هل من تشابه بين حالتي غزة بعد عام 2005 وأفغانستان بعد عام 2021؟ الجواب نعم وتشابه الحالتين جليّ للعين الثاقبة والبصيرة الشاملة في ميدان المواجهة والنضال والشجاعة والضحايا من المدنيين، وطرد الغزاة، وتمريغ أنوفهم في وحل الهزيمة، ثم خروج المحتل من الداخل بعد العجز عن تطويع الإرادة ليفرض حصارا من الخارج ثأرا لكرامة هدرت، إن كان أصلا هناك شيء من كرامة بعد الانكسار.
مساحة أفغانستان تعادل 1800 ضعف من مساحة غزة وسكانها يعادلون 18 ضعفا. لكن أهل غزة يصحون ويغفون على رائحة البحر، وبعد صلاة الجمعة يغسلون أقدامهم على الشواطئ، بينما قصت خريطة أفغانستان من محيطها، لتقطع عنها كل شواطئ البحور، فلا يعرف سكانها البحر ولا المأكولات البحرية إلا من خلال الأفلام وروايات المهاجرين. زينت تضاريس أفغانستان بجبال شاهقة على مدى البصر، تضع عمامة بيضاء على رؤوسها ورمالا جافة تحت أقدامها، وتتجه إلى الشمال الشرقي، فتتشابك مع سلسلة الهملايا الشاهقة. صقل رجالها على الشدة والتحمل وسهولة الغارة والاختباء خلف الصخور، وفي الكهوف العميقة، ما سهل صيد الأعداء والغزلان.
أما غزة الفلسطينية فاختلطت سهولها برمالها بشواطئها، فمنحت لأهلها العزة والجمال والإبداع والكرم، فكانت ممرا لقوافل التجار وجحافل الغزاة، وبؤرة جذب للعلماء من كل حدب وصوب، ورغم تتابع المحن والمصائب والغزاة، ظلت بلد الصمود والضيافة، والعلم والتجارة، وزراعة الورد والإبداع، واستحقت عن جدارة اسم «غزة العزة».
غزة: استبدال الاحتلال الداخلي بالحصار من الخارج
صديق إرييل شارون، دان شوفتمان مدير مركز دراسات الأمن الوطني في جامعة حيفا، نصحه عام 2001، بعد فوزه بالانتخابات بالانسحاب من غزة فورا، وتطويقها من الخارج. هزأ منه وقال «إن أمن مستوطنة كفار داروم (غزة) مثل أمن تل أبيب». أربع سنوات من الحرب لم يستطع أن يخضع غزة. يطلق المدافع والقذائف والصواريخ وحمم الطائرات، فتنهمر على الجانب الآخر المقذوفات لتهزم نظرية الأمن والقبة الحديدية والجيش الذي لا يقهر. كتائب الجيش ترافق المستوطنين في ذهابهم وإيابهم وتصيّدهم لم يكن صعبا. لعق شارون كرامته وقرر الانسحاب وفكك المستوطنات الثلاثة عشرة، وانسحب ذليلا مكسورا. ضرب حصارا شاملا من البر والبحر والجو على غزة. أيقن أن هذه الخطوة هي التي ستجعل غزة تركع أمامه وترفع الراية البيضاء. دعا صديقه دان للعشاء وقال له «يا ليتني سمعت نصيحتك بالانسحاب عام 2001 لوفرت عليّ وعلى دولتنا الكثير». فقال له أن تسمع متأخرا خير من ألا تسمع أبدا.. «شدد حصارك على القطاع». بعد الحصار الشامل ظلت الصواريخ، على بدائيتها، تنهمر. إذن ما العمل؟ جمع شارون جنرالاته الكبار وخاطبهم قائلا: «اعطوني خطة محكمة للتخلص مرة وإلى الأبد من صواريخ غزة». رجعوا إليه بعد وقت وقالوا له: لا نستطيع منع صواريخ غزة من الانهمار على الحزام». سمع شارون هذا الكلام فانهار وتبين أنه أصيب بسكتة دماغية لم يفق منها حتى فارق الحياة عام 2014.
انقلب الإخوة والجيران على غزة، وأصبح حصارها شاملا من الأعداء وذوي القربى وكرزايات العرب، الظاهر منهم والمخفي، الذين أوكلت إليهم مهمة تركيع غزة. لكنها بعد أربع حروب وآلاف الشهداء وعشرات الآلاف من الجرحى، ما زالت صامدة تقاوم وتتفاوض على إطلاق سراح الأسرى. أوصلت غزة رسائلها مؤخرا إلى تل أبيب فنزل مئات الألوف إلى الملاجئ، وانطلق الشعب الفلسطيني في كل أرجاء الوطن يهتف للقدس وغزة والمقاومة.
تتشابه غزة وأفغانستان في ميدان المواجهة والنضال والشجاعة والضحايا من المدنيين، وطرد الغزاة، وتمريغ أنوفهم في وحل الهزيمة
أفغانستان: استبدال الاحتلال الداخلي بالحصار من الخارج
بعيدة أفغانستان عن غزة، لكنها تحس بوجعها لأن المكلوم يتعاطف مع أنداده. خرج الناس رغم جوعهم وحصارهم يتظاهرون لنصرة غزة في أيار/مايو الماضي. لا أحد يعرف معنى الاحتلال وطغيان الغرباء إلا من خاض التجربة. «يحتلون بلادنا وينهبون خيراتها، ويدعون أنهم جاؤوا لتحضيرنا وتعليمنا كيف نمسك بالشوكة والسكين، وكيف نرطن لغتهم، وكيف يجب أن تلبس الفتاة وهي في طريقها للمدرسة.
