إحياء الجيش الألماني.. لماذا يؤرق أوروبا وواشنطن؟

إحياء الجيش الألماني.. لماذا يؤرق أوروبا وواشنطن؟

لطالما حمل الجيش الألماني تأثيرات عميقة في أمن واستقرار القارة الأوروبية بأكملها بل والعالم بأسره، ووصل تعداده إلى أكثر من ثمانية عشر مليون جندي مقاتل، ولكن تقلص عدده ودوره في الساحة السياسية الدولية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، الأمر الذي تغير كثيراً في السنوات القليلة الماضية، حيث ظهرت العديد من الدعوات على المستوى التشريعي والعسكري والسياسي بل والمجتمعي لعودة دور الجيش الألماني في التأثير والمشاركة في القضايا السياسية الأوروبية والقرارات المتعلقة بالحرب الروسية الأوكرانية.

 وهذا ما دفع حكومة برلين بموافقة من المعارضة الألمانية بـ”البوندستاغ” “البرلمان الألماني” إلى رفع مخصصات الإنفاق الدفاعي لأكثر من 2% من الناتج المحلي الإجمالي بشكل دائم. في المقابل، تتخوف أوروبا من عودة جيش ألمانيا النازية مرة أخرى الذي كل ما قامت له قائمة دُشنت حرب عالمية عابرة للقارات.

صعود وهبوط “الرايخ”

أعلن المستشار الألماني أولاف شولتس أخيراً أن ألمانيا تعمل على تطوير وامتلاك أكبر جيش تقليدي أوروبي في حلف شمال الأطلسي، وذلك بارتفاع نسبة النفقات العسكرية التي قررت برلين استثمارها في قدرات الجيش الألماني على إثر الحرب الروسية الأوكرانية. وجاء ذلك الإعلان عقب اتفاق بين الحكومة في برلين والمعارضة في منتصف العام الماضي لرفع مخصصات النفقات العسكرية إلى 100 مليار يورو لتحديث القدرات القتالية وتكنولوجيا التصنيع العسكري لتصبح ألمانيا بتلك المخصصات من أعلى الدول إنفاقاً على التسلح في العالم، وهذا أمر غير مسبوق في ألمانيا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية.

هذا ما يجعلنا نتطرق قليلاً إلى تاريخ تطورات الجيش الألماني على الساحة العالمية. بدأت قوة الجيش الألماني منذ 1871 حين توافد أمراء الولايات الألمانية في فرنسا ليعلنوا توحيد الولايات الألمانية تحت سيادة دولة وجيش واحد. وبعدها بدأ الجيش الألماني في الاستعداد لخوض الحرب العالمية الأولى، التي انتهت بخسارته أمام الحلفاء مما تسبب في غصة أعيت الألمان كثيراً، وأدت إلى ثورة أزالت الحكم الإمبراطوري عام 1919. وبدأت حقبة جديدة للجيش الألماني وصُفت بالمُذلة من الحلفاء من خلال اتفاقية فرساي في عام 1919، التي أجبرت ألمانيا على دفع تعويضات والتنازل عن أراض ألمانية وأيضاً التعهد بعدم امتلاك قوة عسكرية باستثناء قوات حفظ السلم التي عرفت حينها باسم “الرايخسفير Reichswehr”، وهي مجرد فيالق حُرة، لم يتجاوز تعدادها المئة ألف مقاتل، ومقيدة من حيث القوة ومن دون قيادة مشتركة وأسلحة ثقيلة.

ولكن في المقابل، رفض المجتمع الألماني أن يكون جيشه أشبه بمسعفين ورجال إنقاذ لتتحايل برلين على اتفاقية فرساي وتبدأ تعاوناً مع الاتحاد السوفيتي يقضي بتسويق الأسلحة السوفيتية في أوروبا نظير أن تقوم موسكو بتدريت جنود وضباط ألمان على أراضيها، وكذلك حصل الألمان على ذخيرة عسكرية بما فيها تكنولوجيا التصنيع، وما إن دخلت حقبة الثلاثينيات حتى بات “الرايخسفير” قوة لا يستهان بها وعرفت هذه المرحلة بمرحلة البناء الثانية. وهي ذاتها القوة التي سيستند عليها هتلر لبناء جيش جديد وبالفعل انقلب هتلر على معاهدة فرساي وتزايدت وتيرة التسلح وأعلن عودة التجنيد الإجباري، وارتفع تعداد الجيش الجديد لأكثر من ثمانية عشر مليوناً، وأطلق عليه “فيرماخت Wehrmacht”، وتعني “قوات الدفاع” الجوية والبحرية والبرية المجُهزة والمُلحقة بآلة تصنيع عسكرية متطورة. حينها قام برنامج التسلح الألماني على شركات باطنية وهمية مثل شركة “ميفو MEFO” “Metallurgische Forschungsgesellschaft” من أجل تمويل إعادة التسلح، كما أنشأ منظمات سرية بمظهر مدني من أجل تدريب الطيارين عسكرياً وهذا ما أحدث انتعاشاً اقتصادياً لكثير من المصانع في ألمانيا التي قامت على صناعات عسكرية ثقيلة للجيش الألماني الجديد بدءاً من أحواض السفن العسكرية العملاقة والغواصات والطائرات إلى تطوير المدفعيات والبوارج وأنظمة القصف المتعددة.

