أفرزت الحرب الروسية – الأوكرانية تداعيات كثيرة، تجاوزت الأطراف المُنخرطة فيها مباشرة، وامتدت أصداؤها إلى أقاليم أخرى. ويبدو الشرق الأوسط واحداً من المناطق الأكثر تأثراً بهذه الحرب، ويُعزى ذلك إلى جملة من الأسباب، لعل أبرزها هشاشة الوضع الأمني والسياسي والاقتصادي للعديد من دول المنطقة، فضلاً الروابط المُعقدة الذي تربط هذا الإقليم بفاعلين كُثُر من خارجه، بما يجعله أكثر عُرضة للتأثر بمتغيرات البيئتين الإقليمية والدولية. وفي هذا الإطار، يتناول هذا التحليل الأثر المُحتمل للحرب الروسية – الأوكرانية على اتجاهات السلام والصراع في الشرق الأوسط.
محددات أساسية:
بداية، تتعين الإشارة إلى أن أية محاولة للتنبؤ بتأثيرات الحرب الروسية – الأوكرانية على اتجاهات ومآلات الصراع والسلام في الشرق الأوسط، لابد أن تأخذ في اعتبارها مجموعة من العوامل تمثل مُنطلقات أساسية للتحليل، وذلك على النحو التالي:
1- يأتي فهم حدود الدور الروسي في الإقليم بوجه عام، وفي الدول المأزومة بالصراعات على وجه الخصوص، على رأس هذه المُنطلقات. فروسيا، التي تسعى لفرض نفسها على النظام العالمي كقوة كبرى تتحدى هيمنة الولايات المتحدة الأمريكية وحلفائها، ترى في الشرق الأوسط ميداناً مناسباً لاستعراض مقومات القوة المختلفة، وقد عزز من هذا التوجه قناعة موسكو بأن انسحاب الاتحاد السوفييتي من المنطقة إبان رئاسة ميخائيل جورباتشوف كان إيذاناً بانهياره كقوة عظمى.
علاوة على ذلك، فإنه لا يمكن إغفال الرابط بين عودة روسيا إلى الشرق الأوسط، وتطور الأحداث في البحر الأسود منذ عام 2014 وتحديداً في أعقاب ضم موسكو لشبه جزيرة القرم وتنظيمها استفتاءً على وضع الجزيرة ترتب عليه انضمامها رسمياً لها في مارس 2014. إذ سعت روسيا إلى إقامة علاقات جيدة مع دول الشرق الأوسط، هادفة إلى جذب استثمارات من المنطقة وكسر عزلتها الإقليمية ومواجهة العقوبات الدولية التي فُرضت عليها آنذاك. وما بين أزمة 2014 وما يدور الآن في أوكرانيا، تظل أهداف موسكو في الشرق الأوسط قائمة، ما ينفي أية تنبؤات بانسحاب روسي وشيك على خلفية هذه التطورات.
2- يتعلق منطلق الفهم الثاني بحدود أدوار الفواعل الدولية والإقليمية، وإلى أي مدى كانت هذه الأدوار حاكمة في الصراعات، بحيث يمكن القول إن انسحابها من المنطقة أو انشغالها وتحول اهتمامها إلى الصراع الروسي – الأوكراني من شأنه أن يُلقي بآثار على مسارات هذه الصراعات. وفي هذا الإطار، فإن السنوات الأخيرة شهدت تراجعاً أمريكياً في الإقليم، تاركة مساحات لفواعل أخرى. أما الاتحاد الأوروبي فدوره في المنطقة يبدو محدوداً باستثناء ليبيا؛ بحكم الأهمية الجيوسياسية والقرب الجغرافي، وأيضاً عدا عن دوره في تقديم المساعدات الإنسانية في دول الصراعات. ومن هنا، من غير المُحتمل أن يكون الانشغال الدولي بالحرب الدائرة في أوكرانيا عاملاً حاسماً في مسارات الصراعات بالشرق الأوسط.
