تعكس القمة الصينية الروسية الأخيرة عبر الإنترنت الجهود المنسقة بين البلدين في مواجهة الولايات المتحدة وفي جزء بارز منها مقاومة سلاح العقوبات الأميركي، الذي يعد السلاح الدبلوماسي المفضل لواشنطن.
أميركا استخدمت ذلك السلاح آلاف المرات في أزمنة مختلفة وصولاً إلى العقوبات الأخيرة ضد روسيا، وقبلها خلال الحرب التجارية مع بكين، التي تمتد الآن إلى حظر الصادرات التكنولوجية المتقدمة كأشباه الموصلات،
لكن فيما يحذر البعض من أن العصر الذهبي للعقوبات الأميركية يوشك على الانتهاء مع تزايد إجراءات مقاومة العقوبات من قبل خصوم وأعداء واشنطن، يعتقد آخرون أن نهاية هيمنة الدولار ليست وشيكة، وأن أميركا ستواصل بنجاح استخدام هذا السلاح لسنوات أخرى مقبلة، تبدأ بعقوبات جديدة تشمل روسيا والصين وإيران عام 2023.
هراوة أميركية
وعلى رغم التحذيرات المتصاعدة في الولايات المتحدة، التي تصف العقوبات الاقتصادية بأنها سلاح ذو حدين، يمكن أن يساعد أميركا على تحقيق أهدافها السياسة على المدى القصير، لكن في الوقت ذاته فإن توسيع نطاقه يمكن على مدى زمني بعيد أن يعرض النفوذ المالي للولايات المتحدة للخطر.
وظلت الإدارات الأميركية المتعاقبة تستخدم هذا السلاح بكثافة، فالعقوبات الاقتصادية جذابة باعتبارها هراوة أكثر حدة من الدبلوماسية وألطف من العمل العسكري، ومناسبة للتأثير في الناس، ليس من خلال توجيه ضربات مؤلمة، وإنما من خلال التهديد بتقييد تدفق أموالهم.
ومنذ أحداث 11 سبتمبر (أيلول) 2001، حولت الولايات المتحدة الدولار إلى أداة رئيسة للأمن القومي للبلاد، حيث فصلت وزارتي الخزانة والخارجية عشرات الآلاف من العقوبات ضد الأشخاص والكيانات والدول، فيما يقدم مجلس الاحتياط الفيدرالي، وهو البنك المركزي في الولايات المتحدة، خدمات مصرفية ومالية لأكثر من 180 بنكاً مركزياً أجنبياً حول العالم، بما يمكنه من توفير السيولة المالية والنقدية خلال الأزمات، ويجعل الحسابات المصرفية مصدراً يسمح للاستخبارات المالية بمتابعة المنافسين الاستراتيجيين لأميركا.
عقوبات مستمرة في 2023
غير أن الولايات المتحدة أصبحت تدرك بشكل متسارع أن العقوبات الأميركية على رغم أهميتها واتساعها، قد لا تكون كافية وحدها لتحقيق أهدافها بالكامل، ولهذا كانت حريصة على تشكيل تحالف غربي في تنفيذ العقوبات ضد روسيا وإيران على وجه الخصوص.
ووفقاً لدراسة نشرها المجلس الأطلسي في واشنطن، لا تزال روسيا هي الهدف الأول للعقوبات الأميركية والغربية، فقد حددت الولايات المتحدة في الخريف الماضي وحده 374 عقوبة، وكندا 156، وبريطانيا 95 والاتحاد الأوروبي 44 وسويسرا 42 وأستراليا 28، في حين احتلت إيران الهدف الثاني للعقوبات من الولايات المتحدة وحلفائها، حيث فرضت أميركا 28 عقوبة وكندا 64 وبريطانيا ثماني، والاتحاد الأوروبي 15 عقوبة.
وإذا فرضت الدول الغربية عقوبات بالحجم الذي فعلته طوال عام 2022، فستصل العقوبات إلى أكثر من 36500، وطالما تواصلت الحرب في أوكرانيا ستستمر العقوبات التي منعت روسيا من الوصول إلى تكنولوجيا المعلومات والهندسة والخدمات الرئيسة الأخرى، التي تستهدف وقف التقدم التكنولوجي لموسكو، حيث أدت ضوابط التصدير المتعددة الأطراف إلى انخفاض بنسبة 70 في المئة بواردات أشباه الموصلات إلى روسيا.
وبالنسبة إلى إيران أصبح احتمال التوصل إلى اتفاق نووي أضعف بكثير عما كانت الحال عليه في منتصف العام الماضي بسبب انخراط الحكومة الإيرانية في انتهاكات حقوق الإنسان وقمع التظاهرات وتزويد روسيا بطائرات الدرون.
