الدبلوماسية الهادئة التي تعتمدها واعتمدتها طهران في الأسابيع الماضية على المستوى الإقليمي، هل تحمل مؤشرات على حصول تغيير في تعاملها مع مفردات انخراطها في أزمات منطقة غرب آسيا وملفاتها، أم أنها مستوى جديد من استراتيجتها في هذه المنطقة، لعلها تساعد في خروجها من الانسداد الذي وصلت إليه بعد تصاعد التوتر بينها وبين العديد من دول المنطقة، وكاد في بعض الأحيان يطيح بالاستثمارات التي وظفتها في بعض الملفات؟
ثمة مؤشرات تحمل على الاعتقاد بأن منهجية مختلفة بدأت تتبلور في السلوك السياسي الإيراني في هذه المرحلة، قد تكون محكومة بالحاجة الإيرانية قبل الوصول إلى الموعد المقرر لاستئناف مفاوضات فيينا مع مجموعة “4+1” وواشنطن بشكل غير مباشر لإحياء الاتفاق النووي.
لعل الحدث الأخير والأبرز في هذا السياق، هو زيارة وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو إلى طهران واللقاءات التي عقدها مع نظيره الإيراني حسين أمير عبد اللهيان ورئيس الجمهورية إبراهيم رئيسي. وهي زيارة تأتي تمهيداً لزيارة من المفترض أن يقوم بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى طهران قبل نهاية العام الحالي، وبعد مجموعة من الخطوات التركية التصعيدية في المحيط الإيراني بدأت مع الحرب الأذربيجانية – الأرمينية مروراً بأفغانستان وصولاً عند الأزمة المزمنة في سوريا. وهي خطوات ساهمت في إرباك المشهد أمام النظام الإيراني ورفعت مخاوفه من إمكانية أن يدخل في دائرة أزمات إقليمية جديدة قد تطيح بكل الخطوات التكتيكية التي استثمرها لبلورة الصورة النهائية لاستراتيجيته في منطقة غرب آسيا عموماً والشرق الأوسط خصوصاً.
فالسياسات المتناقضة التي اعتمدها أردوغان، من وجهة نظر إيرانية، وضعت تركيا في مواجهة أزمات متشعبة، نتيجة سياسة القبضة الحديدية التي لجأ إليها في التعامل مع أزمات هذا المحيط من أجل تعزيز موقع بلاده على خريطة السياسات الدولية والإقليمية، بغض النظر عن تأثيراتها السلبية في العلاقات التركية مع بعض دول المنطقة، خصوصاً الجار الإيراني، إذ أُدخلت هذه العلاقة في دائرة التوتر والتأزيم.
الإشارة التي لجأ إليها الوزير التركي أمام نظيره الإيراني بالاستشهاد بأبيات شعرية لأحد شعراء إيران (سهراب سبهري – خانه دوست كجا) تتحدث عن بيت الصديق، اعتبرتها طهران محاولة اعتذار غير مباشر عما قام به الرئيس التركي باستخدامه بيتاً من الشعر استعاده خلال عرض عسكري شارك فيه خلال زيارته العاصمة الأذربيجانية، باكو، بعد انتهاء الحرب مع أرمينيا، وخاطب فيه أبناء القومية الآذارية في إيران وبما يحمله من دعوة إلى الانفصال.
على الرغم من تزامن الزيارة مع تصعيد تركي على جبهة الحرب المائية بعد الإعلان عن بناء سد جديد على نهر دجلة وتأثيراته على المصادر المائية للعراق وإيران، تغاضت طهران عن الاستفزازات التركية التي تتوسع دائرتها لتصل إلى محاولة أنقرة بناء تحالف ثلاثي في منطقة القوقاز الجنوبي، مع أذربيجان وباكستان، وما يتركه التقارب التركي – الباكستاني على الأزمة الأفغانية التي ما زالت طهران تتلمس المخارج للتعامل مع المستجد السياسي على حدودها الشرقية بعد سيطرة حركة “طالبان” على السلطة في هذا البلد بعد الانسحاب الأميركي.
