على الرغم من أن النظام العالمي الذي تأسس في حقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية لا يزال سائداً، فإن النموذج الجيوسياسي الحالي مختلف اختلافاً جذرياً، مما يخلق تحدياً في حد ذاته وأسباباً للشقاق. فلقد أقامت أهم كتلتين بعد الحرب العالمية الثانية – الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي – “ميزان قوى” فيما بينهما، ورسمت كل منهما على نحو غير رسمي “مناطق نفوذ” لا ينبغي للأخرى تجاوزها. وفي عام 1823، اعتنقت الولايات المتحدة عقيدة مونرو، وأعلنت أنها لن تقبل أي عقائد منافسة في الأمريكيتين.
بيد أن “ميزان القوى” ليس ثابتاً، فحتى أقل التحولات قد تسفر عن تداعيات مباشرة، وأكبر دليل على ذلك هو تفكك الاتحاد السوفييتي. لذا اتجهت القوتان العظميان فيما بعد إلى تبني سياسات تكتيكية انتهازية تفاعلية، وبُني هذا التحول على أساس قراءتهما لموازين القوة القائمة، بل ولم تتورعا في بعض الأحيان عن اختبار مجالات نفوذ بعضهما البعض.
ولقد أعادت الأزمة الأوكرانية الأخيرة في كثير من النواحي الحرب الباردة ومفاهيمها إلى الساحة مرة أخرى. وعلى الرغم من أن الغزو العسكري الروسي كان انتهاكاً صارخاً وغير مقبول للقانون الدولي، فإن هذا الحدث المأساوي جاء بعد انتهاكات غربية مستمرة وغير مسؤولة لمجال نفوذ روسيا في الحرب الباردة. وأتذكر أن بوتين قد أخبرني شخصياً في فبراير 2014 أن الغرب قد عامله بطريقة مهينة، وأنه سيستعيد احترام العالم له. ويبدو أن ما حدث في أوكرانيا كان رد فعل تجاه سياسة الانعزال الأمريكية الملحوظة في أعقاب إخفاقات حربي العراق وأفغانستان، والشقاق والتردد الواضحين في أوروبا.
“ميزان المصالح”
لكي يمضي المجتمع قدماً، فهو بحاجة إلى التخلي عن مفهومي “ميزان القوى” و”مجالات النفوذ” مقابل تبني مفاهيم “ميزان المصالح” و “الضمير الجماعي”. وهذا ضروري للتعامل مع مشكلات القرن الحادي والعشرين العالمية والإقليمية. وعلينا القيام بنقلة نوعية، يتم فيها تقليل التهميش وعدم المساواة من أجل ترسيخ ممارسات أكثر إنصافاً وشمولية وتسامحاً. ومن الضروري أيضاً أن نعيد التركيز على “الصالح العام” لإحياء “الضمير الاجتماعي والمنظور الجماعي”، وهما أمران لا بد منهما لخلق نظام في ساحة عالمية وإقليمية دائمة التغير.
وتخطئ الأغلبية في الاعتقاد بأن هذا الوضع يمثل فجوة بين أنظمة الحكم “الديمقراطية” و”الاستبدادية”، فالأولى ليست قائمة بالكامل على القيم، والثانية لا تحيد بالضرورة عنها، كما لا يخلو النظامان من مفاهيم التفكير النقدي ولا الصالح العام. ولكن يكمن الاختلاف الرئيسي بينهما في مساحة ودرجة المنطقة الرمادية في طريقة تطبيقها وفي مدى إشراك شعوبهما في حوكمة مشتركة.
لذا فإن جميع أنظمة النظام العام من دون استثناء معرضة للانتقادات المحلية والإقليمية والدولية. وأعتقد أن السبب وراء ذلك هو أن من يشغلون مناصب السلطة في القطاع العام قد أصبحوا نخبويين، فصاروا يتجاهلون، بل ولا يحترمون، شريحة كبيرة من مجتمعاتهم التي يزداد شعورها بالتهميش يوماً بعد يوم، علاوة على تفشي ازدواجية المعايير، والرياء في بعض الأحيان، وفقدان جميع أنظمة الحكم تقريباً بالتالي لمصداقيتها.
