خيارات صعبة أمام تركيا في الأزمة الأوكرانية

خيارات صعبة أمام تركيا في الأزمة الأوكرانية

بينما كان خطر اندلاع حرب بين روسيا وأوكرانيا يتزايد أكثر من أي وقت مضى، وجدت تركيا نفسها بين المطرقة والسندان. فهي لا تريد استعداء روسيا التي تتقاسم معها مصالح حيوية استراتيجية، لكنها تحتاج أيضًا إلى إظهار دعمها لأوكرانيا وحلفائها في الناتو في مواجهة أكبر تهديد للأمن الأوروبي في حقبة ما بعد الحرب الباردة. وقد أجبر هذا الوضع تركيا على السير على حبل دبلوماسي مشدود ودقيق خلال الشهر الماضي. وفيما يلي مقتطفات من مقال إياد دقة في موقع “وورلد بوليتكس ريفيو” الذي يتناول هذه المسألة.
* * *
خلال زيارته إلى كييف في 3 شباط (فبراير)، أعلن الرئيس التركي رجب طيب أردوغان دعمه للسيادة الأوكرانية، وكرر معارضته لضم شبه جزيرة القرم، ووقع اتفاقية تجارة حرة تاريخية للإشارة إلى التزام تركيا بالعلاقة طويلة الأمد مع أوكرانيا. لكن هذا كان متوازنًا، مع ذلك، مع عرض لنزع فتيل الموقف من خلال عقد قمة ثلاثية مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين والرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي في أنقرة أو إسطنبول، ويواصل أردوغان الضغط بهذا الاقتراح على بوتين.
يبقى إلحاح وأهمية مبادرات أردوغان الدبلوماسية مفهوماً. فقد غرست أنقرة أسنانها الاقتصادية في أوكرانيا، وقد ينتهي بها الأمر بأن تصبح واحداً من الخاسرين الاقتصاديين الرئيسيين من الغزو الروسي. وكانت تركيا قد أصبحت في العام 2021 أكبر مستثمر أجنبي في أوكرانيا، باستثمارات تزيد قيمتها على 4 مليارات دولار. وهناك حاليًا أكثر من 700 شركة تركية تعمل على الأرض في أوكرانيا. وفي الأعوام الخمسة الماضية، تضاعفت الصادرات التركية إلى أوكرانيا تقريبًا لتصل قيمتها إلى 2.6 مليار دولار، بينما ارتفعت الواردات بشكل حاد من 2.8 مليار دولار إلى 4.4 مليار دولار.
ويتحرك هذا التعاون الثنائي بسرعة خاصة في قطاعي الدفاع والفضاء. فمنذ العام 2019، حصلت كييف على ما يقدر بنحو 12 طائرة من دون طيار من طراز “بيرقدار”، وهي أبرز الصادرات العسكرية الرائدة لتركيا في الوقت الحالي. كما طلبت البحرية الأوكرانية أيضًا طرادات من طراز MILGEM Ava، والتي سيتم إنتاجها بشكل مشترك على الأراضي التركية والأوكرانية. وقد وقع الجانبان بالفعل اتفاقية لبناء مرافق تدريب وصيانة للطائرات التركية من دون طيار في أوكرانيا، وتابعا ذلك من خلال توقيع اتفاقية لإنتاج مشترك من الجيل التالي من الطائرات من دون طيار، والتي ستستفيد من تكنولوجيا المحركات النفاثة التركية والأوكرانية.
تدرك تركيا جيدًا أن تغيير النظام في أوكرانيا سيعرض هذه الاستثمارات والعلاقات التجارية الاستراتيجية للخطر. ولكن، على الرغم من فورة الدبلوماسية، فإن مساحة تركيا للمناورة محدودة إلى حد ما، ومن المرجح أن يكون تأثيرها الدبلوماسي في حل هذه الأزمة متواضعًا. وهناك أسباب عدة لذلك. أولاً، أن ما تريده روسيا في النهاية من أوكرانيا لا يمكن أن تقدمه حقًا إلا الولايات المتحدة والقوى الأوروبية الكبرى. وتبقى واشنطن وباريس وبرلين ولندن اللاعبين الوحيدين الذين يمكنهم العمل مع روسيا لإنشاء هيكل أمني أوروبي جديد. ومن غير المرجح أن تقدم روسيا لأنقرة أي مكاسب دبلوماسية مجانية عندما تنظر إلى تركيا على أنها لاعب هامشي في هذه الأزمة. ويتم تداول التقارير التي تفيد بأن أردوغان أراد التوسط منذ ما يقرب من شهر. وعندما سئل عما إذا كان لديه أي شيء يضيفه حول مثل هذا الاجتماع المحتمل، بدا الكرملين غير مبالٍ بالفكرة -ببساطة لم يكن لديه تفاصيل لمشاركتها. وقد يفكر المرء بأنه لو شعرت روسيا بأن المساعي الحميدة التي تبذلها تركيا ستكون مفيدة لتحقيق حتى بعض أهدافها، فإن هذا الاجتماع كان سيحدث بالفعل.