وبالفعل، سيطرت قوات “الفيرماخت” على مساحات شاسعة من القارة الأوروبية وأعلنت فرنسا مقاطعة ألمانية، بالإضافة إلى مناطق خارج القارة في شمال إفريقيا والاتحاد السوفيتي، وذلك قبل أن ينقلب الحال ويخسر الألمان قرابة 10 ملايين جندي ويعلن الباقون استسلامهم غير المشروط. وتأثرت ألمانيا بذلك لتنقسم إلى شرقية وغربية بجيشين ضعيفين أحدهما متعلق بالاتحاد السوفيتي والآخر بـ”الناتو”. ولكن بعد سقوط حائط برلين المتزامن مع سقوط الاتحاد السوفيتي، بدأت حقبة جديدة في ألمانيا الموحدة، ولكن بشروط فرضتها كل من فرنسا وبريطانيا والولايات المتحدة الأمريكية وروسيا تنص على اقتصار مهام الجيش الألماني على حفظ السلام وألا يزيد عن 200 ألف مقاتل. واستمر هذا الوضع مع انغماس دوره أكثر من خلال حلف شمال الأطلسي وقوات حفظ السلام التابعة للأمم المتحدة في ظل قوات “البوندسفير Bundeswehr” أي القوات المسلحة الألمانية الحالية. وباتت ألمانيا أقل الدول إنفاقاً على جيشها وهُمش دوره خلال الحروب التي تعاقبت على أوروبا والعالم من حروب البلقان إلى حروب القوقاز مروراً بحرب الولايات المتحدة على أفغانستان والعراق.

عودة “البوندسفير”

اختلف هذا الوضع بعد ضم جزيرة القرم إلى روسيا في 2014، حيث خرجت أصوات من داخل البرلمان الألماني والعديد من المؤسسات الحكومية والمجتمعية الألمانية تطالب بإعادة تطوير الجيش الألماني بحجة التصدي لروسيا بعدما بدأت أطماعها في أوروبا. ووضُعت خطط استراتيجية للاستثمار في القطاعات العسكرية والدفاعية التصنيعية والتكنولوجية، وهذا ما عززه مطلع عام 2022 عندما تدخلت روسيا في أوكرانيا عسكرياً، وعلى إثر ذلك حدث تقارب بين المعارضة والحكومة الألمانية حول التخصيص من الميزانية القومية لتحديث القوة العسكرية التقليدية الألمانية وتطوير القطاعات غير التقليدية والتكنولوجيا العسكرية. حيث خرج قائد الجيش الألماني الجنرال ألفونس مايس، بعد تدخل روسيا في أوكرانيا بأيام، لوصف الجيش الألماني بأنه خالي الوفاض، حيث قال: “في السنة الحادية والأربعين من خدمتي العسكرية وفي وقت السلم لم أكن أفكر في أنني سأضطر إلى اختبار حرب، والجيش الألماني خالي الوفاض إلى حد ما، والخيارات التي يمكننا أن نقدمها للحكومة لدعم الناتو محدودة جداً”.

وهذا ما لفت نظر العديد من المحللين العسكريين نحو عجز الجيش الألماني عن تقديم المساعدة إلى ألمانيا و”الناتو” في ظل الحرب الروسية الأوكرانية وتداعياتها على ألمانيا وأوروبا بأكملها. وهو ما دفع مايس مرة أخرى في فبراير الماضي، في ضوء عمليات تسليم دبابات القتال الرئيسية الألمانية من طراز “ليوبارد 2” إلى أوكرانيا، بالتصريح بـأنّ الصندوق الألماني الخاص الجديد البالغ 100 مليار يورو (106 مليارات دولار) للجيش الألماني، في ضوء الحرب في أوكرانيا، لا يكفي لتجهيز القوات المسلحة في البلاد بشكل كامل.

