بمناسبة انعقاد الدورة السادسة والسبعين للجمعية العامة، تثار عادة أسئلة عن أهمية الجمعية العامة وتحولها إلى منبر للخطابة للكثير من رؤساء الدول والحكومات، الذين في غالب الأحيان يوجهون كلماتهم إلى شعوبهم أكثر مما يوجهونها للمجتمع الدولي. ومع أن التظلم من قصور الأمم المتحدة أمر صحيح ومقبول، بل ضروري خاصة في مجال صيانة السلم والأمن الدوليين، إلا أن الصورة ليست بهذه البساطة. فهناك إنجازات كبرى لا يمكن تجاهلها، خاصة في ميادين التنمية والصحة، ومحاربة الفقر والعناية باللاجئين، وحماية البيئة ونزع السلاح، وتعميم ثقافة حقوق الإنسان بما في ذلك حقوق المرأة والطفل والسكان الأصليين وذوي الاحتياجات الخاصة، وغير ذلك الكثير.
فالأمم المتحدة، حسب ميثاقها، أقيمت على ثلاثة أعمدة رئيسية: الأمن والسلم، التنمية، وحقوق الإنسان. وما حققته الأمم المتحدة في هذه الميادين الثلاثة ليس متساويا، ولا نستطيع أن نقيـّم المنظمة الدولية بطريقة شاملة في الميادين الثلاثة مرة واحدة، بل يجب فصل الميادين الثلاثة وإعطاء كل ميدان علامة منفصلة عن الآخر. فالعلامة تنخفض في ميدان السلم والأمن، وترتفع قليلا في ميدان حقوق الإنسان وترتفع أكثر في ميادين التنمية المتعددة.
عندما أنشئت الأمم المتحدة عام 1945 كان الهاجس الأكبر لدول العالم المجتمعة في سان فرانسيسكو موضوع الحرب والسلم، بعد أن خرج العالم من حرب عالمية قتلت أكثر من 60 مليون إنسان، وسببت من المآسي والتشرد واللجوء والتطهير العرقي والإبادة البشرية ما يعجز وصفه في عجالة. كان الهم الأساسي إيجاد نظام لحفظ الأمن والسلم في العالم، حتى يغلق باب الحروب الكونية، خاصة أن الأسلحة النووية كانت قد دخلت حيز الاستخدام. لم يتوقع المجتمعون أن العالم سيغلق باب الصراعات العابرة للحدود مرة واحدة، ويستبدلها بالحوار والمفاوضات والتعاون، بل كان الأمل ألا تعود الحروب الكونية الشاملة بعد تجربة الحربين العالميتين. لقد تضمن الميثاق فصلين كاملين للتعامل مع مسألة النزاعات، الفصل السادس والمخصص لحل النزاعات بالطرق السلمية، والفصل السابع لفرض الحل على الأطراف المتنازعة ومعاقبة المعتدي. صحيح أن الأمم المتحدة لم تستطع إطفاء جميع الحرائق المنتشرة في العالم، لكنها نجحت في منع نشوب حرب عالمية ثالثة، واستطاعت أن تحد من سباق التسلح وأنجزت العديد من الوساطات السلمية، وساهمت بشكل أساسي في تصفية الاستعمار وحصول العديد من الدول على استقلالها. أنهت الحروب في كمبوديا وناميبيا والكونغو وليبيريا وسيراليون وتيمور الشرقية وهايتي والبوسنة وكوسوفو، وأنهت نظام الفصل العنصري في جنوب افريقيا وزيمبابوي، وشرعنت حرب تحرير الكويت وغيرها، لكنها في المقابل عجزت عن حل مشاكل عديدة مثل فلسطين وكشمير وقبرص والصومال والصحراء الغربية والقرم وسوريا وليبيا واليمن. وبعيدا عن ميدان الحروب أنجزت الأمم المتحدة الكثير عبر وكالاتها المتخصصة في ميادين الصحة والأغذية واللجوء وحقوق الإنسان، ونود أن نذكر بعض الأمثلة فمن الصعب حصرها:
– استطاعت الأمم المتحدة عبر جهود مكثفة لمدة عشر سنوات أن تطعم 500 مليون طفل، ما أدى إلى القضاء بشكل شبه تام على مرض الحصبة مع حلول عام 1986. وفي عام 2020 يوجد نحو 85% من أطفال العالم محصنون ضد الأمراض التي كانت تفتك بالملايين.
