تتداول الصحافة بكثرة موضوع استعداد الأحزاب السياسية في تركيا للانتخابات الرئاسية والنيابية في حزيران العام القادم، مؤكدة على أهميتها الحاسمة، في مناخ من التشويق والإثارة ناجم عن الصعوبات التي تواجهها السلطة، فتكثر التكهنات حول حظوظها في الاستمرار في الحكم من عدمه.
غير أن العام القادم يصادف أيضاً مئوية قيام الجمهورية التركية الحديثة التي انبثقت من معاهدة لوزان في 24 تموز 1923. لقد حرص مصطفى كمال آتاتورك على استصدار قرار من مجلس الأمة بإلغاء نظام السلطنة قبيل بداية المفاوضات مع الدول العظمى في لوزان، لقطع الطريق أمام السلطة القديمة في تقرير مصير تركيا، وبذلك أصبح الوفد المفوض من المجلس برئاسة عصمت إينونو هو ممثل الدولة التركية في المفاوضات. استمرت المفاوضات في لوزان نحو ثمانية أشهر، عاد الوفد التركي في نهايتها إلى أنقرة ومعه اعتراف دولي بالدولة التركية وحدودها وسيادتها ووحدة أراضيها، وضمت المعاهدة بنوداً خاصة بوضع الأقليات الدينية تعترف لها بمجموعة من الحقوق.
غير أن تصريحات لسياسيين أتراك، في السنوات القليلة الماضية، تتعلق بتقييم معاهدة لوزان أشعلت النقاش مراراً حول المعاهدة، فاعتبرها فريق هزيمة لتركيا واعتبرها فريق آخر نصراً لها. لا يتعلق الموضوع طبعاً بسجال فكري حول موضوع تاريخي، بل بتعبئة إيديولوجية لأغراض استقطاب الجمهور والعيون شاخصة نحو صناديق الاقتراع.
وفي الأسبوع الماضي ظهر زعيم حزب الحركة القومية الحليفة للسلطة، دولت بهجلي، في صورة جمعته مع خارطة لتركيا تضم الجزر اليونانية القريبة من الشاطئ الغربي لتركيا، الأمر الذي أثار غضب رئيس الوزراء اليوناني ميتشوتاكيس الذي طالب الرئيس التركي بتحديد موقف واضح مما اعتبره استفزازاً لليونان من قبل شريكه الصغير في السلطة.
وتعتبر تيارات سياسية، قومية وإسلامية، أن تلك الجزر هي جزء من خريطة «الميثاق الملي» الذي أقره المجلس إبان حرب الاستقلال، ويضم أيضاً أجزاءً متاخمة لتركيا من شمال العراق وشمال سوريا، محافظات الموصل وكركوك وحلب وإدلب. وقد تمكن مصطفى كمال من عقد صفقة مع الفرنسيين ضم بموجبها لواء الاسكندرون، قبيل وفاته في العام 1939، في حين أن معاهدة لوزان سبق وأخرجت المناطق المشار إليها في العراق وسوريا من خارطة الدولة التركية الحديثة، وكذا فيما يتعلق بالجزر اليونانية وجزيرة قبرص.
الواقع أن استعادة الميثاق الملي ليس بدعة من أردوغان أو بهجلي، بل يعود إلى الرئيس التركي الأسبق الراحل تورغوت أوزال الذي كانت لديه رغبة معلنة في «استعادة» الموصل
الرئيس أردوغان بدوره أطلق تصريحات عديدة، في مناسبات متفرقة في السنوات الماضية، تتعلق بالطموحات التوسعية لتركيا لاستكمال «الميثاق الملي». ففي أحد تلك التصريحات قال: «يسألنا البعض عن سبب اهتمامنا بسوريا والعراق. عليهم أن يعودوا إلى التاريخ ليجدوا الجواب. ثمة في تاريخنا شيء اسمه الميثاق الملي. وهذا يحمّلنا مسؤوليات لا نستطيع أن نتهرب منها. هذا ما يجري في عفرين. هذا ما يجري في إدلب».