في المقابل، يمكن القول إن أدوار القوى الإقليمية تظل هي الأكثر حسماً في تطورات هذه الصراعات، على نحو ما نراه في أدوار تركيا وإيران في سوريا، وكذلك السعودية وإيران في اليمن.. إلخ. فإذا أضفنا إلى ذلك، نجاح روسيا في إقامة علاقات مع معظم هذه الفواعل الإقليمية، يمكن القول إن علاقات موسكو بهذه الدول ستكون عاملاً مُحدداً لمسارات الصراع والسلام في المنطقة.
3- يتمثل المنطلق الثالث في حدود التلاقي والاختلاف بين القوى الدولية والإقليمية الفاعلة في الشرق الأوسط. إذ إن تلاقي إرادات هذه الدول من شأنه تعزيز القدرة على إيجاد حلول لصراعات المنطقة، فيما يؤدي الاختلاف فيما بينها إلى زيادة أمد الصراعات وصعوبة التوصل إلى تسويات لها. وفي هذا الصدد، يمكن الإشارة مثلاً إلى التفاهمات الروسية – التركية – الإيرانية في سوريا، فضلاً عن الدور الروسي في إحياء مفاوضات الاتفاق النووي الإيراني. بعبارة أخرى، فإن التنبؤ باتجاهات الصراع والسلام في الإقليم سيكون مرهوناً بقدرة الأطراف الدولية والإقليمية المؤثرة على المحافظة على التوافقات بينها، فيما سيؤدي لجوء موسكو أو غيرها من القوى الخارجية للعب دور “المُفسد”، إلى تقويض ما تحقق من مكاسب، حتى ولو محدودة، في بعض مناطق الأزمات.
مقايضات سياسية:
إذا كان مجلس الأمن الدولي يعد ساحة اختلاف سياسي بين الدول الخمس دائمة العضوية، فإن الحرب الروسية – الأوكرانية أضفت أبعاداً جديدة على مواقف هذه الدول من الصراعات الدائرة في الشرق الأوسط، لتصبح فرصة إما لمقايضة المواقف والحصول على بعض المكاسب، أو لممارسة ضغوط على مختلف الأطراف؛ وهو ما اتضح جلياً في ديناميات المجلس أثناء المناقشات بخصوص ليبيا وسوريا وغيرها على مدى الشهور الثلاثة الماضية.
فبشأن الصراع في ليبيا، أيدت الولايات المتحدة الأمريكية والشركاء الأوروبيون مشروع قرار قدمته المملكة المتحدة في مجلس الأمن بتمديد ولاية بعثة الأمم المتحدة للدعم في ليبيا لمدة عام، بينما اعترضت روسيا على ذلك، وطلبت تمديد البعثة لمدة 3 أشهر فقط، مع تقديم تقرير دوري لمجلس الأمن كل 30 يوماً حتى يتسنى للمجلس الحصول على تحديثات دورية بخصوص الوضع في ليبيا. وبالفعل تبنى مجلس الأمن، في أبريل الماضي، القرار رقم 2629 على نحو ما طالبت روسيا، مع الإبقاء على نطاق ولاية البعثة الأممية كما جاء في القرار رقم 2542 الصادر في 15 سبتمبر 2020. ولعل هذا التجديد قصير المدى يرجع إلى رغبة موسكو في الضغط على باقي دول مجلس الأمن لإصلاح هيكل هذه البعثة، بحيث يتولى القيادة ممثل خاص للأمين العام للأمم المتحدة بدلاً من المستشارة الأممية ستيفاني ويليامز. وفيما تدعم الولايات المتحدة والشركاء الأوروبيين عمل ويليامز، طالبت روسيا برئيس للبعثة يحظى بقبول الفرقاء الليبيين وأصحاب المصلحة الإقليميين.
ولم تكن الخلافات حول سوريا أقل حدة، بل بدا الربط بينها وبين الحرب الروسية في أوكرانيا أكثر وضوحاً. إذ اتهمت كل من المملكة المتحدة وألبانيا، روسيا بنشر معلومات خاطئة بخصوص استخدام الأسلحة الكيميائية في أوكرانيا. أما الولايات المتحدة فقد رأت أن الحرب في أوكرانيا تجعل من روسيا طرفاً غير موثوق به للحديث عن الأسلحة الكيميائية. وفي المقابل، رأت موسكو أن عمل منظمة منع الأسلحة الكيميائية “مسيس ومنحاز”، مشككة في مصداقيتها.
