إذا عُرف السبب، بطل العجب من تعثر الحوار في العراق

إذا عُرف السبب، بطل العجب من تعثر الحوار في العراق

تقدم الأحزاب العراقية المختلفة العديد من الحجج لدعم مواقفها السياسية، لكنها حجج تخفي جميعها سببا رئيسيا، تنكره الأحزاب في العلن لكنه هو من يحركها فعليا، ألا وهو الاحتياطات النقدية التي تربحها الخزينة العراقية من أسعار النفط المتزايدة منذ العام الماضي، والتي صارت هدفا لأغلب الزعماء السياسيين فالسيطرة على التشكيل الحكومي تعني وضع اليد على أموال طائلة، وإن كان بطرق غير شرعية، تسرق للعراقيين مالهم ولا تقدم لهم شيئا يذكر.

بغداد – منذ أن تجاوزت أسعار النفط في مطلع فبراير العام الماضي سعر 60 دولارا للبرميل الواحد، أدركت أحزاب العملية السياسية في العراق أن البلاد سوف تحقق فائضا نقديا يسمح لها بإنفاقه كما أنفقت تريليوني دولار تم جمعها من عائدات النفط منذ العام 2003.

منذ تلك اللحظة بدأ التنافس يكتسب طابعا قتاليا لاسيما بين الجماعات الموالية لإيران من جهة والتيار الصدري من جهة أخرى، داخل الكتلة الشيعية، بينما بقي ممثلو الأكراد والسنة يفركون أياديهم لنيل “حصة” من ذلك الفائض، من أينما جاءت. وهو صراع سوف يحتدم فيما بعد، تحت شعارات شتى، إلا أن الاحتياطي النقدي كان هو الذي يقف نصب أعين المتنازعين، من دون أن يتحدثوا عنه صراحة.

في مارس العام الماضي، أقر البرلمان العراقي ميزانية سنوية تبلغ 69 مليار دولار، على أساس 45 دولارا للبرميل، وذلك عن تصدير 3.2 مليون برميل يوميا. لكن الحساب كان ينطوي على خللين مقصودين. الأول، هو أن الميزانية على أساس هذا السعر كان يجب أن تتوقف عند 54 مليار دولار وليس 69 مليار دولار. والثاني، هو أن سعر النفط في ذلك الوقت كان قد بلغ 65 دولارا للبرميل، ويتجه صعودا، وليس 45 دولارا.

العراقيون يستطيعون أن يلاحظوا أن عدم وجود حكومة أنفع لخزانة الدولة. فالاحتياطات تتراكم حتى وإن لم يستفيدوا منها

ويرى محللون أن المقصود من هذين الخللين، هو أن الزيادة في الاحتياطات خارج الميزانية المقررة يمكن أن تفسح المجال للإنفاق على المشاريع الوهمية، وتوفر قروضا “للشركات” التي لا وجود لها، وتتيح الفرصة لصفقات تجارية إضافية مع إيران.

ويقول مسؤولون حكوميون سابقون إن أكثر من 400 مليار دولار “ضاعت” من الحسابات الحكومية، بهذه الطريقة، كما تم تهريب أكثر من 100 مليار دولار أخرى إلى الخارج، جزء كبير منها استقر في بريطانيا وكندا وبعض دول الاتحاد الأوروبي وتحول إلى عقارات يملكها “مناضلو” أحزاب العملية السياسية، بأسماء أقارب، أو على أساس جوازات سفر مزدوجة، أو بأسماء وهمية أيضا.

وجرت في أكتوبر الماضي انتخابات مبكرة، تحت وطأة الاحتجاجات الشعبية التي اندلعت في أكتوبر 2019، وتواصلت لنحو عام ونصف العام. ولكن الأحزاب المتنافسة في هذه الانتخابات كانت تضع عينها على ما تحقق من زيادة في العائدات النفطية. تقدم التيار الصدري صفوف الفائزين، فشعرت الأحزاب التابعة للحرس الثوري الإيراني بأنها فقدت الفرصة للسيطرة على هذه الاحتياطات، وتمسكت بإقامة حكومة “شراكة” لكي لا تخسر كل شيء.