– في عام 1990 كان هناك نحو ملياري إنسان يعيشون في فقر مدقع، وفي عام 2018 انخفض العدد إلى نحو 250 مليون فقط.
– لم يكن أحد يسمع بثقب الأوزون، إلى أن أطلقت الأمم المتحدة حملة عالمية لوقف توسع الثقب عام 1986 في ما سمي «بروتوكول مونتريال» وتمكنت من وقفه تماما بحلول عام 2019.
عالمنا حاليا يتجه نحو الفوضوية وانعدام الأمن ويسير في الاتجاه الخاطئ وعلينا أن نأخذ قرارات مصيرية
– في عام 1990 لم تزد نسبة النساء في البرلمانات في العالم على 13% بينما ارتفعت النسبة إلى نحو 25% بحلول عام 2020. 90% من الدول الأعضاء في العالم انضم أو صدق على الاتفاقية الدولية لمناهضة أشكال التمييز كافة ضد المرأة (سيداو).
– في عام 2020 قدمت الأمم المتحدة مساعدات إنسانية لـ98 مليون إنسان في 25 دولة.
– لقد صوّب «الإعلان العالمي لحقوق الإنسان» المعتمد عام 1948 كثيرا من المفاهيم وصحح كثيرا من المظالم. وتبع ذلك الإعلان سلة واسعة من اتفاقيات حقوق الإنسان تشمل الحقوق السياسية والمدنية، وكذلك الحقوق الاجتماعية والثقافية والاقتصادية. كما توصل المجتمع الدولي إلى اتفاقيات تتعلق بحقوق الطفل وحقوق السكان الأصليين، وحقوق الأشخاص من ذوي الاحتياجات الخاصة، وحقوق العمال المهاجرين وعائلاتهم، إضافة إلى حقوق المرأة وتحريم التمييز ضدها. 80% من الدول الأعضاء انضمت أو صدقت على 4 اتفاقيات متعلقة بحقوق الإنسان، وكل دول العالم منضمة على الأقل لاتفاقية واحدة.
هذا غيض من فيض إنجازات الأمم المتحدة.
لقد استوقفتني فكرة تكررت في كلمات الوفود، الذين خاطبوا الجمعية العامة في دورتها الحالية وهي أن جائحة كورونا أثبتت أن عالمنا هش، من السهل اختراقه ولا فرق بين بلد غني أو فقير، قوي أو ضعيف. لقد استطاع هذا الوباء أن يشل العالم ويقعد مئات الملايين من الناس في بيوتهم، ويدمر اقتصاديات الدول ويوقف حركة الطيران ويقتل السياحة، ويغلق المدارس والجامعات ويصيب أكثر من 227 مليون إنسان ويقتل نحو خمسة ملايين في سنة ونصف السنة. وقد أحسن الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيوغوتيريش في إعداد تقريره مهم «Our Common Agenda أو برنامج عملنا المشترك، حول التحديات التي يواجهها عالم اليوم والمستقبل. لقد استغرق إعداده بمساعدة الخبراء والأكاديميين ورجال الفكر، وأطلقه قبل انعقاد الدورة الحالية للجمعية العالم، لينبه العالم إلى الأخطار الكونية التي تحدق بنا، مؤكدا «أننا على شفا الهاوية». ويحدد غوتيريش مجموعة أخطار أو تحديات رئيسية تواجه العالم وكيفية مواجهتها.