أثارت مثل هذه التصريحات والتحركات الفعلية نحو إعادة إحياء جيش ألماني قوي يرغب في تزعم أوروبا سياسياً وعسكرياً تساؤلات عن الكيفية التي سيعود بها الجيش الألماني للواجهة وهو لايمتلك ترسانة نووية؟ ومن يطالع السياسة الأوروبية يدرك جيداً التنافس والصراع المٌبطن بين ألمانيا وفرنسا على أداء دور حارس القارة الأوروبية خصوصاً بعد انسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي الذي ترك فراغاً قيادياً سعت فرنسا لملئه على نحو صريح، ولم تتساهل برلين مع ترك الزعامة العسكرية المطلقة لفرنسا خصوصاً وأن التكنولوجيا والاقتصاد الألمانيين تفوقا على نظيريهما الفرنسيين خلال العقود الأخيرة الماضية.

في نفس الوقت، أصبحت التوسعات الجغرافية والعسكرية وتحركات روسيا الجديدة في المجال الإقليمي الحيوي والسيادي الأوروبي ضاغطة على الداخل والسياسة الألمانية الإقليمية والعالمية وهذا ما دفع برلين للخروج بهيكل جديد للجيش الألماني خصوصاً وأنها منذ عقود سعت للانفصال عسكرياً عن تبعيتها لواشنطن والاعتماد على “الناتو” في تسويات الحروب والنزاعات، والحسابات الجديدة في ظل النظام العالمي الجديد وخلال السنوات المقبلة.

كل تلك الحيثيات كانت أسباباً كافية لتسريع خطة برلين لتقوية كيانها العسكري والدفاعي لأعلى معدلاته، وهو الأمر الذي لا يعتمد على عدد الجنود فحسب، إنما يستلزم كذلك تطوير القرارات المتعلقة بأسلحة الدمار الشامل والأسلحة النووية. وبالطبع، لن يعجز الألمان عن امتلاك ترسانة أسلحة نووية خصوصاً وأن ألمانيا تمتلك تكنولوجيا وبُنى تحتية متقدمة للتصنيع النووي. كما أنها تمتلك قدرة على تحويل مصانعها المدنية إلى مصانع عسكرية ومعامل إنتاج وتطوير نووي. ولكن هل ستقبل أوروبا وقادة القوى الكبرى لألمانيا أن تعود قوية عسكرياً من جديد وأن تمتلك سلاحاً نووياً؟

مواقف خارجية متباينة

إذا اختصرنا تعريف العالم في القوى الكبرى المتحكمة في الوقت الحالي في النظام العالمي، والمتمثلة في الولايات المتحدة وروسيا والصين وبريطانيا وفرنسا. قد تكون الإجابة في أنه من مصلحة الروس والصينيين أن تخرج برلين من عباءة واشنطن و”الناتو”، وتعزيز رغبة وقدرة برلين في القيادة الأوروبية، وبالتالي قد يؤدي ذلك إلى تقارب جيوسياسي ومصلحي في وجهات النظر مع برلين إذا تم التفاوض على نحو تُراعى فيه مصالحها في أوروبا والعالم الجديد. وفي هذا السياق، كتب ألكسندر سيتينكوف المحلل السياسي الروسي مقالاً في “بريشيا الحرة” Свободная” Брешиа, Free Brescia” حول حتمية عودة جمهورية “الرايخ” الرابعة أي الإمبراطورية الألمانية الرابعة، حيث جمهورية الرايخ الأولى كانت لشارلمان والثانية لبسمارك والثالثة لهتلر، لافتاً النظر إلى وجود خطة ألمانية حالية للسيطرة العسكرية مستغلة انشغال الولايات المتحدة بصراعاتها مع روسيا والصين وخلخلة النظام الدولي و”الناتو”.