ويقول المحللون إن الزيادة في العائدات النفطية هي التي تكشف سبب الشراسة منقطعة النظير بين هذه الأحزاب. وهي التي تفسر لماذا تعمدت جماعات الإطار التنسيقي تعطيل فرص التيار الصدري لتشكيل حكومة “أغلبية وطنية”، ولماذا أصبح الحوار معها من جانب التيار الصدري مرفوضا. كما أنها تفسر أيضا لماذا انقلب تحالف السيادة السني والحزب الديمقراطي الكردستاني على حليفهم مقتدى الصدر، وصاروا يدعمون فكرة تشكيل “حكومة كاملة الصلاحيات”.

فالحوار الذي يُجانب المغزى الحقيقي للتنافس، سوف يكون كلاما لا معنى له. بينما المقصود من “الحكومة كاملة الصلاحيات” هو أن تكون حكومة قادرة على الإنفاق من دون قيود. وينتظر السنة والأكراد “حصتهم” منها.

وبالتالي فإن أي حكومة مؤقتة، أو حكومة تصريف أعمال على غرار حكومة مصطفى الكاظمي، سوف تكون خاضعة لقيود، تملي عليها صرف الاستحقاقات الأساسية فقط، بينما أعمال “المشاريع” و”الشركات” و”العقود” الوهمية تتطلب حكومة قادرة على الإنفاق.

ويشير مراقبون إلى أن كل ما يتحدث عنه المتصارعون، قياسا بهذه المسألة، هو توريات وكلام لا يقصد معناه، ويتعمد إخفاء الهدف الحقيقي منه. وهو أمر يشمل جميع الأطراف.

وظلت أسعار النفط تزداد ارتفاعا منذ فبراير 2021 إلى يومنا هذا، وبلغت في بعض الأحيان 120 دولارا للبرميل، وهي تتراوح الآن بين 85 و100 دولار للبرميل. أو ما يعادل أكثر من ضعف تقديرات ميزانية العراق في مارس 2021.

وكشف البنك المركزي العراقي حديثا أن احتياطاته النقدية وصلت إلى 85 مليار دولار، وأنه من المتوقع أن تتجاوز 90 مليار دولار بحلول نهاية العام، وهو أكبر احتياطي نقدي حققه العراق منذ العام 2003. والسبب الرئيسي، إن لم يكن الوحيد، لتوفر هذا الاحتياطي، هو أن العراق ظل من دون حكومة “كاملة الصلاحيات” منذ انهيار حكومة عادل عبدالمهدي في نوفمبر 2019.

ويضيف المراقبون أن حكومة عادل عبدالمهدي التي دامت في السلطة عاما واحدا بعد حكومة حيدر العبادي، كانت تعاني عجزا في الميزانية. ولهذا السبب، فان استقالتها كانت أمرا مفهوما. فالبلاد كانت تقف على عتبة الإفلاس. ولو أنها كانت تملك احتياطات، فإن الأحزاب الموالية لإيران التي وقفت خلفها ما كانت لتدعها تسقط أو تستقيل.

ويقول البنك المركزي الآن أيضا إن احتياطاته من الذهب تجاوزت 130 طنا، بقيمة 7 مليارات دولار. ليصل العراق إلى المركز الثلاثين عالميًّا والرابع عربيًّا. وهذا يعني أن إجمالي الأموال المتاحة بالفعل يبلغ 92 مليار دولار. ويمكن لهذا الرقم، في غضون عام آخر، أن يتضاعف، إذا ما بقي العراق من دون “حكومة كاملة الصلاحيات”.

الزيادة في العائدات النفطية هي التي تكشف سبب الشراسة منقطعة النظير بين الأحزاب العراقية

ويكمن الوجه الحقيقي للنزاع بين الأطراف الشيعية المتنافسة، في السؤال التالي: من يُنفق هذه المليارات، وعلى ماذا؟

تقول جماعات الإطار التنسيقي إنها تريد إنشاء “حكومة خدمة وطنية”، وهذه عبارة عن “ترميز” يقصد إنفاق جانب من هذه الأموال على الخدمات التي لم تحصل على أي نصيب في ظل حكومتي نوري المالكي بين عامي 2006 و2014.