وإذا ما كانت أنقرة، وأمام تفاقم أزماتها، خصوصاً مع الانهيار الكبير لعملتها الوطنية أمام الدولار، والآثار السلبية على الاقتصاد، تسعى لاستغلال ما تحمله المرحلة المقبلة من إمكانية لحصول انفراجة في العلاقات الإيرانية – الغربية، مع أوروبا والولايات المتحدة، من بوابة ما تلمسه من جدية النيات المتبادلة بين طهران ومجموعة “5+1” بالعودة إلى إحياء الاتفاق النووي وانهاء العقوبات الاقتصادية، ما يعني ارتفاع امكانية الاستفادة من التعاون مع طهران ورفع مستوى التبادل التجاري والاقتصادي لأكثر من 20 مليار دولار سنوياً. وطهران في المقابل، تعتقد ألا إمكانية لخفض التوتر في كثير من ملفات منطقة غرب آسيا من دون التعاون مع تركيا، خصوصاً أن أنقرة استطاعت توسيع نفوذها في المحيط الإيراني، شمالاً على الحدود مع أذربيجان والقوقاز الجنوبي، وشرقاً عبر الدور في الأزمة الأفغانية، وجنوباً وغرباً من خلال ما تملكه من تأثير مباشر على جزء من القوى السياسية العراقية خصوصاً داخل المكون السني، فضلاً عن محاولة ترميم علاقاتها مع الدول الخليجية، وصولاً إلى سوريا الساحة الأكثر حساسية بالنسبة إلى طهران التي باتت تشكل التحدي الأكبر لعمق نفوذها في الشرق الأوسط.
وإذا ما استطاع النظام الإيراني استيعاب الحراك التركي في محطيه الحيوي، بإعادة ترميم العلاقات مع أذربيجان، وفتح حوار مباشر مع “طالبان” يقوده المبعوث الخاص حسن كاظمي قمي (السفير الأسبق في العراق وأحد قادة قوة القدس)، والترحيب بنتائج الانتخابات العراقية وما حملته من تغيير في أحجام القوى السياسية على حساب الجماعات الموالية لها، وهي ملفات لا يمكن العبور فيها عن الدور التركي بمستويات مختلفة، إلا أن الساحة السورية تشكل التحدي الأكبر لكل من طهران وأنقرة، خصوصاً أن الطرفين يبنيان استراتيجيتهما في هذا البلد على أساس اقتراب موعد الانسحاب الأميركي، ما يدفع إيران إلى التعامل مع المخاوف التركية على هذه الساحة بكثير من الدقة والاهتمام، لجهة أن المخاوف التركية من تصاعد الدور الكردي الطامح إلى تكريس مناطق نفوذ خاصة قد تكون خاضعة أو مجالاً لنشاط قوى كردية تصنفها أنقرة كجماعات إرهابية مثل حزب العمال الكردستاني “PKK”، وقوات سوريا الديمقراطية المتحالف معه.
وفي الوقت الذي تدفع طهران لإعادة توحيد الأراضي السورية تحت سلطة الحكومة المركزية في دمشق بقيادة بشار الأسد، فإن الوجود التركي في شرق سوريا وشمالها ومحاولته إقامة منطقة عازلة بين حدود تركيا ومناطق الانتشار الكردي في سوريا، تهدف إلى قطع الطريق على إمكانية التواصل مع أكراد العراق. هذا الوجود يفرض على طهران البحث عن تفاهمات مع أنقرة لمنع الوصول إلى مواجهة ميدانية مع الجيش السوري في معركة استعادة محافظة إدلب، وما يمكن أن يرافقها من خسائر بشرية ومادية تعرقل مسار الحل السياسي الذي دخل مرحلة جدية مع بوادر الانفتاح العربي على دمشق والرئيس السوري.
اندبندت عربي