أرسلت الولايات المتحدة مطلع الأسبوع المنصرم رسالة إلى اثنتين من كبريات جمعيات الأعمال التركية، تُحذر فيها رجال الأعمال والشركات التركية من خطر التعرّض لعقوبات أميركية، في حال تعاملوا مع كيانات وأفراد روس خاضعين للعقوبات. هذه الرسالة خارجة عن المألوف، إذ إنها تتجاوز قنوات التواصل الدبلوماسي المعمول بها بين الدول، وجاءت على الرغم من تعهد وزارة المالية التركية بعدم السماح بأيّ انتهاك للعقوبات الغربية في المعاملات التجارية مع روسيا. تُفسر هذه الخطوة، على الأرجح، عدم ثقة واشنطن بتعهدات الحكومة التركية بهذا الخصوص، وفضلت مخاطبة جمعيات الأعمال التركية مباشرة لدفعها إلى النأي بنفسها عن توجّهات أنقرة لتعميق العلاقات الاقتصادية والتجارية مع روسيا. بالنّظر إلى الثقل الاقتصادي والمالي الكبيرين لقطاع الأعمال الخاص في تركيا، فإنّ الخوف من العقوبات سيجعله حذراً عند القيام بعمليات تجارية مع الشركات الروسية، وبالتالي، إضعاف قدرة الحكومة على تشجيع الشركات ورجال الأعمال على تنمية الروابط التجارية مع موسكو.
ليس سرّاً أنّ الولايات المتحدة لا تثق كثيراً بسياسات الرئيس رجب طيب أردوغان، خصوصاً عندما يتعلق الأمر بروسيا. سبق أن تحدّى التهديدات الأميركية بالعقوبات ومضى في شراء منظومة إس 400 الصاروخية الروسية. كما عزّز في السنوات الأخيرة الشراكة مع الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، في نواح عديدة كنتيجة جزئية لتردّي العلاقات مع واشنطن والدول الأوروبية. مع ذلك، فإن لدى أردوغان الكثير من الأسباب التي تدفعه إلى عدم المخاطرة بمساعدة بوتين في خرق العقوبات. لدى تركيا علاقات اقتصادية وتجارية واسعة مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي ولا تُريد الإضرار بها. كما أنها تُجري محادثات مع واشنطن لشراء مقاتلات إف 16، ولا تُريد منح الكونغرس ذريعة أخرى لعرقلة الصفقة. يُضاف إلى ذلك أنّ الفوائد الاقتصادية المحتملة لتركيا، إذا ما أرادت المخاطرة بالتعرّض للعقوبات الغربية، لا تُقارن على الإطلاق بحجم الأضرار المؤكّدة التي ستترتب على الاقتصاد التركي.
لدى تركيا علاقات اقتصادية عميقة مع موسكو في مجالات عديدة، من التجارة إلى الطاقة والسياحة والتعاون الدفاعي
في المقابل، لا يُريد أردوغان تعريض الشراكة الاقتصادية مع روسيا للخطر بسبب مخاطر العقوبات. لدى تركيا علاقات اقتصادية عميقة مع موسكو في مجالات عديدة، من التجارة إلى الطاقة والسياحة والتعاون الدفاعي. تعمل موسكو منذ سنوات على بناء محطّة للطاقة النووية السلمية في تركيا، وقد أمر بوتين، أخيرا، بتحويل خمسة مليارات دولار إلى الشركة التي تعمل على بناء المحطة. أنقرة بحاجة ماسّة إلى العملات الأجنبية التي يمتلكها بوتين بوفرة من أجل شراء الليرة في الأسواق المالية، وبالتالي، دعم قيمة العملة ومواجهة التضخم من دون رفع أسعار الفائدة. كما تُساعد الصادرات التركية إلى روسيا في تعزيز احتياطات المصرف المركزي التركي من العملات الأجنبية. يُضاف إلى ذلك أنّ النطاق القانوني للعقوبات الغربية لا يشمل طرفاً ثالثاً، وبالتالي، لا يوجد ما يمنع تطوير العلاقة الاقتصادية مع روسيا طالما أنها تراعي العقوبات. أحد دوافع نهج التوازن في الصراع الروسي الغربي هو حماية هذه العلاقة وتمكين أنقرة من لعب دور الوساطة بين موسكو وكييف.
ينظر أردوغان إلى العزلة الاقتصادية الغربية المفروضة على روسيا فرصة للحصول على منافع اقتصادية جديدة تشتد الحاجة لها اليوم. بالنظر إلى أنّ الشراكة الاقتصادية والتجارية المتنامية بين تركيا وروسيا في الأشهر الأخيرة التي تلت الحرب، تعكس أيضاً تنامي الشراكة السياسية بينهما، وهي تكتسب أهمية لأنقرة لإحداث توازن في الشراكة مع موسكو. لذلك، لا يجب النظر إلى اتفاق أردوغان وبوتين في قمة سوتشي أخيرا على أنّه تحدّ تركي ضمني للعقوبات الغربية. لكن، طالما أن هذه العلاقة ستمنح بوتين وسيلة مهمة للتخفيف من وطأة العزلة الغربية على روسيا، فإن هذا كفيل بأن يجعل الغرب متشكّكاً في سياسات أنقرة مع موسكو، سواء خرقت العلاقات الاقتصادية بين البلدين العقوبات الغربية أم لا.
