في باريس عام 1975. كلاهما كان يفاوض ويقاتل. كلاهما لم يكن في عجلة من أمره. كلاهما حقق الهدف الذي حدده سلفا والتفت كل فئات الشعب حوله، ولم يسبب اي انشقاق في صفوف المقاتلين.

عبدالحميد صيام

القدس العربي