في الرابع من الشهر الجاري أعلن المدعي العام في إيران محمد جعفر منتظري، (أن الجهات التي أنشأت منظومة شرطة الأخلاق، اتخذت قرارا مبدئيا بوقف عملها). وأضاف أن قانون فرض الحجاب ستتم مراجعته من قبل مجلس الشورى والسلطة القضائية. فما هي شرطة الأخلاق؟
تأسست شرطة الأخلاق في إيران إبان تولي الرئيس الأسبق أحمدي نجاد السلطة عام 2005. ولأنه كان محسوبا على التيار المتشدد، فقد كان يرى أن الرؤساء الذين سبقوه، فرّطوا في قضية مراقبة أخلاقيات المجتمع لأنهم من التيار الإصلاحي. وعليه فقد سعى لعكس تلك التوجهات، من خلال إنشاء شرطة الأخلاق، وهي تشكيل شبه عسكري أفراده من الذكور المتشددين دينيا. وقد شرعت هذه المنظومة في فرض قانون الحجاب على النساء والفتيات الإيرانيات في الأماكن العامة. كما أنها مارست التحذير والاعتقال وفرض الغرامات بحق من يخالف المنظومة القيمية للنظام.
ما تجدر الإشارة إليه، أنه منذ بداية الثورة في إيران عام 1979، كان الخميني قد دعا إلى أن يكون ارتداء الحجاب إلزاميا على كل النساء العاملات في دوائر الدولة، ثم أصبح واجبا في عام 1983. ويبدو أن هذا الموضوع يجري التركيز عليه كلما يتولى السلطة رئيس من التيار المتشدد، كان آخرهم الرئيس الحالي إبراهيم رئيسي، الذي أعلن في تموز/ يوليو الماضي ضرورة تطبيق ارتداء الحجاب في كل مؤسسات الدولة والمجتمع. فهل قرار وقف عمل شرطة الأخلاق في ظل رئيس متشدد يعني تغييرا في عقيدة النظام؟ يبدو أن الاحتجاجات الشعبية التي انطلقت أثر وفاة الفتاة الإيرانية مهسا أميني، في أيلول/ سبتمبر الماضي في أحد مراكز شرطة الأخلاق، بعد اتهامها بعدم الالتزام بالحجاب، قد وضعت السلطات الإيرانية أمام خيار مُرّ وهو الاستغناء عن هذه المنظومة، على الرغم من أن بُنيتها مرتبطة ارتباطا وثيقا بعقيدة النظام ومنظومته القيمية، إلا أن خطورة الوضع أجبرت صانع القرار على التضحية بجزء من الكل، بعد أن لم تنفع وسائل العنف في إيقاف مسيرة الاحتجاجات، كما ساد فهم لدى السلطات بأن ما يجري في الشارع هو استهداف لقيم وأفكار النظام، وبالتالي لا بد من إغراء المحتجين بقرارات تجعلهم يشعرون وكأنّ هنالك استجابة لمطاليبهم، علّها تنزع شيئا من حماستهم فيتوقفون عند هذا الحد من الاحتجاج. لكن لا يبدو أن هذا الفعل سيكون له وقع إيجابي لدى المحتجين. فموضوع الحجاب ليس هو كل المطالب، حسب الشعارات المرفوعة، لقد باتت الجماهير اليوم تطالب بسقوط النظام والمرشد، ولم يعد لباس المرأة هو المشكل. كما انتظمت قطاعات واسعة في التظاهرات مثل نقابات المهندسين والأطباء والمدرسين وغيرها، حتى المنتخب الإيراني لكرة القدم، قدّم مشاركة في التضامن مع المحتجين، عندما لم يرددوا النشيد الوطني في مونديال قطر، بل إن الإصلاحيين الذين حاولت الحكومة حثهم للتدخل كوسيط بين السلطات والمحتجين، لم يستجيبوا لهذا الأمر، لذلك فإن تجميد شرطة الأخلاق لم يعد هو الحل، بل هو فقط خطوة غير مقنعة في إسكات صوت المحتجين، وأنه جاء بعد سقوط 200 قتيل اعترفت السلطات بهم، في حين أن مصادر أخرى تقول إن العدد أكثر من ذلك بكثير، فهل سينزع هذا القرار فتيل الاحتجاجات؟
هناك عطب بنيوي في أسس النظام السياسي الإيراني لن تصلحه قرارات ترقيعية، بل يتطلب تغييرات جذرية تتعلق بنهج وعقيدة النظام، وأسلوب تعامله مع الشعب