أما بالنسبة للغرب، ورؤيته حول ما إذا كان سيسمح للقوة العسكرية الألمانية في الوصول إلى أوج ذروتها وسيطرتها لاسيما بعد ظهور عدد من الأحزاب اليمينية المتشددة في الساحة الألمانية داعية لرفعَة الهوية الألمانية في الداخل الأوروبي مرة أخرى وتعزيز القوة والسيطرة الحقيقية للجيش الألماني على الساحة العالمية كما كانت في عهود سابقة دون انتظار موافقات ومباركات القوى الأخرى لتحركاته وقرارته الحاسمة بشأن قضايا معاصرة. فعلى سبيل المثال، تم الكشف عن فضائح متكررة حول التجسس الأمريكي على مكتب الحكومة الألمانية، منذ فترة حكم المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل وخلفها الحالي شولتس، حيث تبين أن الولايات المتحدة زرعت جواسيسها داخل وزارة الدفاع الألمانية الأمر الذي أغضب برلين حتى الآن، وهو ما فسره العديد من المسؤولين الألمان بخوف الإدارات الأمريكية من عودة قوة الجيش الألماني لسابق عهده ولكن المرة الحالية في ظل حروب نووية وتفوق ألماني في تكنولوجيا الأسلحة غير التقليدية الحديثة بشكل يضعها في صدارة القوى العظمى في الوقت الذي لا تمتلك فيه ألمانيا مقعداً دائماً في مجلس الأمن.

أما بالنسبة للجانب البريطاني، فقد تعكس تصريحاته أنه لايبالي بالأمر كثيراً خاصة وأنه خرج من دائرة السياسات الأوروبية الإقليمية، وبالتأكيد سيعزز مصالحه في الداخل الأوروبي والشؤون الخارجية العالمية اندلاع تنافس عميق بين برلين وباريس على أمل أن يضعف هذا التنافس قوة قرارات الاتحاد الأوروبي في مواجهة القرارت والمصالح البريطانية حول مخرجات السياسات الأوروبية الإقليمية والعالمية. ومن ناحية أخرى، يرى العديد من المحللين العسكريين والسياسيين أن فرنسا تعتقد أن القوة العسكرية الألمانية مهما بلغت فإنها لن تتفوق على القوة العسكرية الفرنسية الكاسحة ذات الانتشار في الداخل الأوروبي ومن خلال “الناتو” أو في خارج حدود القارة الأوروبية، حيث أماكن مستعمراتها قديماً في إفريقيا وأماكن وجود وتمركز قواعدها العسكرية، وهذا ما جعل معظم قادة الجيش الفرنسي يصرحون بالتفوق العسكري للجيش الفرنسي لأنه الأول عسكرياً أوروبياً ومن أقوى عشرة جيوش عالمياً.

ولكن على أرض الواقع قد تختلف حسابات القوى، فحسب تقرير لصحيفةThe Independent فإن الفرنسيين وغيرهم على دراية كاملة بما يقدر الألمان على فعله لجعل أوروبا تعيش كابوساً كسابقيه خلال الحربين العالميتين الأولى والثانية، وأن ستة أشهر هي مدة كافية لامتلاك ألمانيا أسلحة نووية وقلب مصانعها المدنية إلى عسكرية، وهذا ما صرح به المستشار الألماني شولتس، حيث قال: “سنمتلك أكبر جيش في أوروبا لذا فعلى العالم التأهب والانتظار”.

مخاوف استقلالية ألمانيا

كتب روبيرت كاغان الباحث في معهد بروكينز مقالاً في “Foreign Affairs” بعنوان “السؤال الألماني الجديد The New German Question” ناقش فيه إمكانيات تفكك أوروبا، وهل ستعود حينها ألمانيا إلى النازية بجيش ذي قدرات كاسحة أم ستظل متمسكة بقيم الديمقراطية والهوية الأوروبية الموحدة؟ ويلفت كاغان النظر إلى أن ألمانيا في نسختها الحالية تقوم على قيم الديمقراطية والسلام، لكن كشف الصراع الروسي الأوكراني منذ البداية عن أنه يصعب على الدول الأوروبية لاسيما ألمانيا الاستمرار في عدم استخدام القوة العسكرية كأداة للنفوذ الدولي وتحقيق مصالح الأمن القومي وتنفيذ السياسات الخارجية المعهودة، وهذا ما سيضطر الدول الأوروبية وألمانيا في مقدمتها إلى مضاعفة الإنفاق العسكري والتسلح  لتولي مسؤولية الدفاع عن نفسها ومن ثم العودة إلى سياسات القوة الواقعية التي هيمنت على السياسات الأوروبية لآلاف السنين. وفي هذا السياق سيكون من الصعب على ألمانيا ألا تتبع المسار ذاته وأن تستغل الموقف لصالحها، وإن حدث ذلك ستكون الفرصة مواتية أمامها لتصبح أقوى دولة أوروبية عسكرياً واقتصادياً وسياسياً.