لا أحد يوحد الأفغان إلا كره الأجنبي الذي جاء محتلا. يختلف الأفغان في الأعراق والمذاهب وألوان البشرة واللغات واللكنات، لكنهم لا يختلفون على الاصطفاف معا سدا منيعا في وجه الغزاة. استغرق طرد الإنكليز ثلاث سنوات، وطرد السوفييت عشر سنوات وطرد الأمريكيين عشرين سنة، لاعتبارات تتعلق بأنواع الأسلحة والتطورات التكنولوجية، لكن النتيجة واحدة. الغريب أنهم لا يتعلمون من بعضهم. الإنكليز عينوا «شاه جوها» عام 1841 كرزاي ذلك الزمان. لكن الأفغان حاصروه فهرب، وعينت بريطانيا مكانه حاكما يدعى الكسندر بيرن فحاصرته الجماهير وقتلته وفرّ الجيش الإنكليزي، لكن الأفغان نصبوا له فخا فأبادوه عن بكرة أبيه. السوفييت عينوا ممثلا عنهم، بابراك كرمال، ثم طردوه وعينوا مكانه نجيب الله عام 1987 لعله ينقذهم من ورطتهم، إلا أنه فرّ بعد انسحاب السوفييت، واختبأ في مقر الأمم المتحدة ولاحقته الجماهير وعلقته على أعواد المشانق عام 1996. وها هو أشرف غني يهرب في جنح الليل هو وعائلته وأمواله المنهوبة، ويلجأ إلى عاصمة غسيل الأموال. إنها الهزيمة ولا اسم ثان لها. منظر السفارة في سايغون عام 1975 يتكرر في مطار كابل في آخر عشرة أيام من شهر آب/أغسطس 2021. المنظر الرهيب يذكرني بالآيات الكريمات «يوم يفر المرء من أخيه* وأمه وأبيه* وصاحبته وبنيه* لكل إمرئ منهم يومئذ شأن يغنيه». ثم يأتي دور الحصار. فما عجزت عنه الولايات المتحدة وحلفاؤها من تحقيقه خلال عشرين سنة يعملون على تحقيقه الآن بالحصار والمقاطعة وإثارة القلاقل، وتجميد الأصول، ومنع الأنظمة المالية الدولية أن تصرف أموال المساعدات التي جمعت لمساعدة الشعب الأفغاني أصلا قبل الانهيار الأمريكي.
والآن وبعد أكثر من شهرين على الهروب الأمريكي الكبير، البعض يسميه انسحابا، يبدو مستقبل أفغانستان قاتماً مثل مستقبل غزة وفلسطين. فالبلاد تواجه ضغوطًا اقتصادية شديدة، وأزمة إنسانية تحذر الأمم المتحدة من أنها قد تصبح قريباً الأسوأ في العالم وتهديداً لا هوادة فيه للإرهاب بعد أن وجد من له مصلحة في تذكية النزاعات والخلافات الداخلية. فلا حكومة طالبان مؤهلة للوقوف وحدها في وجه هذه المصائب، ولا هي قادرة على مواجهة التحديات المعقدة، وتأمين الاحتياجات الأساسية، ولا تمتد يد العون لمساعدة البلاد على تخطي المرحلة. وكما يصل غزة بعض المنح لإبقائهم على قيد الحياة، بعد أن وصل معدل الفقر إلى 80% من السكان توجد بعض دول الخير تمد شيئا من المساعدات عبر الوكالات الدولية للشعب الأفغاني، كي يبقى على قيد الحياة، بعد أن وصل معدل الفقر إلى 80% مثل إخوانهم في غزة. نعتقد أن الحصار في الحالتين سيفشل. فقد مضى على حصار غزة المزدوج نحو 14 عاما خاضت أربع حروب ولم ترفع الراية البيضاء، بل زادت قوة وعزيمة وتسليحا وعبأت الشعب الفلسطيني بكامله معها. وقد تعود الناس على الحصار ومع هذا يبدعون في اجتراح أنواع جديدة من المقاومة، كمسيرات العودة والطائرات الورقية الحارقة، والمسيّرات البدائية. المهم أن العدو يدفع ثمنا لهذا الحصار. الاحتلال أو الحصار إن لم يكن مكلفا فكيف سينتهي؟ وهل هزم احتلال أو حصار بالأناشيد والمسيرات الصامتة ومقالات الرأي؟ وستنتصر أفغانستان هي الأخرى لأن العالم سيدفع الثمن إن لم يفك هذا الحصار. أتذكرون سنوات الحصار الأولى (1996-2001) حيث بقي المجتمع الدولي يعترف بتحالف الشمال بقياة مسعود خان، رغم أنه لم يكن يحكم إلا 5% من أفغانستان؟ يومها اضطر الملا عمر أن يمد يده إلى أسامة بن لادن وأيمن الظواهري وتنظيم «القاعدة» وكم كان الثمن باهظا على الأمريكيين أولا والأوروبيين ثانيا وعملائهما في المنطقة. فهل ستكرر الولايات المتحدة خطيئة الأمس؟ فما أسهل أن تتحول أفغانستان إلى بركان من السهل أن ينفجر فتصيب شظاياه تلك الدول التي تساهم الآن في إطباق حالة الحصار على هذا الشعب العنيد.
عبدالحميد صيام
القدس العربي