ما زلت أذكر جيدا ذلك المشهد الذي تابعت تفاصيله يوم 11 سبتمبر/ أيلول من عام 2001 وكأنه جرى منذ لحظات قليلة. كانت الساعة تقترب من الرابعة من بعد ظهر ذلك اليوم، وكنت قد عدت للتو من مكتبي في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة في نهاية يوم عمل طويل وشاق. حيث رحت أهيئ نفسي لتناول طعام الغداء مع أسرتي، حين خطر لي فجأة أن أفتح جهاز التلفزيون لمتابعة آخر الأخبار. وهكذا وقعت عيناي على مشهدٍ لم يبرح خاطري قط منذ ذلك الحين، مشهد النيران المشتعلة في طوابق عليا لأحد برجي التجارة العالمية في نيويورك! وبينما كان المذيع يحاول شرح ما يجري هناك، موضحا كيف أمسكت النيران بهذه الطوابق بعد اصطدام إحدى طائرات نقل الركاب بها، إذا بطائرة ثانية تخترق الطوابق العليا للبرج الآخر، وتغوص فيه مخلفة وراءها كتلةً هائلة من النيران المصحوبة بدخان كثيف، وما هي إلا دقائق قليلة، حتى كان البرجان يتهاويان الواحد وراء الآخر أمام أعين الملايين من متابعي هذا الحدث المهيب على الهواء مباشرة، وكنت واحدا منهم.
للوهلة الأولى، بدا المشهد الذي يتراءى لنا عبر شاشات التلفاز غير قابل للتصديق، بل وأقرب ما يكون إلى أحد المشاهد المستخرجة من بطون أفلام الخيال العلمي التي امتازت بها السينما الأميركية. حينها تصوّر بعضهم أننا ربما نكون إزاء حادثٍ غريب، لكنه غير مقصود. وعندما تبين أن المشهد كله حقيقي، وأن طائرة ثالثة اصطدمت، في الوقت نفسه، بمبنى وزارة الدفاع الأميركية في واشنطن (البنتاغون)، وأن أخرى رابعة كانت تستهدف مبنى الكابيتول (الكونغرس) في واشنطن، لكنها ضلت طريقها وسقطت بعيدا عن الهدف المقصود، بدأتُ أدرك تدريجيا أننا إزاء حدثٍ فريدٍ من نوعه، وأن الدولة الأعظم في تاريخ البشرية ربما تكون قد تعرّضت لهجوم كاسح، يستهدف أهم رموز قوتها السياسية والعسكرية والاقتصادية. ومن ثمّ من المتوقع أن يكون له ما بعده، بصرف النظر عن الجهة المخطّطة أو المنفذّة. حينها فقط، أيقنت أننا إزاء منعطفٍ تاريخي بالغ الأهمية، وأن العالم بعد 11 سبتمبر/ أيلول عام 2001 سيكون مختلفا كثيرا عما كان عليه قبله.
الخطر الأكبر الذي ستواجهه الولايات المتحدة في المرحلة المقبلة سيأتي من الداخل الأميركي نفسه
اليوم وبعد عشرين عاما من وقوع ذلك الحدث المفصلي، جرى خلالها ما جرى، من حقنا أن نتساءل: ماذا لو كان هذا الحدث قد وقع في ظل إدارة مختلفة عن التي كانت تقود الولايات المتحدة في ذلك الوقت؟ وهل كان من قبيل المصادفة أن يقع بعد أقل من تسعة أشهر من وصول اليمين الأميركي المتطرّف، بقيادة جورج دبليو بوش الابن، إلى السلطة في الولايات المتحدة؟ ليس المقصود هنا إعادة التذكير بنظريات مؤامرةٍ انتشرت كالنار في الهشيم في ذلك الوقت، أو مناقشة مدى مصداقية بعض هذه النظريات أو عدم مصداقيتها، لكني أريد هنا إثارة إشكالية أخرى، تتعلق بدور العامل الأيديولوجي في القرار السياسي والاستراتيجي لدولةٍ ديمقراطيةٍ كبرى، يفترض أنها تدار من خلال مؤسّسات تحكمها حسابات عقلانية ومعايير رشادة، وتخضع للمساءلة، ومن ثم لا تتحكّم فيها أهواء حاكم فرد أو نخبة مسيطرة.