ضوابط التصدير للصين
أما الصين، فمن المرجح ألا تختار الولايات المتحدة العقوبات المالية كأداة مواجهة اقتصادية رئيسة، لكنها ستستمر في استخدام ضوابط التصدير.
ومن المتوقع أن تنشئ سلطة جديدة لفحص الاستثمار الخارجي إلى بكين، وتهدف ضوابط التصدير الجديدة على الذكاء الاصطناعي إلى قطع صادرات أشباه الموصلات المتقدمة للغاية إلى الصين.
وتحتكر الولايات المتحدة وحلفاؤها تقريباً إنتاج أشباه الموصلات المتقدمة، ما يجعل ضوابط التصدير أداة فعالة لحرمان دول مثل روسيا والصين من أحدث الرقائق التكنولوجية.
وعلى عكس معظم العقوبات وضوابط التصدير التي تتطلب امتثال الأميركيين، تم تطبيق قاعدة المنتجات الأجنبية المباشرة، التي تلزم الشركات خارج الولايات المتحدة الحصول على ترخيص قبل تصدير أشباه الموصلات المتطورة إلى الصين حال استخدامها برامج أو أجهزة أميركية في عملية الإنتاج.
وتعد آثار قاعدة المنتجات الأجنبية المباشرة مهمة للتقدم التكنولوجي في الصين، لأن البرامج الأميركية يميل معظم مصنعي أشباه الموصلات حول العالم إلى استخدامها، ولهذا فإن فرض ضوابط تصدير الذكاء الاصطناعي تعد أكبر تصعيد في الإجراءات القسرية ضد الصين منذ الحرب التجارية عام 2020.
لماذا يهيمن الدولار؟
وفقاً لصندوق النقد الدولي، وصل الدولار الأميركي إلى أعلى مستوى له منذ عام 2000، بعد أن ارتفع بنسبة 22 في المئة مقابل الين، و13 في المئة مقابل اليورو وستة في المئة مقابل عملات الأسواق الناشئة منذ بداية عام 2022، نظراً لهيمنة الدولار على التجارة والتمويل الدوليين.
وفي حين أن حصة الولايات المتحدة في الصادرات السلعية العالمية انخفضت من 12 في المئة إلى ثمانية في المئة منذ عام 2000، فقد ظلت حصة الدولار في الصادرات العالمية تمثل 40 في المئة.
وعلاوة على ذلك، فإن نصف جميع القروض وسندات الدين الدولية مقومة بالدولار، وعلى رغم نجاح بعض حكومات الأسواق الناشئة في إصدار الديون بعملتها الخاصة، إلا أن الشركات الخاصة لديها مستويات عالية من الديون المقومة بالدولار، ومع ذلك أدى ارتفاع أسعار الفائدة العالمية، وقوة الدولار إلى تفاقم هذه الضغوط المالية، خصوصاً بالنسبة إلى بعض الأسواق الناشئة وعديد من البلدان منخفضة الدخل المعرضة بالفعل لخطر كبير من ضائقة الديون، ما يدفعها إلى محاولة البحث عن بدائل.
هل تهدد العقوبات هيمنة الدولار؟
تقول كارلا نورلوف في بحث قدمته أخيراً خلال منتدى فرانكفورت، إن كثيراً من المراقبين والمحللين يعتقدون أن الدور الدولي للدولار كان يعود جزئياً للدور الجيوسياسي للولايات المتحدة، خصوصاً خلال سنوات الحرب الباردة، وعندما تبدد تهديد الاتحاد السوفياتي في أوائل التسعينيات، اعتقد البعض أن الاحتفاظ بالدولار يتجاوز جاذبيته الاقتصادية.
ومع إطلاق اليورو عام 2002، وإنشاء بديل احتياطي قابل للتطبيق، بما يمكن من إعادة تقييم الاحتياطيات بالدولار، بدأت المخاوف من انهيار الدولار في الظهور على السطح، ومع ذلك ظل الدولار قوياً.
واليوم، عادت هذه الهواجس مع رغبة خصوم الولايات المتحدة غير الراضين عن النظام الدولي الحالي في التحرر من هيمنة الدولار عبر إيجاد بدائل اقتصادية للنظام الاقتصادي الذي يقوده الغرب، خصوصاً مع لجوء الدول الغربية، لا سيما الولايات المتحدة وأوروبا بشكل متزايد للعقوبات المالية كوسيلة للحفاظ على النظام الدولي.