مئات المليارات التي “ضاعت” من الميزانيات الحكومية، في ذلك الوقت، يتوفر الآن ما يمكن أن يغطي عليها، بحيث يتاح لمنظومة الفساد، أن تظهر بوجه مختلف، وتعوض الخسائر الانتخابية التي تكبدتها في انتخابات أكتوبر الماضي. وجماعات الإطار التنسيقي تريد “حكومة كاملة الصلاحيات” لكي تتمكن من الإنفاق. لا حكومة مؤقتة أخرى، تعجز عن تمويل “المشاريع” المزيفة، و”الشركات” الوهمية و”العقود” الجديدة مع إيران.

ويقول مطلعون على خبايا الأمور إن تحالف السيادة السني الذي يقوده رئيس البرلمان محمد الحلبوسي، حصل على صفقة من مقتدى الصدر بتيسير الحصول على أموال لإنجاز بعض المشاريع وخاصة في مجالات إعادة الإعمار. وهو ما يمكن أن يدر على “أصحاب المصلحة” مئات الملايين من عقود العمل حتى ولو تم تنفيذها بالفعل. أما الحزب الديمقراطي الكردستاني فقد حصل على صفقة تقضي بتسديد كل ديون الحكومة المركزية لإقليم كردستان، وإعادة النظر في قانون النفط والغاز على نحو يضمن شراكة الإقليم ووزارة النفط في بغداد. ولهذا السبب فقد تمسك مسعود البارزاني بأن يحصل حزبه على منصب رئيس الجمهورية، لأنه يريد ضامنا في أعلى مراكز السلطة لتنفيذ ما تم الاتفاق عليه.

ويقول المراقبون إن مقتدى الصدر لا يريد أن يمنح جماعات الإطار التنسيقي ما يعتقد أنه فرصتها الوحيدة لكي تحاول الظهور بمظهر آخر من خلال المشاركة في حكومة جديدة. ولهذا السبب فإنه يركز على مكافحة الفساد وملاحقة المتورطين فيه. وهو يتمسك بحل البرلمان، لكي لا تقوم حكومة “كاملة الصلاحيات” بانتظار انتخابات جديدة، قد تجرى بعد عام.

ويبدو وجود هذه الحكومة نفسه، لهذه المدة المحدودة، من دون معنى، لأن وظيفتها الرئيسية ستكون إدارة العملية الانتخابية وتوفير مستلزماتها، وتسيير الشؤون العامة من دون أن تتورط في “مشاريع” كبرى. إلا أن جماعات الإطار التنسيقي، وحليفي الصدر السابقين، الحلبوسي والبرزاني، يعتقدون أنه حتى وإن عاشت هذه الحكومة عاما واحدا، فبوسعها أن ترسي من “المشاريع” و”العقود” ما يمكنه أن يُقيد يد الحكومة المقبلة كائنة ما كانت.

وليست ممانعة الصدر للحوار، وتمسكه بحل البرلمان ورفضه لتشكيل حكومة “كاملة الصلاحيات”، مجرد تعبير عن موقف عنيد أو متصلب أو بلا معنى. وذلك إذا ما أمكن النظر إليه من زاوية أن عشرات المليارات أصبحت جاهزة لكي “تضيع” بطريقة أو أخرى، أو بيد دون أخرى.

العراقيون يستطيعون أن يلاحظوا أن عدم وجود حكومة، من أي نوع، أنفع لخزانة الدولة. فالاحتياطات تتراكم على الأقل، حتى وإن لم يستفيدوا منها. وما إن تنشأ حكومة فإن هذا المال سوف يعود لـ”يختفي” من الحسابات كما اختفى غيره في العهود التي تولتها الأحزاب الموالية لإيران.

ويقول مراقبون إن المبلغ المتاح ما يزال بسيطا، قياسا بالـ400 مليار التي “ضاعت”، أو المئة مليار دولار التي ذهبت إلى “شركات” بريطانية وكندية ترسل معدات خردة، إلا أن العين تنظر إلى ما هو أبعد من المليارات المتاحة الآن. فأسعار النفط لن تتراجع في المدى المنظور، وفرص تمويل مشاريع الفساد زادت عن ضعفين.

العرب