ينتهي حديث العراقيين في 9 أبريل/ نيسان من كلّ عام، والذي يصادف ذكرى سقوط بغداد في عام 2003 بيد الأميركيين وحلفائهم، بحساب الخسائر البشرية والمادية والتغييرات الاجتماعية والاقتصادية التي تكبدتها بلادهم جراء الاحتلال الأميركي، وما أعقبه من خراب، لا تزال أرقامه الرسمية محجوبة بقرار ساري المفعول منذ سبتمبر/ أيلول 2006، ما يجعل تلك الخسائر حبيسة التقديرات أو التسريبات من بعض الجهات والمسؤولين.
إلا أن العام الحالي بدا مختلفاً كثيراً من جهة تصدّر أسئلة مستقبل “دولة المواطنة”، والحريات وكيفية الخروج من قالب العملية السياسية المبنية على أسس المحاصصة الطائفية والعرقية، الذي أسسته الولايات المتحدة عبر مجلس الحكم الانتقالي، برئاسة الحاكم الأميركي عقب الغزو بول بريمر.
كانت الحجج القانونية اللاحقة لتبريرها متنوعة، لكن أيّاً منها لم تكن مقبولة. ولحسن الحظ، يبقى صوت ميخائيل غلينون، أستاذ القانون الدولي، الذي يدعي أنّه كانت ثمة موافقة بالإجماع من المجتمع الدولي للتخلي عن قاعدة حظر اللجوء لاستخدام القوّة معزولاً [ii].
خلصت أدبيات الفقه القانوني الأوروبية، في مجملها، إلى أنّ التدخل الإنكليزي-الأميركي في العراق غير شرعي
ولئن لم يتبعه الممثلون الرسميون لإدارة (الرئيس الأسبق جورج) بوش في ذلك إلى الآن، فإنّهم استخدموا حجتين بديلتين على نفس القدر من عدم الإقناع. فبالنسبة إلى بعض المستشارين القانونيين لوزارة الخارجية الأميركية، يحذو حذوهم في ذلك النائب العام البريطاني وكذلك ممثلو وزارة الخارجية البريطانية، يندرج غزو العراق في إطار إذن باستخدام القوّة يعود إلى عام 1990، وهو الذي بقي سارياً [iii]. والمقصود هو القرار 678 بتاريخ 29 نوفمبر/ تشرين الثاني 1990، الذي اتخذ خلال حرب الخليج الأولى.
من خلال هذا النص، سمح مجلس الأمن لجميع الدول الأعضاءفي الأمم المتحدة باستخدام الوسائل اللازمة كافة لتحرير الكويت من الغزو العراقي. وكان النص يطالب العراق بالامتثال للقرار السابق، بتاريخ 2 أغسطس/ آب 1990 (660)، القاضي بانسحاب قوّاته من الكويت ولجميع القرارات التي اتُّخذت في ما بعد.
تمديد مفعول هذا القرار بعد 12 عاماً، والادعاء بأنّ الإذن الذي مُنح حينها باللجوء إلى استخدام القوة يمكن أن يكون ساري المفعول لتطبيق القرار 1441 لسنة 2002، الذي يطالب العراق بقبول عودة مفتشي الأسلحة، يندرج في إطار التحايل الفكري.
علاوة على أنّ القرار 678 الذي يندرج هو نفسه في انحراف، موضع احتجاج، عن دور ومسؤوليات مجلس الأمن، فإنّ إعادة تفعيله لم يعد له أي معنى، بمجرد تحقّق هدفه وهو تحرير الكويت. لقد كان له هذا الهدف ولا شيء غيره.
آخرون في محيط بوش اعتبروا أن التدخل في عام 2003 كان قانونياً، باعتباره ممارسة للحق الشرعي في الدفاع عن النفس [iv]. وهي النظرية موضع الجدل الكبير القائلة بمشروعية الدفاع الوقائي، والتي لا أساس قانونياً لها. لم يعر الاجتهاد القضائي ولا فقه القانون الدولي جدية لهذه النظرية، وقد خلص عدد كبير من الباحثين، بما في ذلك في الولايات المتحدة، إلى عدم قانونية هذا التدخل [v].
تجدر الإشارة أيضاً إلى التحليل موضع الجدل الذي قدّمه جزء من أدبيات الفقه القانوني والتي وفقها، فإن مجلس الأمن قام بصورة لاحقة بتقنين استخدام القوة من قبل الولايات المتحدة، وما تلاه من احتلالها العراق [vi]. مستشهدين بالقرارات 1483، و1500 و1511، رأى بعض الباحثين في ذلك اعترافاً بالاحتلال الأميركي، بحكم الأمر الواقع، وهو ما يزعمون أنه يُعتبر شرعنة ضمنية للعمليات العسكرية التي أدت إلى هذا الاحتلال. لكنهم معزولون، وما أدلت به بعض الدول الأعضاء في مجلس الأمن ذاته تتيح إزاحة هذا التفسير [vii].
