أظهرت التطورات الميدانية الأخيرة في إقليم ناغورنو كاراباخ هشاشة اتفاق السلام الذي تمّ التوصّل إليه بين أذربيجان وأرمينيا برعاية روسية، العام الماضي. وبدت الاشتباكات الأخيرة، التي اندلعت يوم الأحد الماضي قبل الإعلان عن توقفها مساء أول من أمس الثلاثاء، الأخطر منذ عام تقريباً. ووفقاً لأرقام وزارتي الدفاع في البلدين، فقد سقط ليريفان جندي وأُسر 13 آخرون وفُقد 24 جندياً، فضلاً عن خسارتها موقعين عسكريين. في المقابل، أعلنت باكو عن مقتل سبعة جنود وجرح عشرة آخرين. وتوقفت المعارك، إثر تدخّل روسي، بموجب طلب أرميني، بعدما تحدث وزير الدفاع الروسي سيرغي شويغو مع نظيريه الأرميني سورين بابيكيان والأذري ذاكر حسنوف، وحثهما على وقف القتال. كما تحدث رئيس الوزراء الأرميني نيكول باشينيان مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين حول الوضع على الحدود. وفي ظلّ تبادل الاتهامات حول من أطلق الرصاصة الأولى في الاشتباكات الأخيرة، بدا أن ذيول الحرب التي دارت بين 27 سبتمبر/ أيلول 2020 و10 نوفمبر/ تشرين الثاني من العام نفسه، لم تنتهِ بعد، على الرغم من توقيع باكو ويريفان اتفاق سلام برعاية موسكو، التي نشرت 1960 جندياً في المنطقة. وانكبّ البلدان على رفع دعاوى مضادة بشأن ارتكاب كل منهما جرائم حرب أمام المحاكم الدولية والأوروبية.
الاشتباكات الأخيرة كانت الأعنف منذ العام الماضي
وأدت الحرب في العام الماضي، إلى تغيّر السيطرة الجغرافية، مع تحوّل خمس مدن وأربع بلدات و286 قرية في ناغورنو كاراباخ إلى السيادة الأذرية، فضلاً عن حصول باكو على الحق في ممرّ زانغيزور الذي يعبر الأراضي الأرمينية ويربطها بإقليم ناخشيفان. وهو ما شكّل ضربة قوية لأرمينيا ودفع باشينيان للإعلان أن “الجيش أبلغه بعدم قدرته على الصمود” في الإقليم، بينما اعتبرت قيادة الجيش الأرميني أن رئيس الوزراء يرمي المسؤولية على الجيش لتبرير الهزيمة العسكرية. وفي 25 فبراير/ شباط الماضي، دعا رئيس هيئة الأركان العامة في الجيش أونيك غاسباريان، برفقة 40 من كبار الضباط في الجيش، رئيس الوزراء للاستقالة، الذي وصف الدعوة بـ”محاولة انقلابية من الجيش”، معلناً عن إقالة غاسباريان، وتعيين أرتاك دافتيان مكانه. بعدها، سعى باشينيان لاستيعاب الاضطرابات السياسية المتنامية، فأعلن استقالته في 25 إبريل/ نيسان الماضي، داعياً إلى انتخابات نيابية مبكرة في 20 يونيو/ حزيران الماضي، بعدما كان من المقرر إجراؤها في 9 ديسمبر/ كانون الأول 2023. نجح باشينيان في تكريس قوته الانتخابية، بعد نيله الأكثرية النيابية، فشكّل حكومة جديدة، غير أن علاقاته مع العسكر، واستطراداً مع وزارة الدفاع، ظلّت متوترة. في 20 نوفمبر 2020، أقال باشينيان وزير الدفاع دافيد تونويان، معيّناً مكانه فاغارشاك هاروتيونيان، الذي انتهت ولايته بعد الانتخابات النيابية في 3 أغسطس/ آب الماضي، ولم يعد إلى منصبه. بعدها عيّن رئيس الوزراء أرشاك كارابيتيان، قبل أن يقيله، يوم الإثنين الماضي، مستبدلاً إياه بسورين بابيكيان. يدرك باشينيان أن الجيش غير قادر على تقبّل هزيمة 2020، خصوصاً أنها أتت عقب عقدين من السيطرة الأرمينية على ناغورنو كاراباخ، بعد حرب دامت ست سنوات مع أذربيجان بين عامي 1988 و1994. لكن في المقابل، يحظى رئيس الوزراء بدعمٍ شعبي واسع، فضلاً عن مساندة روسية لتثبيت موقعه