لو أن الإدارة القائمة على السلطة في الولايات المتحدة كانت قد تصرّفت بطريقةٍ أكثر عقلانية وانضباطا في ذلك الوقت، مكتفيةً بحصر المسؤولية في تنظيم القاعدة، المتهم بتدبير أحداث 11 سبتمبر وتنفيذها، ساعية إلى تعقّبه في مختلف الأماكن التي يوجد فيها على اتساع المعمورة، لتغير وجه التاريخ، ولبدا رد الفعل الأميركي مفهوما ومبرّرا. ولو أن هذه الإدارة كانت قد اكتفت حتى بشن الحرب على حركة طالبان، بحجّة رفضها تسليم زعيم تنظيم القاعدة الذي تستضيفه وتحميه، لبدا الأمر مبرّرا بشكل أو بآخر، على الرغم مما قد ينطوي عليه من تجاوزٍ لمعايير قانونية وأخلاقية مستقرّة، الأمر الذي يفسّر تعاطف معظم الدول مع قرار شن الحرب على أفغانستان، بدعوى ضرورة إسقاط “طالبان”، خصوصا من الدول الأعضاء في كل من الاتحاد الأوروبي وحلف شمال الأطلسي (الناتو). أما أن تقرّر إدارة بوش الابن شن الحرب على العراق في الوقت نفسه، فقد بدا عملا يفتقر ليس فقط إلى المشروعية والمعاييرالأخلاقية، ولكن أيضا إلى الحدود الدنيا من العقلانية، وهو ما يفسّر انقسام العالم الغربي على نفسه بشكل عميق، بسبب هذه الحرب تحديدا.
الحرب كانت الطريق الأقصر نحو استنزاف الولايات المتحدة، وزعزعة قدرتها على التربّع منفردة على عرش النظام العالمي
سقطت الولايات المتحدة في العراق مرتين، على الصعيدين السياسي والأخلاقي. المرة الأولى: حين ذهبت إلى حد الإقدام على عملية تزوير مكشوفة للأدلة والمستندات، لتثبت لمجلس الأمن أن نظام صدام حسين يمتلك أسلحة دمار شامل، وأنه على صلة بتنظيم القاعدة، وهو ما تبين زيفه تماما في ما بعد. المرة الثانية: حين ارتكبت انتهاكاتٍ جسيمة لحقوق الإنسان في أثناء احتلالها العراق، وهو ما كشفت عنه التسريبات عن وقائع التعذيب البشعة التي جرت تحت رعايتها في سجن أبو غريب، فعمليات التزوير التي تمت أفقدت الولايات المتحدة أهليتها لقيادة النظام الدولي. أما عمليات التعذيب فجرّدتها من كل ما تبقى لها من ادّعات بالتفوق الحضاري أو الإنساني. لذا تحوّل العراق بالفعل إلى مقبرة لدفن الهيبة الأميركية. هنا المفارقة الكبرى! فاليمين الأميركي المتطرّف بقيادة جورج دبليو بوش، والذي سيطر على البيت الأبيض اعتبارا من يناير/ كانون الثاني 2001، كان يروّج، حتى قبل وصوله إلى السلطة، مقولة أن إدارة كلينتون أهدرت، خلال فترتي ولايتها، بين عامي 1993 و2000 فرصة ثمينة لتمكين الولايات المتحدة من إحكام سيطرتها المنفردة على العالم، عقب سقوط الاتحاد السوفييتي وانهياره. ومن ثم عليه أن يتجنّب الوقوع في الخطأ نفسه. ومن ثمّ، بدا مصمما هذه المرّة على تحقيق هدفٍ كان يخطط له منذ فترة طويلة، وهو العمل على جعل القرن الواحد والعشرين قرنا أميركيا خالصا، حتى ولو اضطر لاستخدام القوة العسكرية وخوض الحرب على أكثر من جبهة في وقت واحد. لذا يمكن القول، من دون أي تجاوز في تقديري، إن أحداث سبتمبر، وبصرف النظر عن كل نظريات المؤامرة المرتبطة بها، لم تكن سوى ذريعة لوضع خطةٍ معدّة سلفا موضع التطبيق. هذا لا يعني بالضرورة إنكار مسؤولية تنظيم القاعدة عن أحداث 11 سبتمبر، لكنه يعني، ببساطة، أن الإدارة الأميركية بدت على أتم استعداد لاستخدام القوة العسكرية لبسط هيمنها على العالم، سواء وقعت أحداث سبتمبر أو لم تقع.