في المقابل، لاتبدي دول أوروبية عديدة ارتياحها إزاء رغبة الألمان في إعادة بناء جيش قوي، ولكن ربما السكوت الأوروبي المؤقت على قرارات برلين الأخيرة بشأن إعادة تسليح وبناء جيشها جاء لكسر أي احتمالية لعلاقات روسية ألمانية في المستقبل، كما حدث سابقاً في التاريخ بعد اتفاقية فرساي، وربما يرى بعض المحللين السياسيين الألمان أن ما يجري في أوكرانيا من إحدى أهدافه الأساسية كسر العلاقات الألمانية الروسية ووقف وتغيير روابط خط “2 Nord Stream”. فأكثر ما يؤرق الولايات المتحدة هو تنامي الروابط الاقتصادية بين أوروبا، لاسيما ألمانيا، والصين وروسيا، فهذا من شأنه أن يهدد باختفاء “الناتو” وتراجع هيمنته على الساحة الأوروبية الأمنية بل والعالمية، وتراجع ثقل الروابط الاقتصادية الداخلية الأوروبية ومثيلتها الأمريكية الأوروبية. لذلك فضمان واشنطن لوجود عداءات بين برلين وموسكو وبكين يضمن تضحية الألمان بمصالحهم التجارية والمالية والاعتماد على المصدرين والمستثمرين الأمريكيين والحاجة المستمرة إلى “الناتو” والسلاح الأمريكي.

وصرح شولتس أخيراً بأن الوضع الاستراتيجي لألمانيا وتقدمها التكنولوجي والاقتصادي يتطلب ضرورة امتلاك قوة عسكرية مستقلة لاتعتمد سوى على ذاتها في التخطيط والأهداف والتطوير. وهذا ما فسره العديد من المشرعين الألمان بأن قرارت رفع المخصصات الدفاعية والإنفاق العسكرى لبناء جيش ألماني وضم منظومة جديدة من الدبابات والغواصات والطائرات ذاتية التشغيل، جاء لتطبيق سياسات القوة الألمانية الواقعية الجديدة القائمة على عسكرة سياسات برلين مع صعود ملحوظ لليمين المتشدد سواء داخل الجيش الألماني أو في الانتخابات البرلمانية الأخيرة ممثلاً في حزب البديل الألماني والنازيين الجدد. فمعظم قادة الجيش الألماني ذوو الانتماءات اليمينية المتشددة يرون ضرروة الاستمرار في استعادة مكانة الجيش الألماني مرة أخرى في الساحة الأوروبية والعالمية خصوصاً بعد الكشف عن مواقف الإدارات الأمريكية غير المضمونة تجاه قضايا أمنية أوروبية أو خارج القارة الأوروبية.

وختاماً، مهما كانت الآراء الرسمية الأوروبية المؤقتة أو المستقبلية حول أن تصبح ألمانيا ذات قدرات عسكرية متفوقة ومتطورة من عدمه، فإن ذلك لن يغير من رأي وتصميم معظم الألمان على أنه من حقهم إعادة ترتيب جيشهم من جديد في ظل تنامي الحروب والنزاعات على الحدود الأوروبية وتصاعد المطالبات الشعبية بعدم الاعتماد على الحماية الأمريكية و”الناتو” في حفظ أمن واستقرار وسلامة الأراضي الألمانية في ظل الحرب الروسية الأوكرانية الحالية.

فالشعور العام في ألمانيا يقول إنها دولة لا تمتلك جيشاً قوياً، فعلى الرغم من أنه يقع في الترتيب الرابع أوروبياً بعد فرنسا وبريطانيا وإيطاليا والسادس عشر عالمياً، إلا أن ذلك في الواقع لا يؤهله للدخول في حرب ذات أطراف عالمية متعددة. وقد يتنامى على إثر ذلك تخوف أوروبا من صعود النازيين الجدد في الجيش والبرلمان والحكومة الألمانية القادمة. فهناك ربط شرطي دائم في الداخل السياسي الأوروبي بين إعادة بناء الجيش الألماني وقيام حرب عالمية عابرة للقارات. ولكن أياً كان شكل التداعيات والتأثيرات المترتبة على انتهاء برلين من خططها نحو استعادة مكانتها عسكرياً وامتلاك جيش قوي له السيطرة والهيمنة على أوروبا والعالم، فإن ذلك يفرض حتمياً تساؤلاً حول مدى ونطاق تماسك الاتحاد الأوروبي وشكل السياسات الأوروبية حينها، وهل أوروبا بالفعل إزاء ولادة مرحلة جديدة من “الرايخ الرابع”، وما سيكون شكل العالم عند إذ؟

المستقبل للدراسات