وحتى الآن، لم تبتعد غالبية الدول عن العملات الغربية إلى حد كبير بعد الهجوم الروسي على أوكرانيا عام 2022، ويكاد يكون من المفاجئ أن مالكي الاحتياطات المقومة بالدولار لم يتخلوا عن جلب المزيد، كما أن غالبية مصدري النفط سيزيدون من احتياطاتهم الدولارية لأنهم يبيعون هذه السلعة المربحة مقابل الدولار، على رغم أن التطورات جارية لتجاوز الدولار واليورو، حيث زادت حيازات الدول من العملة الصينية بنسبة 6.2 في المئة.
ومع ذلك لن يؤدي الاستخدام الأكبر للرنمينبي الصيني، ومزيد من العملات الصغيرة، إلى وضع حد لنظام العملة المركزي الغربي، طالما حافظت الولايات المتحدة على اقتصاد قوي وأسواق مفتوحة وعلاقات متينة مع الحلفاء، وإذا فشلت في ذلك، فقد يؤدي هذا إلى تسريع الانزلاق بعيداً من القطبية الأحادية للدولار، ويعزز الاتجاه طويل المدى للتحول بعيداً من الدولار.
مقاومة العقوبات
غير أن أجاث دماريس، وهو مدير التنبؤ العالمي في “إيكونوميست إنتيليجينس”، يتوقع ازدياد تيار مقاومة العقوبات بصرف النظر عما يمكن أن تقوم به الولايات المتحدة والغرب، لأنه من المنطقي أن يسعى خصوم الولايات المتحدة إلى ابتكارات مالية تقلل من الميزات التي تتمتع بها الولايات المتحدة وتعقد اتفاقات لمبادلة العملات، وتبحث عن بدائل لنظام “سويفت” للتعاملات بين البنوك، وإصدار العملات الرقمية الخاصة بها.
ويشير دماريس، في مقالة نشرها موقع “فورين أفيرز” إلى بعض الطرق التي جعلت البلدان أكثر مقاومة للعقوبات، وعلى رأسها مقايضات العملات الثنائية، التي تسمح لها بتجاوز الدولار، حيث تربط صفقات مقايضة العملات البنوك المركزية مباشرة ببعضها بعضاً، مما يلغي الحاجة إلى استخدام عملة ثالثة للتداول.
وتبنت الصين هذه الأداة بحماسة شديدة، حيث وقعت اتفاقات مبادلة العملات مع أكثر من 60 دولة، بما في ذلك الأرجنتين وباكستان وروسيا وجنوب أفريقيا وكوريا الجنوبية وتركيا والإمارات، بقيمة إجمالية تقارب 500 مليار دولار، وهي تستهدف تمكين الشركات الصينية من الالتفاف على القنوات المالية الأميركية عندما تريد ذلك.
تطوير البدائل
في عام 2020، قامت الصين لأول مرة بتسوية أكثر من نصف تجارتها مع روسيا بعملة أخرى غير الدولار الأميركي، مما جعل غالبية هذه التبادلات التجارية محصنة ضد العقوبات الأميركية، كما طورت روسيا والصين قنوات الدفع باستخدام الرنمينبي والروبل لجعل المدفوعات بالعملات المحلية في محاولة للتحايل على الدولار والعقوبات الأميركية.
واستخدمت روسيا النهج نفسه مع الهند حليفة واشنطن عندما باعتها صواريخ “أس 400” للدفاع الجوي، حيث كان من المفترض أن تؤدي الصفقة البالغة خمسة مليارات دولار إلى فرض عقوبات أميركية، لكن الهند وروسيا أعادا إحياء اتفاقية مبادلة العملات التي يعود تاريخها إلى الحقبة السوفياتية، واشترت الهند الصواريخ الروسية باستخدام مزيج من الروبل والروبية الهندية، بالتالي تجنب العقوبات الأميركية التي كان من الممكن استخدامها لوقف البيع.
بديل “سويفت”
هناك طريقة أخرى أثبتت بها الدول قدرتها على تطوير أنظمة دفع غير غربية كي تكون في مأمن من العقوبات، بخاصة نظام “سويفت”، الذي استخدمته واشنطن مرة واحدة فقط ضد إيران، فقد ابتكرت بكين نظاماً للدفع الدولي بين البنوك، ليس مطابقاً لنظام “سويفت” حتى الآن، لكن في عام 2021، عالج نظام الدفع المقوم بالرنمينبي بين البنوك ما يعادل 12 تريليون دولار في المعاملات، وهو ما يوازي ما تقوم به “سويفت” في أقل من ثلاثة أيام كونها تعد جزءاً لا يتجزأ من الشبكات المالية العالمية، ومن غير المرجح أن تتخلى المؤسسات المالية عن نظام يعمل لصالح نظام جديد.