أولا- السيطرة على جائحة كورونا أولا، ثم الإعداد للسيطرة على أوبئة أخرى قد تنفجر في أية لحظة. فهناك 827000 فيروس منتشرة في الحيوانات والطيور قد تنتقل إلى الإنسان. والسيطرة على جائحة كورونا الذي ما زال يقتل 10000 شخص يوميا، تتطلب سرعة وعدالة وشمولية في توزيع اللقاحات. «لا أحد في مأمن إلا إذا كان جميع الناس في مأمن».
ثانيا- التحدي الذي يمثله التغير المناخي والناتج عن الاحتباس الحراري الناتج عن التلوث، بسبب انبعاثات أكسيد الكربون. والتحدي الذي تواجهه البشرية جمعاء هو الوصول إلى مستوى صفر انبعاثات بحلول 2050 وأن يتم تجميد ارتفاع حرارة الأرض بحدود 1.5 درجة مئوية. ولو ارتفعت إلى 2 درجة مئوية لحدثت كوارث لا قدرة للبشر على تحملها، خاصة ذوبان المجلدات الثلجية في القطبين الشمالي والجنوبي. وقد أضاف الأمين العام إلى هذا البند، مسألة الخطر الذي تسببه الأسلحة النووية، التي قد تطيح بملايين البشر في لحظات حتى ولو وقع ذلك بالخطأ.
ثالثا- النزاعات المسلحة هناك عدد من الحروب ما زالت قائمة في عالم اليوم. وهذه النزاعات تشكل تحديا للمجتمع الدولي، وجهود نشر ثقافة السلام والحوار وحل الخلافات بالطرق السلمية. فعدد ضحايا الحروب، خاصة من الأطفال في تصاعد مستمر منذ أكثر من عشر سنوات. فهناك بؤر توتر واحتكاك ومصادمات أو أزمات عميقة منتشرة في العالم مثل، فلسطين واليمن وليبيا وسوريا والعراق وميانمار والصومال وجنوب السودان وجمهورية افريقيا الوسطى ومالي والكونغو وقبرص وغيرها. وما دامت هذه التوترات مستمرة فالأمن والسلام الشاملان بعيدا المنال.
رابعا- يشهد عالم اليوم مزيدا من حالات اللامساواة والتمييز والظلم. وهذه الظواهر تدفع الناس للخروج إلى الشوارع، كما شاهدنا في الولايات المتحدة الأمريكية وغيرها. فالعدل والمساواة والمواطنة المتساوية وسيادة القانون هي التي تحمي المجتمعات من التصدع والشقاق والاحتراب.
خامسا- ظواهر الفقر والجوع وعدم المساواة بين الجنسين، عادت تنتشر وتتسع بعد أن مرت عقود وهي في حالة تراجع. لقد فاقمت جائحة كورونا هذه المظاهر فقد أضيف نحو 200 مليون إنسان لصفوف الأشد فقرا في العالم. كما انتشرت بشكل غير مسبوق ظاهرة العنف الأسري وعدم متابعة الدراسة.
سادسا – الهوة الرقمية بين الدول الغنية والفقيرة ودخول الذكاء الاصطناعي حيز الميدان، وهذا ينذر بنوع من الصراعات غير التقليدية، قد تكون أخطارها أكبر من الحروب التقليدية.
إن عالمنا حاليا يتجه نحو الفوضوية وانعدام الأمن. العالم يسير في الاتجاه الخاطئ وعلينا أن نأخذ قرارات مصيرية. وما نأخذه من قرارات اليوم يمكن أن يضعنا على طريق الانتصار أو طريق الانهيار. لقد ذكّرنا فيروس كورونا بضرورة العمل الجماعي والتكاتف والتضامن والتعاون، كأننا ركاب في سفينة واحدة أصابها عطب في عرض بحر مائج، وبعض ركابها غير سعداء ومنهم من يصرخ ويهدد فإما أن نصلحها ونرضي جميع ركابها كي ننجو جميعا، وإلا فسنهلك جميعا، لا فرق بين نزيل الدرجة الأولى أو القبو.
عبدالحميد صيام
القدس العربي