لذا نحن بحاجة إلى مراجعة الأنظمة المحلية والإقليمية والعالمية وإعادة ضبطها لتتماشى مع هذا الوضع قبل أن يقضي تماماً على إيماننا بإمكانية وجود نظام عالمي. باختصار، فقدت الأنظمة العامة – الليبرالية منها وغير الليبرالية – “ضميرها الاجتماعي” فلقد فشلت في وضع أو إدارة أولويات عالمية وإقليمية تخدم مصالح الجميع. وهكذا تحتاج أنظمتنا إلى تجديد يدور حول مفهوم “القواسم المشتركة”.
لقد رأينا جميعاً كيف أخضع ميزان القوى البرجماتي والسياسي الواقعي القيم الاجتماعية لأهداف أصحاب النفوذ. ولقد تجلت ذروة غياب “الضمير الاجتماعي” عندما حاولت الجهات الفاعلة المشاركة في الحرب الباردة خلق الأمن من خلال حشد موارد ضخمة لضمان قدرتها على تدمير بعضها البعض في إطار مفاهيم عبثية – ولكنها معلنة ومنتشرة بشدة – بشأن الحرب الباردة، مثل مفهوم “التدمير المؤكد المتبادل”.
الضمير الاجتماعي العالمي
يثير تركز الثروات شكوكاً أكثر حول “الضمير الاجتماعي”، ففي الولايات المتحدة على سبيل المثال، تمتلك الشريحة الأغنى في البلاد، والتي تمثل 1٪ من السكان، ثروة أكبر مما تمتلكه الشريحة الدنيا والتي تمثل 90٪. وفي الوقت نفسه، عاش 10٪ من المجتمع الدولي تحت خط الفقر – البالغ 1.90 دولار أمريكي في اليوم – في عام 2015. ولا يزال هذا الوضع مستمراً حتى بعد أن رفعت العولمة أعداداً كبيرة فوق خط الفقر وخفضت نسبة من هم تحت خط الفقر، والذين كانت وصلت نسبتهم إلى 36٪ من سكان العالم. وتشير التقديرات إلى أن الجائحة الأخيرة دفعت بحوالي 40 إلى 60 مليون مواطن تحت خط الفقر البالغ 1.90 دولار أمريكي.
وفي هذا السياق، من المهم التأكيد على أن العولمة هي عملية تكامل وتفاعل غير رسمية بين الشعوب. لذلك، فإن إحدى خصائصها الرئيسية هي زيادة الترابط بين الاقتصادات العالمية والثقافات والسكان، ويحدث ذلك في الغالب في ظل تحكم محدود، وبالطبع غير حصري، من جانب الدولة. ولمّا أدركت الدول عجزها عن حل المشكلات بمفردها، أقامت معاهدات واتفاقيات ومنظمات دولية. وهكذا علينا اليوم أن نتبنى ثقافة دولية تعكس على نحو أكبر مفهوم “الضمير الاجتماعي” و”المنظور الجماعي” لتعامل أفضل مع الفرص والتحديات التي تقدمها العولمة.
والجدير بالذكر أن الأمم المتحدة – التي قامت من أجل حماية العالم من ويلات الحروب العالمية – قد أدخلت منذ البداية السياسة الواقعية والسياق الاجتماعي العالمي في إطار عملها. ويستهل ميثاق الأمم المتحدة بعبارة “نحن الشعب” لتحديد سياق وشكل أهداف الميثاق وأحكامه. وعلى الرغم من احترام الميثاق لسيادة الدول ولعدم التدخل في شؤونها الداخلية، فإنه يزخر بإشارات إلى “العمل الجماعي”، فكان “الضمير الاجتماعي” للمجتمع الدولي هو المنطلق لمعظم التشريعات التي أرست قواعد ومعايير الممارسات الدولية والتي ظهرت خلال العقود السبعة الماضية.
