الانسحاب الأميركي، الدراماتيكي والغريب، من أفغانستان، وتمكين حركة طالبان من السيطرة بكل سلاسة، قلَبَا كل الأوراق والحسابات للأطراف الفاعلة في منطقة الشرق الأوسط؛ لأن انسحاباً أميركياً مماثلاً من العراق سيعني عودة التنظيمات المتطرّفة، من “الدولة الإسلامية (داعش) والقاعدة، وتقوية للنفوذ الإيراني في كل المنطقة، وستنهار حالة الاستقرار النسبي، وتعمّ فوضى تعيدنا إلى نقطة الصفر، ولا ترغب بها كل الأطراف المتدخلة.
بات هم الولايات المتحدة، ومنذ عهد الرئيس أوباما، تحقيق بعض الانسحابات، لمصلحة تعزيز وجودها في المحيط الهادئ، مقابل الصين؛ لكنها اكتشفت لاحقاً أن تخفيض الوجود العسكري في الشرق الأوسط، أي العراق وسورية وكذلك الخليج العربي، سيؤدّي إلى تقوية تحالف صيني – روسي – إيراني نشأ لملء الفراغ، الأمر الذي لا ترغب به واشنطن. يبدو أن إدارة الرئيس بايدن ارتأت في الانسحاب من أفغانستان، وترتيب سيطرة “طالبان” على العاصمة كابول، توريطاً مناسباً، وإلهاءً لدول المحور الثلاثي، المجاورة لأفغانستان، في صراعاتٍ وربما حروب، ستبقى محصورةً في تلك المنطقة ذات الطبيعة الوعرة. بالتالي، الانسحاب من أفغانستان فيه مصلحة أميركية، لكنّه، في الوقت نفسه، تم بشكل مرتبكٍ يمسّ هيبة الولايات المتحدة وعظمتها، ويعرّض الإدارة الأميركية لانتقادات داخلية واسعة.
غضّت واشنطن الطرف عن تمدّد مليشيات طهران في العراق. وبالمثل، تفعل في سورية، ما عدا منطقة الجنوب
الأمر الثاني الذي يمسّ هيبة الدولة العظمى هو تعثر مفاوضات الاتفاق النووي مع إيران، وعجزها عن فرض شروطها على طهران، من أجل العودة إلى الصيغة الموقعة في 2015، فواشنطن تريد العودة إلى الاتفاق، تحقيقاً لما وعد به بايدن، لكن طهران تتشدّد برفضها الشروط الأميركية، وقد باتت دولةً شبه نووية، وفق ما تفيد تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية، وقد اختار المرشد خامنئي رئيساً متشدّداً، إبراهيم رئيسي، من التيار المحافظ، إعلاناً منه عن موقف إيراني صلب. تحتاج طهران إلى العودة إلى الاتفاق، لتستفيد من رفع العقوبات، وتتمكّن من تصدير النفط، خصوصاً إلى الصين، وأن تفتح علاقاتها الاقتصادية مع الأوروبيين، وتستورد الأسلحة، بطرقٍ شرعية، من روسيا، وللحصول على الأموال اللازمة لتوسيع مداخيل اقتصادها، واستكمال مشاريعها الإقليمية في العراق وسورية ولبنان بغطاء روسي، وتعزيز وجودها في مياه الخليج بشراكة صينية. وتدفع واشنطن شركاءها الأوروبيين في الاتفاق النووي مع إيران إلى إقناعها بالقبول بشروط العودة إلى المفاوضات. وعلى ذلك كان هناك تواصل ألماني وآخر فرنسي مع طهران. لكن متغيرات أفغانستان جعلت طهران تماطل أكثر، فتصريحات رئيسي ووزير خارجيته، حسين أمير عبد اللهيان، تقول بتأجيل العودة إلى مفاوضات جنيف شهرين، من دون أن يتوقف النشاط النووي الإيراني الذي بات على وشك امتلاك قنبلة نووية.
لطالما تشدّدت الولايات المتحدة في رفضها تمدّد النفوذ الإيراني في منطقة الشرق الأوسط، حيث كان شرطاً أساسياً للمضي بالحل السياسي في سورية، ولتخفيف العقوبات المفروضة على النظام السوري، وهو شرط أيضاً للعودة إلى مفاوضات جنيف بخصوص الاتفاق النووي، ومنع تحول لبنان إلى دولة لحزب الله في أية مشاريع لإنقاذ اقتصادها المنهار. وتقول واشنطن دوماً إنها لا ترغب بنفوذ مليشيات طهران في العراق، فضلاً عن اهتمامها بإبعاد خطر النفوذ الإيراني عن حلفائها في المنطقة في إسرائيل والخليج. لكن الوقائع على الأرض لا تتطابق مع التصريحات؛ ففي العراق غضّت واشنطن الطرف عن تمدّد مليشيات طهران. وبالمثل، تفعل في سورية، ما عدا منطقة الجنوب، حيث كانت واشنطن راعية لاتفاق درعا 2018، الذي نص على إبعاد المليشيات الإيرانية عن الحدود مع الأردن وإسرائيل مسافة 40 إلى 80 كم، وراعية للاتفاق الأخير أيضاً، بينما يستمر النفوذ الإيراني في التوسّع في كل مناطق النظام. كذلك، ظل الوضع المنهار اقتصادياً في لبنان معلقاً أكثر من سنة، مع رفض أية حكومة يشكلها حزب الله، ليتم القبول بها ذاتها (حكومة حزب الله) أخيرا، بوساطة فرنسية.