ثانيًا، يميل ميزان المصالح في هذه الأزمة بشكل ساحق نحو روسيا. وبعبارة أخرى، على الرغم من المصالح الاقتصادية لتركيا، فإن أوكرانيا ليست ولن تصبح خطًا أحمر للخط القومي بالنسبة لأنقرة. على النقيض من ذلك، ينظر الكرملين إلى احتمال أن تكون أوكرانيا حليفة للناتو نتيجة غير مقبولة يجب منعها بأي ثمن. والحقائق الباردة والقاسية هي أن روسيا ستخوض الحرب لضمان عدم انضمام أوكرانيا إلى حلف الناتو على الإطلاق، بينما يمكن لتركيا أن تعيش مع أوكرانيا تحت الهيمنة الروسية إذا اضطرت في النهاية إلى ذلك. وهذا هو الجزء الهادئ الذي لن يقوله الأتراك بصوت عالٍ في أي وقت قريب.
أخيرًا، هناك اختلال بنيوي في ميزان القوة في منطقة البحر الأسود يميل بشدة لصالح موسكو. ويظل الأسطول التركي في البحر الأسود متواضعًا نسبيًا، وقد مال هذا الخلل بشكل أكبر لصالح روسيا منذ ضمها لشبه جزيرة القرم في العام 2014، والذي سمح لموسكو بتوسيع منطقة منع الوصول، أو المنطقة المحظورة في المنطقة. وبينما تريد تركيا من شركائها في الناتو وأوكرانيا المساعدة على موازنة الهيمنة الروسية في المنطقة، فإن أنقرة تريد إدارة ذلك بذكاء وحذر. لا يريد الأتراك أن تؤدي أي صفقات أمنية إقليمية بين روسيا وحلف شمال الأطلسي إلى تقويض اتفاقية مونترو للعام 1936 -وهو تاريخ يمنح تركيا السيادة الكاملة على مضيق البوسفور والدردنيل بينما تتحكم بتدفق السفن التجارية والعسكرية إلى البحر الأسود. وبينما كان يردد هذه المخاوف في الاجتماع الوزاري لحلف الناتو الأسبوع الماضي، صرح وزير الدفاع التركي، خلوصي أكار، بأن اتفاقية مونترو جلبت “التوازن والاستقرار والأمن في البحر الأسود. … لقد أوضحنا وما نزال نوضح في كل مناسبة أن هذا أمر بالغ الأهمية”.
بطبيعة الحال، لا يعني أي من هذا أن تركيا وروسيا لن تستمرا في التعامل مع أوكرانيا. على الرغم من اعتبار أنقرة جهة فاعلة دبلوماسية هامشية في هذه الأزمة، فإن لدى روسيا أشياء لتناقشها معها. على سبيل المثال، تريد روسيا من الأتراك إبطاء أو إيقاف عمليات نقل الأسلحة المتقدمة إلى الأوكرانيين، بما في ذلك طائرات “بيرقدار” من دون طيار. وسيرحب الكرملين أيضًا بالضغط التركي على الناتو من الداخل، لا سيما عندما يتعلق الأمر بمزيد من تنبيه الغرب إلى مصالح روسيا الأمنية طويلة الأجل. وهذه الأشياء وحدها ستغري الروس بإبقاء خطوط التواصل مفتوحة مع أنقرة، وستضمن، ظاهريًا على الأقل، عدم رفض مبادرات إردوغان بشكل قاطع عندما يتعلق الأمر بعروضه للتوسط.
بالنسبة لتركيا، فإن الجهود الدبلوماسية تستحق المتابعة بغض النظر عن احتمالات نجاحها. وترى أنقرة فرصة لإعادة تعريف سمعتها كقوة إقليمية لتحقيق الاستقرار، بعد عقد من اتهامها بخوض مغامرات عسكرية متهورة في سورية وليبيا وشرق البحر المتوسط. وهناك أيضًا مسرحية محلية على المحك بالنسبة لأردوغان. في وقت يعاني فيه الاقتصاد التركي من وطأة التضخم، ومع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية للعام 2023، يريد حزب العدالة والتنمية الحاكم الاستفادة من الأزمة لتعزيز صورة أردوغان كقائد حكيم ومقتدر. وقد أوضح المتحدث باسم حزب العدالة والتنمية الذي يتزعمه أردوغان ذلك عندما ادعى أن “أهم دول العالم قادرة على طرح نهج يمكن أن يعالج جانبًا واحدًا من جوانب هذه الأزمة. لكن رئيسنا يطرح الدبلوماسية التي تروق لكلا طرفي الأزمة”.
لكن الأهم ربما يكون احتمال أن ينجح أردوغان وبوتين على الرغم من كل الصعاب. فقد أتقنا، بعد كل شيء، فن “الجغرافيا السياسية للمعاملات” -القدرة على عقد الصفقات الصغيرة حتى عندما يختلفان حول الصورة الكبيرة. وقد صمدت هذه الطريقة في ممارسة الأعمال بشكل جيد نسبيًا في مختلف المسارح الجيوسياسية، من سورية وليبيا إلى القوقاز. ومن الممكن أن يفسر هذا سبب سماح تركيا لشركاتها بالتجارة مع شبه جزيرة القرم وأبخازيا، على الرغم من موقفها الرسمي الداعم لوحدة أراضي أوكرانيا وجورجيا على التوالي. وليس هناك سبب وجيه لتوقع أن تغير أوكرانيا اسم أو شكل اللعبة بين أنقرة وموسكو.

الغد