يبدو أن المشكل بين السلطات الإيرانية والشعب، لم يعد يخص مطالب بسيطة يمكن حلها بقرار هنا وقرار هناك. فهنالك استحقاقات كبيرة على الحكومة الإيرانية. كما أن الاحتجاجات الحالية ليست هي الجولة الأولى، بل هي حلقة في سلسلة ممتدة منذ عام 2009 وحتى اليوم. إذن هذا يعطي فكرة في أن هناك عطبا بنيويا في أسس النظام السياسي لن تصلحه قرارات ترقيعية، بل يتطلب تغييرات جذرية تتعلق بنهج وعقيدة النظام، وأسلوب تعامله مع الشعب، خاصة فئة الشباب. كما يجب أن يترافق ذلك مع إصلاحات اقتصادية تنقذ الناس من الفاقة والبطالة والفقر، فالحالة الاقتصادية السيئة ليس سببها العقوبات الأمريكية فقط، بل الفساد والتعدي على المال العام، وسوء الإدارة، وبذل الأموال في ساحات مجاورة من أجل تأسيس ميليشيات أيضا. وأن إصلاح الوضع الاقتصادي في ظل الظرف الحالي صعب جدا، لأن النظام في حالة مواجهة مع الولايات المتحدة والغرب، خاصة بعد اتجاهه للتنسيق الاستراتيجي مع روسيا والتوجه نحو الصين، وتعثر مفاوضات الاتفاق النووي. كل هذا جعل بعض المراقبين يقولون، بأن واقع الحراك الشعبي الذي يستهدف قيم وأفكار النظام سيكون عامل ضغط يلقي ثقله على هياكل النظام. وعندما يترافق كل ذلك مع استثمار أمريكي وغربي في الاحتجاجات، للضغط على السلطات الإيرانية بالعقوبات وبمزيد من العزلة الدولية، فإن هذه السلطات ستلجأ لاتخاذ مزيد من القرارات، من أجل استيعاب حالة الغضب داخل المجتمع الإيراني.
لكن التراكمات السلبية التي خلفتها أكثر من أربعة عقود حكم بهذا المنهج، من دون أن يبذل النظام أدنى جهد لتطوير أساليبه ووسائله وتوجهاته وعلاقاته بالمجتمع، أدت إلى قطع التواصل بين الأعلى والأدنى، واهتز عامل الثقة بشكل كبير، وحصل شرخ واسع في العلاقة بين الشعب والسلطة. كما أن وظيفة حُرّاس الدين التي تدعيها السلطات الحاكمة، لم تعد قابلة للتصديق، في ضوء الممارسات السلبية والقتل والفساد والتعذيب، ما أدى إلى أن تفقد القيادة الإيرانية مشروعية كبيرة جدا لدى قطاعات واسعة من المجتمع، خاصة فئة الشباب التي تشكل الغالبية العظمى من المجتمع الإيراني، لذلك فإن كرة النار التي تقذف بها هذه الاحتجاجات لا تزال تكبر وتتدحرج رغم التضحيات الكبيرة، فقد أجملت منظمات حقوقية حصيلة ضحايا الاحتجاجات بأكثر من 416 قتيلا، منذ اندلاع الاحتجاجات في 16 سبتمبر الماضي، من بينهم 51 طفلا و27 امرأة. إن أصرار النظام على عدم تقديم تنازلات حقيقية وليست مظهرية، إنما يعود إلى أن القيادة الإيرانية بمن فيها المرشد الأعلى، لديهم اعتقاد راسخ بأن الاحتجاجات هي جزء لا يتجزأ من محاولة الغرب والولايات المتحدة لتقويض النظام، في حين أنها احتجاجات شعبية من تحت إلى فوق، وتعبر عن مطالب الملايين من الشباب الإيراني، فهذه الفئة تريد التخلص من النهج القائم الآن والمستمر منذ أكثر من أربعين عاما. فلم تعد فلسفة النظام وتوجهاته الداخلية والخارجية مدعومة اجتماعيا. كما نشأ وضع اجتماعي لم يعد مقبولا من قبل الغالبية من الشعب الإيراني. وإذا كانت القيادة الإيرانية تعتقد أن سياسة اليد الحديدية قادرة على فض هذه الاحتجاجات، فيقينا أن هناك احتجاجات أخرى مقبلة، ما دامت الظروف الداخلية والخارجية كما هي.
إن لقاء المرشد الأعلى الإيراني قبل بضعة أسابيع بحشد من قوات الباسيج، ووصفه المتظاهرين بأنهم جهلة وحفنة من المرتزقة، يعطي دليلا واضحا على أن صانع القرار في طهران ما زال يفتقد ميزة التفكير السليم، من خلال إصراره على عدم صياغة استراتيجية جديدة تحترم إرادة وتوجهات الشباب الإيراني، وتوفير الحياة الحرة الكريمة لهم ولطبقات المجتمع كافة.
القدس العربي