اختارت إدارة بايدن سياسة المهادنة مع الخصوم، بدل الصدام
اختارت إدارة بايدن سياسة المهادنة مع الخصوم، بدل الصدام. وعلى ذلك هي تحتاج وكلاء وحلفاء لها، للمساعدة في إبقاء الأمور في منطقة الشرق الأوسط تحت السيطرة، خصوصا ما يتعلق بالنفوذ الإيراني. تدرك الولايات المتحدة عمق العلاقة والشراكة الروسية الإيرانية في سورية، وأن روسيا لن تتخلّى عن إيران، على الرغم من المنافسة بينهما على المكاسب. لذلك اختارت مسار التنسيق الأوسع مع روسيا لضبط إيقاع التمدّد الشيعي في سورية، ويظهر اتفاق درعا أخيرا درجة تحكّم موسكو بقرارات النظام، حيث انصاعت الفرقة الرابعة الموالية لطهران لقرار الابتعاد عن منطقة الجنوب، بناء على طلب روسي.
حضرت فرنسا بدورها لملء الفراغ في المنطقة واستعادة دورها، خصوصا في لبنان والعراق، وعقدت شراكة مع إيران في كلا البلدين، وبرعاية أميركية؛ ففي العراق نجحت في توفير الأجواء السياسية لتوقيع الحكومة العراقية على صفقاتٍ ضخمة بقيمة 27 مليار دولار مع شركة توتال الفرنسية، واستطاعت في لبنان رعاية تشكيل حكومة يتحكّم بها حزب الله. ويعني ذلك كله أن على واشنطن توخّي الدقة والحذر في تعاملها مع الملفين اللذين يعزّزان نفوذ إيران في كلا البلدين، خصوصا أنها اتخذت سياسة تخفيف التشدّد في تطبيق العقوبات الاقتصادية بما يتعلق بالمشاريع الفرنسية المتوقفة مع شركة توتال الفرنسية، أو ما يتعلق بمشاريع الطاقة في سورية، والتي تريد روسيا الاستثمار فيها، كمشروع إعادة تأهيل شبكة الكهرباء على سد الفرات، وصولاً إلى حمص، وإصلاح الشبكة في درعا، والسماح بمشروع تمرير خطوط الطاقة عبر سورية إلى لبنان، أي خط الغاز المصري، عبر الأردن، وشبكة كهرباء الأردن.
لطالما استفادت واشنطن من دور مضبوط للمليشيات الإيرانية في إضعاف العراق وسورية ولبنان
علينا الاعتراف بأن واشنطن لطالما استفادت من دورٍ مضبوط للمليشيات الإيرانية في إضعاف العراق وسورية ولبنان، وقد تحقق ذلك، وهي ترغب بلا شك في تثبيت حالة وقف إطلاق النار في سورية، وفي عدم انفجار الوضع في لبنان والعراق وعودة الحروب؛ لكنها أيضاً لا تدفع نحو استقرار كلي للمنطقة، وتفضل إنهاك الدول المتدخلة بالصراعات الجانبية. ولذلك لا يضايقها دور إيران طالما أنه مضبوطٌ بمساعدة حلفاء لها. وفي هذا الصدد، هي لن تتخلّى عن شراكتها مع دول الخليج، ولا مع الأردن. لكن سياسة المهادنة الأميركية تجاه طهران ونفوذها في المنطقة لا تُعجب إسرائيل، حيث تشهد العلاقة بين البلدين تراخياً، وتضغط على واشنطن بخصوص شروط تطبيق الاتفاق النووي، وخصوصا ما يتعلق بالصواريخ البالستية الإيرانية؛ هذا دفعٌ أدّى إلى سعي إسرائيلي مكثف تجاه موسكو، للتنسيق بشـأن الوجود الإيراني في سورية، والسماح بعودة الضربات الإسرائيلية بشكل مكثف للمواقع الإيرانية في سورية.
لن تنسحب واشنطن من العراق بالشكل الفوضوي نفسه الذي اتخذته في أفغانستان، فالوضع في العراق مختلف، هي منطقةٌ متصلةٌ بما حولها، والسماح بعودة الفوضى مجدّداً يعني عودة “داعش” و”القاعدة”، وتعزيز نفوذ المليشيات الشيعية، وحروب متنقلة تؤدّي إلى تشظّي كل المنطقة. هذا يعني أن قرار الانسحاب من العراق يجب أن يكون بتنسيق أعلى، وإخراج مختلف، وفي الوقت نفسه، ألا يؤدّي إلى تقوية النفوذ الإيراني أكثر، وهذا ما يربك واشنطن في اتخاذ قرار الانسحاب من المنطقة.
رانيا مصطفى
العربي الجديد