السياسي في يريفان. من جهته، حقق رئيس الجمهورية الأذري إلهام علييف، حسب ما هو متداول في باكو، ما لم يحققه سلفاه أياز مطلبوف ووالده حيدر علييف، وهو “استعادة ناغورنو كاراباخ”. وبنى علييف تحالفات وثيقة مع تركيا وإسرائيل، ساهمت في تحقيق الانتصارات العسكرية في محاور عدة في الإقليم، تحديداً في معارك شوشة، المدينة الاستراتيجية في ناغورنو كاراباخ، وفي معارك ستيباناكرت، عاصمة الإقليم. وفي السياق، أكد وزير الخارجية التركي مولود جاووش أوغلو، أمس، أن بلاده لن تترك أذربيجان وحيدة لمواجهة الصعوبات، معتبراً أن “استهداف أرمينيا للأراضي الأذربيجانية بمثابة هجوم إرهابي”. وأضاف “سنتخذ خطوات جماعية من أجل السلام والاستقرار في المنطقة، ونحن جاهزون إذا كانت أرمينيا مستعدة لذلك، أما إذا فضّلت العمليات الاستفزازية فمصيرها الخسارة”. ومع أن أذربيجان بدت أقل ضجيجاً من أرمينيا في الداخل، إلا أن استخدام أسلحة إسرائيلية في معارك ناغورنو كاباراخ، دفع الإيرانيين لإبداء توجّسهم من احتمال تشييد الإسرائيليين مواقع لهم في أذربيجان.
في عام 2012، أفادت مجلة “فورين بوليسي” بأن جنوداً من السلاح الجويّ الإسرائيلي ينتشرون في قاعدة سيتالشاي
وتنبع الخشية الإيرانية خصوصاً من تأثير انتصار باكو على الإثنية الأذرية الموجودة في محافظة أذربيجان الإيرانية، المحاذية لدولة أذربيجان، ما يؤدي إلى احتمال زعزعة الداخل الإيراني. ولم يكن الخلاف على عبور الشاحنات الإيرانية أراض أذرية في طريقها إلى أرمينيا في سبتمبر الماضي واعتقال سائقين إيرانيين أساس الصراع الجديد بين باكو وطهران، بل يعود الأمر إلى قاعدة سيتالشاي الجويّة الأذرية، التي تبعد نحو 70 كيلومتراً، شمال غربي باكو. وفي عام 2012، أفادت مجلة “فورين بوليسي” بأن جنوداً من السلاح الجويّ الإسرائيلي ينتشرون في القاعدة، البعيدة 500 كيلومتر عن الحدود الإيرانية. واتهم الإيرانيون الإسرائيليين مراراً بتنظيم هجمات على مواقعهم النووية انطلاقاً من سيتالشاي. وحول التطورات التي طرأت قبل اندلاع الاشتباكات الأخيرة، ذكرت المحللة المختصة بشؤون جنوبي القوقاز في “المعهد الإيطالي للدراسات السياسية العليا” (آي أس بي آي)، أوليسيا فارتانيان، في تقرير أعدته، أن “مدينة ستيباناكرت لم تعد مدينة أشباح، بل عاد معظم سكانها إليها”، بعد فرارهم في العام الماضي. ومع أنها عزت عودتهم إلى انتشار 1960 جندياً روسياً، إلا أنها وصفت انتشارهم بالمحدود، خصوصاً لجهة استخدام أسلحة خفيفة لا ثقيلة ووجودهم في 27 نقطة عسكرية، معظمها بعيدة عن الحدود الأرمينية ـ الأذرية. وأفادت بأن “الجانبين الأرميني والأذري يدشنان تحصينات عسكرية جديدة بين مواقع مدنية متقابلة، لا تبعد سوى أمتار قليلة بعضها عن بعض”. وذكرت أن التعزيزات العسكرية جاءت إثر رفض الطرفين الجلوس على طاولة المفاوضات لاستئنافها. واعتبرت فارتانيان أن “هناك حاجة ملحة لتنشيط المفاوضات بشأن إقرار تفويض لقوات حفظ السلام الروسية، التي تكتفي حالياً بالقيام بدوريات يومية، في ظلّ محدودية صلاحياتها”. ونقلت عن أحد المحللين المقرّبين من الكرملين قوله: “سترين أنه في اللحظة التي يحدث فيها خطأ ما في ناغورنو كاراباخ، سيتم إلقاء اللوم على روسيا”. وهو ما يبدو أن اشتباكات الأيام الأخيرة قد أظهرته.
(العربي الجديد، فرانس برس، أسوشييتد برس، رويترز)