الواقع أن استعادة الميثاق الملي ليس بدعة من أردوغان أو بهجلي، بل يعود إلى الرئيس التركي الأسبق الراحل تورغوت أوزال الذي كانت لديه رغبة معلنة في «استعادة» الموصل، وثمة رواية تقول إن الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب قد شجعه على ذلك إبان حرب تحرير الكويت، لكن أوزال تردد بسبب معارضة رئيس وزرائه سليمان دميريل لمغامرة مماثلة. أما في الفترة الأولى لحكم حزب العدالة والتنمية فقد كانت سياسة «تصفير المشاكل» مع دول الجوار وإطلاق مشروع الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي بزخم كبير، فغابت تماماً تلك الطموحات الإمبراطورية لمصلحة «العثمانية الجديدة» القائمة على توثيق الروابط مع الدول العربية واستخدام «القوة الناعمة» الاقتصادية والتجارية والثقافية لاستعادة النفوذ التركي بشكل جديد.
مع اندلاع ثورات الربيع العربي انتعشت تلك الأحلام مجدداً بأفق مختلف فأيدت تركيا تلك الثورات وشجعت حركات الإسلام السياسي لتشكل بديلاً عن الأنظمة المتهاوية في تلك البلدان، بديلاً يكون حليفاً استراتيجياً لتركيا بالنظر إلى الأخوة الإيديولوجية مع القيادة التركية. وكانت المراهنة التركية الكبرى على الثورة السورية بالذات بسبب الحدود الطويلة بين البلدين، كما بسبب التركيبة الديموغرافية لشمال سوريا التي تهم انقرة (كرد وتركمان).
عاد الحديث إلى هجاء معاهدة لوزان والتذكير بالميثاق الملي من جديد في أعقاب الانقلاب العسكري الفاشل في تموز 2016، بعدما اضطر أردوغان للتحالف مع القومي المتشدد دولت بهجلي، فكان عليه اتخاذ سياسة متشددة ضد الحركة الكردية لإرضاء الحليف الصغير ونيل دعمه من خارج الحكومة. فبات خطاب السلطة قومياً باطراد، يتوسع ليشمل عناصر تتجاوز الموضوع الكردي بصورة خاصة.
غير أن بعض ممن يتناولون في الإعلام موضوع معاهدة لوزان يضفون عليها عناصر لا تمت بأي صلة للحقيقة التاريخية، كالقول إن هناك «بنوداً سرية» في المعاهدة كحرمان تركيا من استخراج ثرواتها الباطنية، أو أن المعاهدة لها عمر افتراضي هو مئة سنة، أي أن تركيا ستتحرر من أحكامها في شهر تموز العام القادم! والغاية من طرح هذه الأشياء هي للقول إن تركيا ستخط تاريخاً جديداً تستعيد فيه أمجاد الماضي. هل ينفع نشر أوهام من هذا النوع في استعادة شعبية الحزب الحاكم لدى جمهور الناخبين؟ هذا ما يراهن عليه إعلام الحزب.
من جهة أخرى تثير إجراءات الدولة التركية في مناطق سيطرتها في شمال سوريا ريبة لدى السوريين وفي وسائل إعلام عربية بشأن نوايا البقاء المديد. من ذلك أن الخدمات الأساسية في تلك المناطق تؤديها مؤسسات حكومية تركية كالكهرباء والبريد والهاتف وإنشاء وإدارة مرافق عمومية وتداول العملة التركية وغيرها، إضافة إلى الوجود العسكري المباشر والهيمنة على الإدارات المدنية.
ثمة مفارقة مؤكدة بين الرغبات والنوايا التركية من جهة والقدرة على تحقيقها من جهة أخرى. فمهما طال الوجود التركي في مناطق الشمال، يبقى أن مصيره سيتحدد من قبل الدول العظمى.
القدس العربي