وأمام حجم الرهان، أي إمكانية زوال منع اللجوء إلى استخدام القوة الذي يُعتبر تقدماً حاسماً في القانون الدولي، فإنّ أدبيات الفقه القانوني الأوروبية قاومت في مجملها، وخلُصت إلى أنّ التدخل الإنكليزي – الأميركي في العراق غير شرعي.
عودة إلى حرب عام 1991
إنّ القانون الدولي غير واضح رغم ذلك في ما يتعلّق باللجوء إلى القوة المسلحة. في الواقع، تقودنا محاولات ربط التدخّل الخطير عام 2003 بذلك الذي وقع عام 1991، والذي يُزعم أنّه كان قانونياً، إلى الرجوع إلى تلك الحقبة. ويظهِر تحليل دقيق للأحداث ولإطارها القانوني أنّه منذ حرب الخليج الأولى كانت أزمة نظام الأمن الجماعي قد بدأت.
كانت أزمة نظام الأمن الجماعي قد بدأت منذ حرب الخليج الأولى عام 1991
في الثاني من أغسطس 1990، مع إطلاق صدّام حسين جيشه نحو غزو الكويت، وهو ما يحظره ميثاق الأمم المتحدة، كان على مجلس الأمن الدولي التحرّك باسم الأمن الجماعي الذي تأسس المجلس حوله. وهذا ما قام به من خلال القرار 660 المشار إليه، والذي كان يفرض على العراق الانسحاب.
غير أنّ المجلس يفتقر إلى الوسائل العسكرية اللازمة لعمله، وذلك منذ نشأة الميثاق. كان الفصل 43 من الميثاق ينصّ على أن يحوز مجلس الأمن قوّة عسكرية مشكّلة مسبقاً تتيح له التدخل باسم الأمم المتحدة. ولمصداقية النظام، كان ينبغي إنشاء هذه القوة وإدارتها بصورة جماعية. غير أنها لم تر النور أبداً، إذ لم تتح ذلك توترات الحرب الباردة المندلعة بُعيد إنشاء الأمم المتحدة.
صار مجلس الأمن مقتصراً على التماس آراء الدول عند كل أزمة لإيجاد حلول مرتجلة. في الحالات التي أخذت فيها هذه الحلول شكل قوات فصل (الخوذ الزرقاء) دون تكليف بالتدخل، لم يتأثر النظام.
غير أنه في كل مرة دارت المسألة، تحت غطاء الفصل السابع من الميثاق، حول فرض عقوبات عسكرية بحق دولة ما، كان القصور صارخاً. هو الحال نفسه منذ حرب كوريا عام 1950 حين تدخّل الجيش الأميركي برفقة بضع كتائب من دول أخرى. وكان الوضع نفسه مجدداً في 1990. في 29 نوفمبر، أتاح مجلس الأمن للدول الأعضاء “استخدام الوسائل اللازمة كافة” لفرض احترام القرار 660 الذي كان يطالب صدّام حسين بالانسحاب من الكويت. كان يمنحهم إذاً ضوءاً أخضر لاستخدام القوة المسلحة، ويطلب منهم فقط إحاطته علماً بانتظام.
على هذه الأسس تحالفت 35 دولة لتقود منذ 16 يناير/ كانون الثاني 1991 عملية “عاصفة الصحراء”. في خمسة أيام، دمّر التحالف الجيش العراقي وحرّر الكويت. غير أن الأميركيين، المتحكمين في المناورة، امتنعوا إلى ذلك التاريخ عن مواصلة الهجوم إلى بغداد لإسقاط الديكتاتور العراقي. وجرى التوقيع بالتالي على وقف إطلاق النار مع العراق في 28 فبراير/شباط 1991.
خيانة نصّ الميثاق وروحه
هل كانت تلك عملية للأمم المتحدة تستجيب لشروط آلية الأمن الجماعي؟ في الحقيقة، خالف المجلس نص الميثاق وروحه. استند المفسرون المتواطئون الحريصون على إظهار هذه الحرب على أنّها ترتكز إلى القانون إلى الفصل 42، وهو ينصّ على أنّه في حال لم تُنتِج العقوبات غير العسكرية أثراً (وهو ما كان واقع الحال)، يجوز حينها للمجلس “أن يتخذ بطريق القوات الجوية والبحرية والبرية من الأعمال ما يلزم لحفظ السلم والأمن الدولي أو لإعادته إلى نصابه”.
غير أنّ هذا النص يرد مباشرة قبل الفصل الحاسم (43) الذي يُفسّره على نحو ما، موضحاً أنّه بموجب اتفاقات خاصة يتعين أن توضع القوات المسلحة للدول الأعضاء بتصرف مجلس الأمن.