فلماذا إذن فقد المجتمع الدولي “ضميره الاجتماعي” على المستوى العالمي، وفي المجالات الإقليمية، وداخل الأنظمة المحلية المعنية؟ من المفارقات أن هذا الفقد كان في بعض الحالات نتيجة غير مقصودة لنجاح الفردية، فالكثير من التقدم الذي شهده القرن الماضي لم يكن ليحدث لولا عوامل مثل الدافع والتصميم والبراعة والإبداع، وهي العوامل التي تميز الأفراد والدول القومية الناجحة. بيد أن هذا التقدم قد جاء في كثير من الأحيان على حساب الدعوة إلى “العمل الجماعي”. لذا فإن إعادة التوازن بين العبقرية والإنتاجية للطموحات الفردية من ناحية وبين المصالح الجماعية من ناحية أخرى هي التحدي الأكبر الذي نواجهه، وهي التحدي الذي سيتطلب إجراء تغييرات مجتمعية.
وهناك سبب آخر وراء ذلك، وينقسم إلى شقين. أولاً، إن طول الفترة التي كان العالم فيها ثنائي القطب قد دفع أنصاره الأساسيين إلى افتراض أنهم اكتسبوا حقوقاً وأوضاعاً خاصة لا تتحقق سوى من خلال ميزان قوى مختل، فاعتنقوا بالتالي السياسة الواقعية دون قلب أو ضمير. ومع نمو المجتمع العالمي وانهيار ميزان القوى، سرعان ما انهار الفاعلون في النظام العالمي.
وغني عن القول إن القوى الكبرى في الحرب الباردة لن تبادر ولن تتحمس لاعتناق مفاهيم ومبادئ جديدة أو صعود فاعلين جدد لنظام عالمي جديد. لذا فإن المبادرة والمسؤولية هنا ستقع على عاتق جنوب العالم، وخصوصاً – ولكن ليس حصرياً – أصحاب الرؤى والأمم الناشئة.
وأنا أوصي كذلك بأن ينظم الأمين العام للأمم المتحدة نقاشات مع مجموعات من الأفراد بصفتهم الشخصية الفردية لتفادي أي منافسات حكومية أو أي بيروقراطيات، على أن يمتد مستوى هذه النقاشات وتكوينها وشكلها إلى ما هو أبعد من جلسات العصف الذهني التقليدية الروتينية التي كانت تُعقد في الماضي، مما يفسح المجال بحق لوجهات النظر التي تتعلق بالتحديات المستقبلية من دون تجاهل الوقائع الحالية، مع التركيز على العمل الجماعي والمصالح المشتركة على وجه الخصوص.
وما أن يتم وضع حزمة من المبادئ والأهداف والتدابير الخاصة بأفضل السبل لإحياء الضمير الاجتماعي الجماعي، يجب أن تكون هذه الحزمة محل جهد مكثف للدبلوماسية الهادئة، بتعاون كل من الهيئات الحكومية وصانعي الرأي، لخلق نقاش مجتمعي حول هذه القضايا. ثم تُطرح بعدها هذه الأفكار والمبادئ لاعتمادها على المستوى الجماعي أمام مجتمع الدول في الجمعية العامة للأمم المتحدة أو مجلس الأمن التابع لها، مع مناقشة قضايا الساعة على نحو أوسع وأعمق في الهيئات الدولية والإقليمية المعنية.
أعي أن سياسات نظام الدولة القومية اليوم تواجه تحديات جمة، ولكن لا يمكننا أن نتجنب الاضطلاع بجهود جادة وطموحة لإعادة تأسيس نظامنا المحلي والإقليمي والعالمي، ففي القرن الماضي، خلقت الخسائر المدمرة التي سببتها الحروب العالمية وعياً جماعياً يدفعنا للعمل كي لا يعيد التاريخ نفسه. أما ونحن الآن في القرن الحادي والعشرين، فقد حان الوقت لرفع تطلعاتنا إلى مستويات أعلى من أي وقت مضى من خلال الالتزام من جديد بالصالح العام الجماعي وأن نتشارك جميعا في ضمير اجتماعي راسخ.
المستقبل للدراسات