وجدت الولايات المتحدة نفسها مؤخرا في أزمة دبلوماسية غير مسبوقة مع فرنسا بسبب صفقة ثلاثية مع بريطانيا لتزويد أستراليا بغواصات تعمل بالطاقة النووية كانت سببا في إلغاء عقد قيمته 40 مليار دولار لبناء غواصات فرنسية.
وأثارت الصفقة غضب فرنسا التي قالت إن الاتفاق الجديد تم الإعداد له من وراء ظهرها واستخدمت عبارات لم تستخدم من قبل في بيانات علنية بين الحليفين ووصفته بأنه “غاشم” و”طعنة في الظهر”.
واتخذت باريس الجمعة خطوة غير معتادة باستدعاء سفيريها لدى واشنطن وأستراليا واتهمت إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن بالتصرف مثل ترامب بإزاحة فرنسا.
وهي المرة الأولى التي تقوم فيها فرنسا بذلك مع الولايات المتحدة، وفقا لما ذكره وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لو دريان، الذي أكد أن الرد الفرنسي “لم ينته”.
ديفيد بيل: ماكرون يحاول إحياء التقليد الديغولي للسياسة الخارجية
وجاءت هذه الأزمة بعد أقل من ثلاثة أشهر من جولة ناجحة لوزير الخارجية أنتوني بلينكن لأوروبا لإصلاح العلاقات، حيث احتفت العواصم الأوروبية بالنكات التي أطلقها مبعوث بايدن بالفرنسية في باريس وسماحه لشبان فرنسيين بالتقاط صور ذاتية معه وإسهابه في الحديث عن بث روح جديدة في العلاقات بين أوروبا والولايات المتحدة.
ورأى محللون أن التحركات الأميركية تعدّ بمثابة نسمة هواء جديدة بعد سنوات ركزت فيها إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب على سياسة “أميركا أولا” وتنقلت فيها العلاقات الأميركية مع أوروبا من أزمة إلى أخرى وسط قرارات كانت تصدم الدول الأوروبية في كثير من الأحيان.
ويقول المحللون إن الأزمة المستجدّة أكثر من مجرد خلاف تجاري وإنها مسألة ثقة ورغم أمل المسؤولين الأميركيين أن تنتهي سريعا فهي تنطوي على احتمال إلحاق ضرر دائم بالتحالف مع فرنسا وأوروبا وتثير الشكوك في الجبهة الموحدة التي تحاول واشنطن تشكيلها في مواجهة قوة الصين المتنامية.
وقال دبلوماسيون فرنسيون إنهم لم يعلموا بالاتفاق إلا عندما تسربت أنباء عنه في وسائل الإعلام الأسترالية قبل ساعات من الإعلان الرسمي الأربعاء، وذلك رغم أن رئيس وزراء أستراليا سكوت موريسون أصر أنه أوضح للرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في يونيو أنه قد يلغي الاتفاق مع فرنسا.
وأيا كان الحال من المنظور الفرنسي فإن الخطوة الأميركية تتعارض مع ما تعهدت به إدارة بايدن منذ نهاية عهد ترامب من عودة إلى السياسات متعددة الأطراف والتعاون الوثيق مع الشركاء والحلفاء على أن تكون أوروبا عنصرا مهما في هذا الصدد.
وقال بنيامين حداد مدير مركز أوروبا في المجلس الأطلسي “هذا يجعل الأوروبيين يدركون أن سياسات ترامب، بخلاف الفضائح والتغريدات، لم تكن شذوذا بل مؤشرا لتحول أعمق بالابتعاد عن أوروبا”.
صفقة تثير الشكوك
صفقة تثير الشكوك
ويرى آخرون سوء تصرف في رسم السياسات من جانب إدارة بايدن في أعقاب النهاية الفوضوية للتدخل الأميركي الذي استمر عقدين في أفغانستان والذي شكت دول أوروبية من عدم التشاور معها فيه على نحو ملائم.
وسعت واشنطن إلى احتواء الأزمة، إذ حاول بلينكن تهدئة الغضب الفرنسي فوصف فرنسا بأنها حليف قديم له أهميته في منطقة المحيطين الهندي والهادي وما وراءهما وسارع البيت الأبيض ووزارة الخارجية إلى إصدار بيانات استرضائية بعد أن استدعت باريس سفيريها.
وقالت وزارة الخارجية إن واشنطن تأمل في مواصلة المباحثات حول المسألة على مستوى رفيع في الأيام المقبلة بل وخلال اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة في الأسبوع المقبل.
وقال ديفيد بيل أستاذ التاريخ بجامعة برينستون إن السوابق تشير إلى أن الأزمة ستمر بسلام في نهاية المطاف، مذكرا بخلافات سابقة لفرنسا مع واشنطن خلال انسحابها من قيادة حلف شمال الأطلسي في الستينات ورفضها في 2003 الانضمام للغزو الأميركي للعراق.
وقال إنه لم يتم تعليق العلاقات الدبلوماسية وإن السفيرين سيعودان في نهاية الأمر، مشيرا إلى أن تصرف ماكرون يجيء قبل سباق انتخابي ربما يكون صعبا في العام المقبل.
الأزمة قد تلحق ضررا دائما بالتحالف مع فرنسا وأوروبا وتثير الشكوك في الجبهة الموحدة التي تحاول واشنطن تشكيلها في مواجهة قوة الصين المتنامية
واعتبر بيل أن “ماكرون يحاول إحياء التقليد الديغولي الخاص باستقلال فرنسا” في السياسة الخارجية.
ورغم أن الحليفين العضوين في حلف شمال الأطلسي ربما يجدان سبلا للخروج مما يرى البعض أنها أسوأ أزمة دبلوماسية في تاريخهما، فإن خبراء يحذرون من ضرر خطير قد يلحق باستراتيجية بايدن الأوسع في ما يتعلق بالصين.
ومن المنتظر أن تقوي صفقة الغواصات الثلاثية موقف الولايات المتحدة وحلفائها في مواجهة القوة الصينية المتنامية، غير أن الضرر الناجم عن استبعاد فرنسا قد يفوق ذلك الأثر.
وبعد يوم من إعلان صفقة الغواصات، كشف الاتحاد الأوروبي عن استراتيجيته الرسمية لتعزيز وجوده في منطقة المحيطين الهندي والهادي والتصدي للصين. إلا أن هايسبور قال إن ثمة خطرا متزايدا في ضوء الموقف الفرنسي ألا يتمخض هذا الجهد عن شيء يذكر أو أن تتفكك الاستراتيجية الأوروبية – الأميركية تجاه الصين بشكل أكبر.وقال فرنسوا هايسبور المستشار الأول في الشؤون الأوروبية بالمعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية “لا بد أن الصين تضحك ملء شدقيها. فأمامها احتمال التخلص من وجود أوروبي محتمل إلى جانب الولايات المتحدة في منطقة المحيطين الهندي والهادي”.
وقال جوزيب بوريل مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي عن “الاستقلال الاستراتيجي” الذي تنادي به فرنسا وماكرون “علينا أن نعتمد على أنفسنا في بقائنا مثلما يفعل الآخرون”.
ورغم ذلك، يعتقد محللون آخرون أن الحاجة الملحة للتصدي للصين ستساهم في دفع الدول الغربية لتسوية خلافاتها، إذ أكد جريج بولنج من مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية في واشنطن “أنا على ثقة أن أمامنا بضعة أشهر صعبة لكن باريس ستتجاوز الأزمة لأن مصالحها الاستراتيجية تملي ذلك”.
صحيفة العرب