يبحث أردوغان عن فرص اقتصادية جديدة، ويحتاج إلى إعطاء دفعة قوية للاقتصاد التركي على أبواب الانتخابات المقبلة
لم تؤدِّ الحرب الروسية الأوكرانية إلى إعادة تشكيل عملية التنافس الجيوسياسي بين تركيا وروسيا فحسب، بل دفعتهما إلى العمل على ربط اقتصاديهما معاً بشكلٍ أكثر إحكاماً وتسعيان إلى الاستفادة من بعضهما بعضا. ينظر بوتين إلى قوة الاقتصاد التركي كأحد الخيارات البديلة لروسيا في علاقاتها الاقتصادية مع الغرب. وبالمثل، يبحث أردوغان عن فرص اقتصادية جديدة، ويحتاج إلى إعطاء دفعة قوية للاقتصاد التركي على أبواب الانتخابات المقبلة. على سبيل المثال، يُساعد الاتفاق بين الرئيسين على دفع تركيا بعض مشترياتها من الغاز الروسي بالروبل على الحد من صرف العملة الأجنبية على فاتورة الطاقة المرتفعة من روسيا. كما أنّ الصادرات التركية إلى روسيا نمت بنسبة 75% في يوليو/ تموز الماضي مقارنة بالعام السابق، حيث اتّجه الروس إلى تركيا لاستبدال الواردات الأوروبية المحظورة عليهم بفعل العقوبات. بالإضافة إلى ذلك، زادت روسيا استثماراتها في تركيا بشكل أكبر، ما يعكس الأهمية التي يوليها بوتين للعلاقة الاقتصادية مع أنقرة في مرحلة ما بعد الحرب.
على الرغم من أن اتفاق بوتين وأردوغان في سوتشي لم يكشف بالتفصيل كيف سيُنفذ على أرض الواقع، وما إذا كان سيُضر بشكل مؤثر باستراتيجية العقوبات الغربية، إلآّ أن التحرّك الأميركي يعكس عموما القلق المتزايد من واشنطن من المسار الذي تسلكه العلاقات التركية الروسية في الوقت الحالي. في بداية الحرب، تقبّل الغرب على مضض نهج التوازن التركي، واستطاعت أنقرة إثبات أهمية دورها وسيطا بين موسكو وكييف من خلال محاولة إطلاق عملية سلام لإنهاء الحرب ورعاية صفقة الحبوب بين البلدين. قبل ذلك، أدّت الخطوات التي اتخذتها تجاه روسيا عبر التنديد الصريح بالحرب وإغلاق البحر الأسود أمام السفن الروسية وتزويد أوكرانيا بطائرات مسيّرة، إلى منح شرعية سياسية أكبر لنهج التوازن. لكن مع ميل أردوغان إلى توظيف الصراع من أجل الحصول على منافع اقتصادية وسياسية من روسيا، لم يعد نهج التوازن متوازناً بالنسبة للغرب. لا ينحصر الهاجس الغربي بمسألة العقوبات، بل يتعدّاها إلى القلق من الخطوات السياسية المتقدمة التي ينتهجها أردوغان وبوتين.
لدى الغربيين وسائل عديدة للضغط على تركيا من أجل ثنيها عن تعميق الشراكة الاقتصادية مع روسيا
رغم أن صفقة الحبوب حظيت بترحيبٍ غربي، إلاّ أنّها لا تُشكل، بالضرورة، مصلحة للغرب على المدى البعيد، حيث إنّ التعاون التركي الروسي في البحر الأسود سيُكرس دورهما القيادي في هذه المنطقة ويقطع الطريق أمام الغرب للدخول إليها. كما أنّ تركيا أصبحت مؤخراً أكثر حذراً في مواصلة تزويد أوكرانيا بمعدات عسكرية لتجنب إغضاب موسكو. علاوة على ذلك، لا يزال أردوغان يُلوح بعرقلة مشروع ضم فنلندا والسويد إلى حلف شمال الأطلسي في حال لم يستجب البلدان لتعهداتهما بالتعاون مع أنقرة في مكافحة الإرهاب. وعلى صعيد التعاون الدفاعي التركي الروسي، من المرجح أن يؤدي فشل مشروع صفقة بيع مقاتلات إف 16 الأميركية لتركيا إلى دفع أردوغان للحصول على معدات عسكرية إضافية من روسيا. وفي المسألة السورية، أبدت تركيا، أخيرا، استعدادها للتعاون مع روسيا وإيران في إخراج الولايات المتحدة من شمال شرق سورية وإضعاف حلفائها الأكراد. كما يشير تغيّر النهج التركي تجاه النظام السوري إلى أن أردوغان يسعى إلى مواءمة مصالح بلاده مع روسيا في سورية بشكل أكبر.
لدى الغربيين وسائل عديدة للضغط على تركيا من أجل ثنيها عن تعميق الشراكة الاقتصادية مع روسيا. يُمكن للولايات المتحدة أن تفرض عقوبات ثانوية على دولة ثالثة تتعامل مع موسكو. وبالتالي، إحداث ضرر جسيم للاقتصاد التركي. كما يُمكن للأوروبيين أن يقوموا بالخطوة نفسها، وتقليص حجم العلاقات التجارية والاقتصادية الكبيرة مع أنقرة. مع ذلك، لن تحل مثل هذه الخيارات المشكلة. ستؤذي أنقرة بالتأكيد، لكنها ستؤدّي، في المقابل، إلى نتائج عكسية وستُعمقّ من حجم الهوّة القائمة أساساً بين تركيا والدول الغربية. كما ستدفع أردوغان إلى تعميق الشراكة مع بوتين وسيستطيع توظيف أي تصعيد غربي ضدّه في المنافسة الانتخابية الداخلية. لا يزال الحفاظ على نهج التوازن الدقيق خياراً رئيسياً لتركيا في علاقاتها مع روسيا والغرب، لكنّ هامش المناورة لديها يضيق أكثر فأكثر، وقد يتحوّل إلى مشكلة كبيرة، في حال لجأ الغرب إلى تخييرها بين العلاقة معه أو مع روسيا.
العربي