كانت سنة 2023 سنة مليئة بالتطورات الدراماتيكية في العالم ومن أهم هذه التطورات انفجار حرب أوكرانيا في فبراير (شباط) الماضي وهي لم تنته حتى الآن والسنة تشارف على نهايتها. هذه الحرب التهمت الآلتين العسكريتين لروسيا وأوكرانيا وابتلعت أيضاً ذخيرة حلف الناتو. وقد أدى هذا الصراع في حوالى تسعة أشهر لانقسام مجلس الأمن وانهيار قدرته علي فرض وقف إطلاق النار وإدارة مفاوضات من أجل الوصول إلى حل مقبول لهذه الحرب المدمرة. وأدت أيضاً إلى شبه انهيار للنظام الاقتصادي العالمي لا سيما في ما يتعلق بالطاقة حيث باتت أوروبا تبحث عن مصادر النفط والغاز لتواجه الشتاء القارص والقارات الاخرى، لا سيما أفريقيا والشرق الأوسط، تبحث عن الحبوب ومصادر التخزين الحيوي.
وإذا كانت هنالك من حالة حربية اقتربت من تهديد العالم بمواجهة نووية فهي الحرب الأوكرانية الروسية. ومعها سنعبر جميعنا إلى العام 2023 من دون أن نرى حلاً سريعاً ومباشراً لهذا الصراع وسوف يشكل استمرار حرب أوكرانيا في العام المقبل التحدي الأكبر على صعيد حل الصراعات ما بين الشرق والغرب. وقد أدت هذه المواجهة إلى تأثيرات كبيرة على قدرة الولايات المتحدة الأميركية وصورتها عالمياً. فكما كتبنا في الماضي فإن الانسحاب الدراماتيكي الكبير من أفغانستان والعودة المتسارعة إلى الاتفاق النووي الإيراني قد أدى لانقلاب في تقييم القوى الكبرى الأخرى من روسيا والصين وبعض الدول ككوريا الشمالية وإيران إلى إعاده تقييم النظرة لقوة أميركا، وربما قد يكتشف المؤرخون أنه في صلب قرار اجتياح أوكرانيا كان هناك شعور لدى هذه القوى بأن واشنطن لن تتدخل عسكرياً وبشكل مباشر ولن تنشر قواتها داخل أوكرانيا خاصة بعد أن انسحبت من أفغانستان وبهذه الطريقة وبالتالي دخلت القوات الروسية أراضي جارتها وقيادتها ربما تعتقد أنه في نهاية المطاف إن لم تحصل على كل كييف فهي سوف تحصل على المناطق التي تبغي السيطرة عليها وضمها ربما في شرق البلاد وجنوبها والقرم وتوسيع سواحلها في البحر الأسود. هذا بدون شك سوف يبقى التأثير الأكبر على الصعيد العسكري العالمي لهذا العام المنصرم.
التأثير على واشنطن
ولكن هذا التأثير على الولايات المتحدة سيكون له ارتدادات في مجالات أخرى منها داخلية ومنها خارجية. وستتأثر سياسة إدارة جو بايدن في الشرق الأوسط وهي أمامها الكثير من التحديات التي مررنا عليها وحللنا معظمها. إلا أن السياسة الخارجية الأميركية المعروفة باستمراريتها على صعيد المصالح، وأيضاً بتقلبها حسب من هو في البيت الأبيض، سوف تتأثر بثلاث عواصف آتية. عاصفتان داخليتان في الولايات المتحدة الأميركية سوف تؤثر على سياساتها بالعمق وعاصفة ثالثة ستنطلق من الشرق الأوسط وتؤثر على واشنطن وتضغط عليها. فما هي هذه العواصف الآتية؟
العاصفة الأولى: الكونغرس
العاصفة الأولى هي في نتائج انتخابات الكونغرس الأميركي وسيطرة الجمهوريين على مجلس النواب.
بالطبع كانت القيادة الجمهورية تتمنى الحصول على سيطرة كاملة على الكونغرس أي أن يكون لها أكثرية في مجلس الشيوخ أيضاً. ولكن هذه المؤسسة ما لم يحدث أي تطور دستوري ستبقى بين أيدي الديمقراطيين ولكن بفارق صوت واحد. وقد يحتاج الديمقراطيون إلى نائبة الرئيس لكي يمرروا كل مشروع يطرحونه الآن. إلا أن التطورات الداخلية الأميركية قد تأتي بمفاجأة في العامين القادمين. ففي الأسبوع الماضي انتقلت عضو مجلس الشيوخ عن أريزونا كريستين سينما من الحزب الديمقراطي إلى لائحة المستقلين بما سوف يؤثرعلى الأكثرية الديمقراطية المطلقة ويضعفها لكن من دون أن يلغيها. وقد تحصل مفاجآت أخرى مثل احتمال انتقال سيناتور ديمقراطي آخر إلى موقع مستقل. فالأكثرية الديمقراطية الحالية هي ركيكة وقد تجبر حزبها على التفاوض بما يتعلق بالسياسة الخارجية، بما في ذلك بالشرق الأوسط.