كما اختلفت روسيا والصين مع باقي الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي بشأن موقفها من مسألة المعابر الحدودية لإيصال المساعدات من الدول المجاورة لسوريا إلى المناطق التي تسيطر عليها المعارضة، إذ تدعم موسكو جهود النظام السوري في تقييد وصول هذه المساعدات، ونجحت في تقليص هذه المعابر إلى معبر واحد فقط.
وبالتالي، فإن روسيا ربما تعمد إلى تشديد مواقفها من الصراعات المتدخلة فيها في الشرق الأوسط، لفرض مزيد من الضغوط على الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، الأمر الذي قد يزيد من صعوبة تحقيق تقدم في المسارات السياسية لتسوية هذه الصراعات، لاسيما في ليبيا، التي تمثل تهديداً مُقلقاً لدول أوروبا.
ضغوطات عسكرية:
على الجانب العسكري، بدأت التداعيات الإقليمية للحرب الأوكرانية في الظهور على أكثر من صعيد، بيد أن أكثرها وضوحاً سيكون في سوريا؛ بالنظر إلى أكثر من اعتبار، منها ما يتم تداوله بشأن عمليات تجنيد المقاتلين السوريين للقتال لصالح أحد طرفي الحرب الروسية – الأوكرانية. وفيما تشير بعض التقارير إلى قيام الحكومة السورية وشركائها العسكريين من الجانب الروسي بتجنيد مقاتلين للمشاركة في هذه الحرب مع موسكو، تدّعي تقارير أخرى لوكالات أنباء روسية أن تركيا تجهز لنقل مقاتلين سوريين من المناطق التي تسيطر عليها المعارضة والذين تستهدفهم الضربات الجوية الروسية، للقتال إلى جانب القوات الأوكرانية.
وفي حال صحة تلك التقارير، فإن إعادة نشر المقاتلين السوريين، خاصة الموالين لنظام بشار الأسد، من شأنها خلق هشاشة أمنية، لاسيما في المناطق التي يسيطر عليها النظام السوري، والتي قد يهدد بعضها تنظيم داعش. علاوة على ذلك، ربما تتراجع القدرات القتالية للقوات الروسية وكذا السورية المدعومة من موسكو؛ جراء نقص الذخائر وقطع الغيار المطلوبة للصيانة، في ضوء إغلاق مضيقي البوسفور والدردنيل أمام السفن الروسية.
يُضاف إلى ذلك، المخاوف بشأن مستقبل اتفاق وقف إطلاق النار في محافظة إدلب شمال غرب سوريا والذي تم التوصل إليه في مارس 2020، حيث إن مدى صمود هذا الاتفاق يعتمد إلى درجة كبيرة على العلاقة بين روسيا وتركيا. وتنبع المخاوف، في هذا الإطار، من قيام أنقرة بإرسال طائرات مُسيّرة لأوكرانيا، فضلاً عن قيامها بإغلاق مضيقي البوسفور والدردنيل أمام السفن الحربية الروسية. وبالتالي ثمة مخاوف من أن تدفع هذه المواقف التركية، روسيا إلى تصعيد أعمالها ضد الوجود التركي في الشمال السوري.
أيضاً، تشير تقارير غير مؤكدة إلى انسحاب بعض وحدات “فاغنر” ومقاتلين سوريين موالين لموسكو من ليبيا، وعودتهم إلى روسيا. بيد أنه في ضوء الأهداف الاستراتيجية الروسية في ليبيا، ربما تنزع موسكو إلى مواصلة استخدام قوات “فاغنر” في ليبيا لخلق مزيد من الضغوط على أوروبا عبر جنوب المتوسط.
ختاماً، يمكن القول إن الحرب الروسية – الأوكرانية أضافت مزيداً من التعقيد للمشهد المتأزم بالفعل في صراعات الشرق الأوسط. غير أن المدى الكامل لهذا التأثير سينكشف مستقبلاً في ضوء ما ستنتهي إليه المواجهة العسكرية الجارية بين موسكو وكييف، وما إذا كانت ستفضي إلى تغييرات جوهرية في طبيعة النظام الدولي والإقليمي القائم.
المستقبل للدراسات