المنظمات الإرهابية التي قادت الولايات المتحدة حرباً كونية للقضاء عليها تتسع رقعة سيطرتها في العالم يوماً بعد يوم
يلفت النظر هنا أن النخبة السياسية الأميركية ظلت معصوبة العينين عشرين عاما كاملة، قبل أن تدرك أن قرار الاستدارة لشن الحرب على العراق، والذي جسّد استراتيجية اليمين الأميركي المتطرّف بشكل نموذجي، لم يكن الطريق الصحيح نحو إحكام الهيمنة الأميركية المنفردة على العالم، ولكنه كان الطريق الأقصر نحو استنزاف الولايات المتحدة، وزعزعة قدرتها على التربّع منفردة على عرش النظام العالمي، فخلال فترة السنوات العشرين التي كانت فيها الولايات المتحدة منشغلةً بحربٍ متزامنة على جبهتين، وتنفق عشرات الملايين من الدولارات كل يوم، وتتسبب في قتل مئات من البشر، كانت الصين منشغلة ببناء قدراتها الاقتصادية والتكنولوجية، وتنمو بمعدلات تتجاوز 10% سنويا في المتوسط، وتستعد لطرح مبادرة الحزام والطريق التي قرّرت أن تشقّ من خلالها الطريق نحو قيادة النظام الاقتصادي العالمي، وكانت روسيا منشغلة، في الوقت نفسه، باستعادة هيبتها ومكانتها في العالم، وتحقق الإنجاز والاختراق، الواحد تلو الآخر، خصوصا في جورجيا وأوكرانيا وسورية وغيرها. لذا لم يكن غريبا أن تضطر الولايات المتحدة، في النهاية، وبعد عشرين عاما من الحروب المتواصلة، للانسحاب مهزومة من أفغانستان، وها هي تهيئ نفسها للانسحاب قريبا من العراق، وربما من سورية أيضا. الأهم من ذلك كله أن حركة طالبان، المنظمة الإرهابية التي ذهبت الولايات المتحدة إلى أفغانستان لإسقاطها والقضاء عليها، هي التي تمسك الآن بزمام السلطة هناك، وأن المنظمات الإرهابية التي قادت الولايات المتحدة حربا كونية للقضاء عليها تتسع رقعة سيطرتها في العالم يوما بعد يوم.
تفيد تقارير ودراسات نشرت حديثا بأن الخطر الأكبر الذي ستواجهه الولايات المتحدة في المرحلة المقبلة سيأتي من الداخل الأميركي نفسه، وأن أحداث سبتمبر 2001 يمكن أن تتكرّر وبصور مختلفة، ولكن بأيد أميركية هذه المرة، بدليل ما حدث في 6 يناير/ كانون الثاني 2021، حين اقتحم اليمين الأميركي المتطرّف مبنى الكونغرس لإجبار المشرعين الأميركيين على تغيير نتائج انتخابات رئاسية لم تعجبهم!
حسن نافعة
العربي الجديد