لكن وجود نظام الدفع الصيني الدولي بين البنوك هو انتصار لموسكو وبكين كبديل عملي لـ”سويفت”، لأن ما يهم روسيا والصين هو أن نحو 1300 بنك في أكثر من 100 دولة قد انضموا إلى الإطار، بالتالي إذا قطعت كل من روسيا والصين عن نظام “سويفت”، فإن دعمهما جاهز، كما أن بكين قد تجبر يوماً ما الشركات التي ترغب في الوصول إلى السوق الصينية على استخدام نظام الدفع الصيني الدولي بين البنوك، تماماً كما يمكن للولايات المتحدة أن تعزل البلدان عن المدفوعات المقومة بالدولار ومن الاقتصاد الأميركي.
العملة الرقمية
أما الأداة الثالثة، التي يستخدمها خصوم الولايات المتحدة للإفلات من العقوبات هي العملة الرقمية، إذ يستخدم نحو 300 مليون صيني بالفعل الرنمينبي الرقمي في أكثر من 20 مدينة، بما في ذلك بكين وشنغهاي ويصدر هذه العملة الرقمية البنك المركزي الصيني وتخزن على الهواتف المحمولة للمواطنين الصينيين، حيث كانت دورة الألعاب الأولمبية الشتوية لعام 2022 في بكين ساحة اختبار للعملة الجديدة.
وتراهن الصين على أن الرنمينبي الرقمي سيجذب المستخدمين في جميع أنحاء العالم، ففي عام 2021، أطلقت بكين شراكات مع الإمارات وتايلاند لتسوية الصادرات بالرنمينبي الرقمي، وبالنظر إلى أن الصين هي الشريك التجاري الأكبر لمعظم البلدان، فمن المحتمل أن تتبعها صفقات أخرى من هذا القبيل.
وليس لدى الولايات المتحدة طريقة لتقييد استخدام عملة افتراضية صادرة عن البنك المركزي لدولة أخرى، حتى مع عدم إخفاء البنك المركزي الصيني رغبته في أن يتحدى الرنمينبي الرقمي هيمنة الدولار الأميركي.
طريق طويل
لكن الطريق أمام الرنمينبي الرقمي ما زال طويلاً، حيث يعد ظاهرة عالمية ثانوية، حتى لو كان يكتسب زخماً، إذ إن التباطؤ الاقتصادي الأخير في الصين، إلى جانب الافتقار إلى قابلية تحويل الرنمينبي، يقلل من جاذبية البلاد للمستثمرين، خصوصاً أن التوقعات بأن الصين ستحل محل الولايات المتحدة كأكبر اقتصاد في العالم خلال العقد الثالث من القرن الحالي لم تعد مؤكدة بشكل مطلق.
علاوة على ذلك، لن يكون لاتفاقات تبادل العملات وأنظمة الدفع البديلة والعملات الرقمية تأثير كبير في فاعلية العقوبات الأميركية، لكن هذه البدائل مجتمعة تمنح البلدان بشكل متزايد القدرة على إجراء المعاملات من خلال قنوات مقاومة للعقوبات، وهو اتجاه يبدو أنه سيتواصل، إذ لا يوجد سبب للاعتقاد أن العلاقات بين واشنطن وبكين أو واشنطن وموسكو ستتحسن في أي وقت قريب، بل إن السيناريو الأكثر ترجيحاً هو أن الأمور تزداد سوءاً، مما يدفع بكين وموسكو إلى مضاعفة جهودهما في منع العقوبات.
وإضافة إلى محاولة تقويض فاعلية العقوبات، فإن ظهور القنوات المالية المقاومة للعقوبات يعني أن الولايات المتحدة ستكون لديها مناطق خفية عندما يتعلق الأمر بالكشف عن الأنشطة العالمية غير المشروعة، إذ يعد تتبع المعاملات المالية ذات السمات المشبوهة أو التي تأتي من بلدان معينة أمراً حيوياً في مكافحة الإرهاب.
كل هذا يعني أنه في غضون عقد من الزمن، قد يكون للعقوبات الأميركية أحادية الجانب تأثير ضئيل، ومع ذلك من المحتمل أن تصبح الإجراءات المتعددة الأطراف، المدعومة من اليابان والولايات المتحدة ودول الاتحاد الأوروبي والقوى الأخرى ذات التفكير المماثل هي البديل الأفضل.
ولأن التحايل على العقوبات سيكون أصعب بالنسبة إلى البلدان المستهدفة، وحتى الصين لن تكون قادرة على تحمل فقدان الوصول إلى الأسواق الأوروبية والأميركية واليابانية في الوقت نفسه، كما تدرك الصين أن قرار الدول النامية بالتمسك بالقنوات المالية الغربية سيقطع محاولتها لتقويض الهيمنة المالية الأميركية.
اندبندت عربي