ولذلك العاصفة الكبرى الدستورية في واشنطن هي سيطرة الجمهوريين وأكثريتهم من أنصار الرئيس السابق دونالد ترمب على مجلس النواب. ويعني ذلك أن رؤساء اللجان لا سيما الخارجية والدفاع والأمن سوف يعملون على التأثيرعلى سياسة إدارة بايدن في ما يتعلق بالشرق الأوسط. وكنا قد كتبنا في الأسبوع الماضي عن الملفات التي سوف تتأثر وأهمها ملف الاتفاق النووي الإيراني. فالسياسة الأميركية تجاه النظام الإيراني في 2023 سوف تكون تحدياً كبيراً حيث سيواجه الجمهوريون سياسة بايدن الشرق أوسطية ولا سيما تجاه إيران. وفي نفس الوقت سوف يسعون لإصلاح هذه السياسة كذلك تجاه إسرائيل والتحالف العربي. وسوف تفتح ملفات هذه السياسة في مجلس النواب وجزئياً في مجلس الشيوخ مما سوف يلزم البيت الأبيض بأن يعدل بعض سياساته وليس كلها في العامين القادمين وقد يحرمها من الحصول على دعم أو تصويت في الكونغرس للتوقيع على الاتفاق النووي الإيراني. هذه العاصفة سوف تكون مثيلة للعاصفة التي شنها الديمقراطيون على إداره ترمب في سنوات حكمه الأربعة ولا سيما في السنتين الأخيرتين، فها هو الدولاب تدور عجلته وسيتمكن مجلس النواب من إطلاق جلسات استماع ومن أن يطلع على ميزانيات السياسات الأميركية المختلفة تجاه أطراف المنطقة. فالمجلس بإمكانه أن يساعد من يريد ويلغي مساعدات من يريد. ولكن ذلك هذا لن يعني أن هذه العاصفة سوف تغير كل السياسة الأميركية في المنطقة ولكن السياسة الأميركية القائمة سوف تتغير إلى حد معين.
العاصفة الثانية: انقلاب تويتر
مع استلام إيلون ماسك لمنصة تويتر هذا الخريف ومع خروج ملفات تويتر السرية “Twitter Files” التي تتهم إداره بايدن منذ 2021 والمعارضة السابقة بقيادة باراك أوباما خلال فترة ترمب بأنها تدخلت في الانتخابات الرئاسية في عام 2020، سيكون لهذه الملفات نتائج سياسية عميقة في المجتمع الأميركي وسوف تزيد الانقسامات الداخلية وقد تؤدي إلى زعزعة استقرار سياسة بايدن على الصعيد الداخلي وطبعاً على الصعيد الخارجي بما في ذلك بالشرق الأوسط. ومن أهم الملفات التي سوف تتأثر بسيطرة ماسك على منصة تويتر خارجياً هو موضوع إيران حيث أنه بات من الملاحظ أن المعارضة الإيرانية باتت فاعلة في التغريد لقضيتها الآن بشكل أكبر بكثير مما كان عليه الأمر منذ 2009، وتتقاطع أسباب ذلك. فإيلون ماسك هو أول من أهدى الشعب الإيراني ولو بشكل محدود تغطية للإنترنت عبر شركة StarLink لمساعدة المحتجين الإيرانيين للتواصل بين بعضهم والتعبير عن نفسهم وعما يجري في الداخل للعالم الخارجي مما كان له ولا يزال تأثيراً في أوروبا وفي أميركا الشمالية. ولكن الأهم أن المنصة أعطت قوة كبيرة للمعارضة الإيرانية، وهي تعارض الاتفاق النووي، وحضوراً كبيراً جداً في تويتر. فإدارة ماسك قد أنهت “الفيتوهات” التي كانت موضوعة على كل من كان يعارض الاتفاق النووي الإيراني لسنوات وبالتالي فإن المجموعات الإيرانية الأميركية والأوروبية وتلك العاملة ضمن إيران بات حضورها أكبر بعشرة أضعاف مما كان عليه قبل قدوم إيلون ماسك إلى الساحة. وهذا بالطبع أثر وسوف يؤثر على الرأي العام الأميركي الذي وجد وسيلة لتعبئة الرأي العام والفنانين والنواب فبات يضغط على البيت الأبيض مباشرة مما سيزيد صعوبة تمرير الاتفاق النووي عبر الكونغرس لا بل عبر المباركة الشعبية.
العاصفة الثالثه: الثورة الإيرانية
هذه العاضفة تاتي عملياً من إيران نفسها. فمع استمرار المظاهرات وتمدد الانتفاضة الشاملة داخل الحدود الإيرانية والتعبير الذي تتمتع به الآن وقدرتها على المقاومة لأشهر طويلة قد خلق موجة تأييد في الغرب بشكل عام وفي أوروبا وأميركا بشكل خاص. فتأثير اللوبي الإيراني على مراكز القرار في بروكسل وواشنطن بات يضعف مع توسع الاحتجاجاتفي الداخل. فمع أن للنظام قوة قمعية فتاكة فيبدو أن المنتفضين قد وصلوا إلى حد إطلاق ثورة إيرانية ليست عائدة إلى الوراء مما ينذر بأن الثوره داخل إيران سوف تكون بنفسها عاملاً كبيراً للتأثير على الرأي العام الأميركي وبدوره يضغط على السياسة الخارجية تجاه المنطقة.
الخلاصة
العواصف الثلاث، تغيير الأكثرية في مجلس النواب الأميركي وقدوم إيلون ماسك إلى الساحة السياسية عبر تويتر والثورة داخل إيران، هي مثلث سوف يخلق بركاناً سياسياً وبالتالي يشكل تحدياً لتقدم السياسة الحالية عبر الضغط عليها وربما إجبارها على تغيير ما، لا نعرف إلى أي مدى سوف تتغير أو كيف سوف يرد اللوبي الإيراني على هذه العواصف. ولكن ما وصلنا إليه الآن في السياسة الأميركية تجاه الشرق الأوسط لم ير له مثيل في السنوات الماضية. فتقاطع الثورة الإيرانية والثورة التويترية وثورة مجلس النواب الآتية هو عنوان المرحلة الجديدة التي سوف تؤثر على واشنطن في العامين القادمين.
اندبندت عربي