ويليهما فصلان ذوا أهمية بالغة، يؤكدان أنه في حال استخدام القوة في عملية للأمن الجماعي، من الضروري أن تتنحى الدول الأعضاء لصالح الطرف الثالث المحايد، الذي يجب أن يكون مجلس الأمن. “الخطط اللازمة لاستخدام القوة المسلحة يضعها مجلس الأمن بمساعدة لجنة أركان الحرب” (الفصل 46). وهذه اللجنة “مسؤولة تحت إشراف مجلس الأمن عن التوجيه الاستراتيجي لأيّ قوات مسلحة موضوعة تحت تصرف المجلس” (الفصل 47، الفقرة 3).
كانت روح الميثاق واضحة إذاً. لا يمكن بأي شكل تفويض عملية أمن جماعي تشمل عقوبات عسكرية إلى دولة، أو مجموعة دول، تتحرّك بحريّة مع مجرّد تعهد بإحاطة المجلس علماً. وإذا كانت قوات الدول الأعضاء هي التي تُشكّل بالفعل وحدات مهمة حفظ الأمن الجماعي للمجلس، من المحتم أنّ يتم “نزع الهوية الوطنية” عنها من خلال وضعها تحت قيادة دولية. وهذا هو ما نقص.
عقوبات قاتلة
لا يمكن التصديق على حرب الخليج عام 1991 وفق القانون الدولي، لا سيما أنّه كانت ثمة فرصة سانحة أمام المجتمع الدولي لتجاوز المأزق الأساسي.
في الواقع، مع نهاية الحرب الباردة قبل ذلك بعامين، زال العائق أمام إبرام الاتفاقات الخاصة التي ينص عليها الميثاق من أجل إنشاء قوة دولية حقيقية. إنّ الإنذار النهائي الذي أعطي لصدام حسين في 29 نوفمبر 1990 مانحاً إياه مهلة، كان يسمح أخيراً بتفعيل الفصل 43 من الميثاق الذي ينص على تشكيل قوات دولية تحت إشراف لجنة أركان حرب. لم يحصل شيء من ذلك، لأن روح التعددية في السياسة الدولية كانت قد ماتت.
مجلس الأمن الذي أقرّ عقوبات اقتصادية، بهدف إجبار العراق على الانسحاب من الكويت، مدّدها على شكل حصار قاتل للشعب
لنُذكر أيضاً كيف أنّ مجلس الأمن الذي أقرّ بداية عقوبات اقتصادية، بهدف صريح هو إجبار العراق على الانسحاب من الكويت، مدّدها، رغم حصول ذلك، على شكل حصار قاتل للشعب. في حين أنّه كان يتعيّن رفع العقوبات، والحال أنّ الغرض منها قد تحقّق. لكن المجلس جدّدها طيلة 12 عاماً عبر قرارات تستعرض الشروط الجديدة التي على العراق الإيفاء بها، خاصة على صعيد نزع السلاح، لإنهاء العقوبات.
يتوجب علينا أيضاً أن نضيف إلى توظيف الأمم المتحدة هذا لخدمة مصالح بعض القوى الكبرى واقعَ أنه في بعض النزاعات لم يتردد مجلس الأمن في منح تفويض لحلف شمال الأطلسي (الناتو) لتنفيذ عمليات عسكرية باسم الأمم المتحدة (1995 البوسنة، 2011 ليبيا)، في حين أنّ الناتو حلف عسكري دفاعي، موجّه بصورة واضحة لخدمة مصالح بعض الدول في وجه الخشية من تهديدات دول أخرى.
لم يكن من الممكن لهذا الحلف، غير الحيادي بطبيعته، تولّي عمليات عسكرية تنفذ باسم الأمم المتحدة. لتكون هذه العمليات ذات مصداقية يجب أن تكون من فعل جهة مكلّفة بالمصلحة العامة، لا مجموعة لها مصالح خاصة.
كما نرى، اندرجت حرب الولايات المتحدة على العراق في عام 2003 في إطار تحويل نظام الأمن الجماعي إلى أداة قادت نحو تقويضه. إنّ الحروب الدائرة اليوم في إقليم تيغراي (إثيوبيا)، وفي شرق جمهورية الكونغو، وفي سورية، وفي فلسطين، وفي اليمن، وبدرجة أقرب إلينا، في أوكرانيا، هي برهنة قاطعة على انهيار هذا النظام.
بمقدورنا تقبّل ذلك وحتى، بالنسبة إلى البعض، الابتهاج به وتفعيل إعادة التسليح بغية التموضع في حرب الجميع على الجميع. ويمكننا أيضاً التأسّف على إخفاق يوتوبيا مؤسِّسة، وقياس تداعيات هذا الإخفاق، لا سيما على صعيد مصداقية القوى الكبرى في نظر دول العالم الأخرى، واعتبار أنّه من الملح التساؤل كيف يعاد تفعيلها.
العربي الجديد