إذا كنت من أبناء «الشرق الأوسط الرهيب»، لا غرابة أنْ تشعرَ أنَّك أمضيت عقدين كاملين في عهدة قاتلٍ كبير اسمه 11 سبتمبر (أيلول) 2001. أعرف عزيزي القارئ أنْ لا أحد يريد ثبات هذا النوع من المواعيد المؤلمة في ذاكرته. لكنَّه يومٌ لا نستطيع أن نغسلَ أيديَنا منه أو أن نغسلَ مصائرَنا من شراراته.
يلتهم الوقت حرارة الأحداث. يحجّمها مقدمةً لإحالتها إلى النسيان. ذلك النهار الرهيب لا يزال يقاوم. أنجب جيشاً من الأرامل والثكالى والأيتام في الضربة الأولى. ثم أنجب نهراً من الجثث في عواصمَ وخرائطَ كانت بمعظمها في هذه المنطقة الشائكة المعروفة بالشرق الأوسط. لا تستطيع دولة الادعاء أنَّ دويّ تلك الهجمات لم يؤثر عليها وفي برنامجها ومخاوفها وخريطة الأصدقاء والأعداء.
نهر جثث وأكثر. كانَ من الصعب تصور الجيش الأميركي يطبق على تضاريس أفغانستان الصعبة من دون ذريعة، بحجم امتناع «طالبان» عن تسليم المرتكب المقيم في أراضيها. كان من الصعب تصوُّرُ رؤية دبابة أميركية تقتلعُ تمثالَ صدام حسين من ساحة الفردوس، من دون إصابة الإمبراطورية الأميركية بجرح كبير في كبريائها بفعل ذلك اليوم الرهيب. كان من الصعب تصور جسدِ صدام يتأرجحُ على حبل المشنقة وسط هتافات التشفي. لقد فتح ذلك النهار البابَ واسعاً لنهر من الجثث ما كانت لتكون لولاه. جثة رفيق الحريري. جثة معمر القذافي. جثة علي عبد الله صالح. جثة أبو بكر البغدادي. جثة قاسم سليماني. كأنَّ هجمات 11 سبتمبر فتحت أبوابَ الجحيم على مصراعيها. قصفٌ بلا رحمة. واغتيالاتٌ بدمٍ بارد. وأحزمة ناسفة. ومطالب محقة وغير محقة. وجماعات بريئة تطحنها القسوة. وجماعات تتوكأ الظلام لمحاربة الظلم، وتأتي النتيجة خرائط متصدعة وجيوشاً مشلعة وفصائلَ وميليشياتٍ ومقابرَ جماعية ومناطقَ نفوذ موزعة على أعلام الداخل والخارج.
كان الغرض من هجمات 11 سبتمبر اغتيال هيبة أميركا ورموز قوتها ونجاحها واستدراجها إلى نزفٍ قاتل كالذي أُصيب به الاتحاد السوفياتي في رحلته الأفغانية. وكان الغرض أيضاً إشعال خط التماس بين الغرب والعالم العربي والإسلامي وعلى أمل تكرار تجربة الجهاد التي حصلت ضد السوفيات. لم يتحقق هذا الغرض، إذ وقفت الدول الرئيسية في العالم الإسلامي في مواجهة الإرهاب، ومحاولات شطر العالم فسطاطين يستحيل التعايش بينهما. في المقابل ارتكبت أميركا خلال عمليتها الثأرية أخطاء قاتلة أدَّت إلى زعزعة توازنات تاريخية في الشرق الأوسط. وببساطة يمكن القول إنَّه لولا هجمات 11 سبتمبر لما رأينا العراق بلا صدام، ولما سمعنا جنرالاً إيرانياً يتحدث عن إدارة أربع عواصم عربية هي بيروت ودمشق وبغداد وصنعاء.
غيّرت هجمات ذلك اليوم الطويل ملامحَ إقليمية ودولية. غرقت أميركا في حربين صعبتين ومكلفتين. أتاح ذلك للرجل الذي دخل الكرملين عشية ولادة القرن، الإفادة من الوقت الضروري لترتيب أوراقه وتعزيز سيطرته وشحذ أدواته. لولا غرق أميركا في الحربين لما رأينا فلاديمير بوتين في وضعه الحالي بعدما هزَّ أوروبا في أكثر من مناسبة ورابط على المتوسط. سمح الانشغال الأميركي للرئيس الروسي بتنظيم رقصة معقدة على الأرض السورية مع الإيراني والتركي والإسرائيلي.
وما يقال عن روسيا في العقدين الماضيين يُمكن أن يُقال بالدرجة نفسها عن الصين، خصوصاً بعدما توّج الحزب زعيمه الحالي شي جينبينغ الذي طوى صفحة القيادة الجماعية. وبينما كانت أميركا تنفق الدم وتريليونات الدولارات في حروب بلا نهاية، كانت روسيا ترمم ترسانتها ودورها، وكانت الصين تحجز موقعها بوصفها «مصنع العالم» وتتقدم على طريق الحرير.
أثَّر عالم 11 سبتمبر على مصائر كثيرين. في ذلك النهار كانت طائرة الملك عبد الله الثاني في طريقها إلى واشنطن. لم يتوقع الرجل الذي تولَّى المقاليد قبل عام من إطلالة القرن الحالي أن تُمضي بلاده عقدين صعبين. عقدان وهي تحاول التعايش مع النار العراقية والنار السورية، فضلاً عن التوتر المزمن بفعل ترابط المصير مع الشعب الفلسطيني. هذا من دون أن ننسى النار التي كانت بين حين وآخر تخترق حدود البلد وسواء كان اسمها «القاعدة» أم «داعش».
بشار الأسد كان معنياً هو الآخر بذيول ذلك اليوم الطويل. أقلقه وجود القوات الأميركية على حدوده مع العراق، فتشارك مع إيران في إفشال محاولة أميركا دعم حكومة ديمقراطية موالية للغرب في بغداد. لكن بشار الذي نجح في تفادي النار الأميركية وذيول الانسحاب من لبنان بعد اغتيال الحريري، لم ينجح في منع الانفجار الكبير في الداخل السوري، وإن استطاع البقاء بفضل ولاء مؤيديه ودعم روسيا وإيران. في عالم 11 سبتمبر تحولت سوريا ملعباً بعدما كانت لاعباً. أما لبنان فتحول ركاماً يفتقر -لا إلى الدور- بل أيضاً إلى الحد الأدنى من شروط العيش. وكان للعالم الذي وُلد من هجمات نيويورك وواشنطن تأثير واضح على حجم الدور التركي ورهانات رجب طيب إردوغان وتدخلاته.
هل تعبت أميركا من الإقامة في عالم 11 سبتمبر بمعاركه وأخطاره وتكاليفه؟ هل قررت ترك جمر تلك الخرائط الصعبة بين أيدي أبنائها وجيرانها؟ ربما لم تعد لديها لا الرغبة ولا القدرة على بناء عالم يشبهها. هل تراها تعتقد أنَّها حين تنسحب تصبح بعيدة في حين أن إشعاعات مفاعل التطرف يمكن أن تصيبَ روسيا والصين أكثرَ مما تصيبها؟
لا يمكن إحصاء تكاليف الإقامة في عهدة قاتل اسمه 11 سبتمبر. إنَّه يومٌ باهظ لم يستطع أن ينافسه أي يومٍ آخر لجهة حجم أضراره وعدد ضحاياه. وحده «كورونا» يتقدَّم حالياً لحرمان «يوم الغزوتين» من هالة القاتل الكبير.
الشرق الأوسط
غسان شربل