تزامنت في الأيام الأخيرة أحداث الشغب في شوارع باريس ومدن فرنسية أخرى احتجاجاً على مقتل الفتى المغربي ناهل على يد أحد عناصر الشرطة الفرنسية، مع اقتحام القوات العسكرية الإسرائيلية لمخيم جنين للاجئين الفلسطينيين. فاختار الإعلام التركي الرسمي تركيز اهتمامه على فرنسا فأرسل مندوبين لتغطية الحدث مزودين بخوذ مما يستخدمه المراسلون في مناطق القتال، ولم يتكبد عناء العمل نفسه في فلسطين، من غير أن يعني ذلك خلو وسائل الإعلام التركية مما يحدث في جنين.
أما الرحّالة التركي فاتح كوباران فهو ينشر على قناته الخاصة على يوتيوب حلقات من رحلته إلى دمشق ومدن سورية أخرى، في وقت بات فيه موضوع إعادة اللاجئين السوريين في تركيا إلى بلادهم هو موضوع الساعة في الرأي العام ووسيلة للتكسب السياسي بين الأحزاب التركية.
من حيث المبدأ لا علاقة تربط بين الموضوعين، لكنهما معاً يكشفان عناصر من «رؤية تركية للذات والعالم» إذا جاز التعميم، وهو لا يجوز بطبيعة الحال، ولكن قد يغفر لنا استخدام هذا التعبير إذا أخذنا بنظر الاعتبار التقارب بين الخطاب الرسمي للحكم التركي والرأي العام السائد في المجتمع، من غير ترك هامش لتنوع لا يخلو منه أي مجتمع.
بالنسبة للحدث الفرنسي الذي شاهدنا فصوله على شاشات التلفزيون، يمكن القول إن القناة الإخبارية للتلفزيون الرسمي التركي (TRT haber) ومثله الصحف التركية المقربة من الحكومة، قد وجدت فيه فرصة ذهبية للرد بالمثل على ما يعتبرونه تدخلاً من قبل «الغرب» في الشؤون الداخلية التركية حين يتحدثون عن وضع الحريات والضغوط التي يتعرض لها معارضون أو صحافيون، أو أي تطرق للصعوبات الاقتصادية وغيرها مما يثير حساسية عالية لدى كل من السلطة والرأي العام، ويثير النزعات «الوطنية» وتلك المعادية للأجانب، فتنتعش نظريات «العالم يتآمر علينا»…
تحت عنوان «ما أحلى أن تمارس العمل الصحافي من باريس» رصد الصحافي يلدراي أوغور مفارقات الإعلام الرسمي التركي في تغطيته للحدث الفرنسي، فكتب يقول إن التلفزيون الرسمي لدولة تكاد تقوم بحظر الحق الدستوري في التجمع والتظاهر، نزل إلى الساحة لتغطية الاحتجاجات بحرية في بلد آخر!» في الوقت الذي يغيب فيه عن تجمع «أمهات السبت» الأسبوعي الذي ينتهي بتفريقهن واعتقال بعضهن في كل مرة، أولئك الأمهات اللواتي يطالبن بالكشف عن مصير أبنائهن المفقودين منذ التسعينيات.
اختار الإعلام التركي الرسمي تركيز اهتمامه على فرنسا فأرسل مندوبين لتغطية الحدث مزودين بخوذ مما يستخدمه المراسلون في مناطق القتال، ولم يتكبد عناء العمل نفسه في فلسطين
«ليس عشق العمل الصحافي هو الرائز وراء حماسة الإعلام التركي لتغطية أحداث فرنسا» يقول أوغور ويتابع: «بل هو رغبة ثأرية تتمثل في رؤية «العدو» في وضع صعب، والاستمتاع بأزمة دولة أكثر تطوراً من دولتك، وإشباع المشاعر المختلطة نحوها بين حب وكراهية، شعور بالنقص وتكبّر»
ولا يرف للمراسل جفن وهو ينتقد النزعات العنصرية ومعاداة اللاجئين في فرنسا وكأن بلده نعيم للتسامح والاحتفال بالتنوع واحتضان اللاجئين. «لو حدث وأظهر سوريون في تركيا ردة فعل جماعية تجاه مقتل أحد السوريين على يد الشرطة التركية، على غرار ما حدث في فرنسا، فأحرقوا وخرّبوا، لما اقتصر الرد على الشرطة، بل سيشاركهم مواطنون مدنيون، وربما صحافيون، في اصطياد السوريين في الشوارع، لينتهي الأمر بمن قد يبقى منهم على قيد الحياة في منطقة إدلب»
«أما إذا تجمع ألف شخص في مكان واحد في إسطنبول، فسوف تمتلئ الصحف بمانشيتات عريضة تتحدث عن «خطة لنشر الفوضى وراءها قوى خارجية» في حين يستمتع المراسل التركي في باريس بحرية انتقاد الشرطة الفرنسية والحكومة الفرنسية والرئيس الفرنسي «إنه في إجازة لممارسة العمل الصحافي بحرية خارج بلده!» من غير أن يتعرض لأي مضايقات من السلطات الفرنسية، ناهيك عن طرده خارج الحدود.
أما الرحالة التركي فاتح كوباران فهو يؤكد أن «الحرب في سوريا قد انتهت بين العامين 2017 ـ 2018، كما أجابني من التقيتهم من السوريين» ويقول إنه دخل من لبنان بسهولة بالغة، بعدما اشترى الفيزا بثلاثين دولاراً! ولاقى الترحيب من الناس في شوارع دمشق كما من سلطات المعبر الحدودي. ويتحدث عن حياة الليل النشطة في مطاعم الأحياء القديمة في المدينة، وقد رصد في مقاطع الفيديو التي نشرها على قناته جوانب منها. «لم تنج دمشق تماماً من وقائع الحرب، فقد رأيتُ آثار قذائف المدافع التي تم إطلاقها على المدينة من محيطها». في لقاء تليفزيوني معه، يجيب كوباران على سؤال عما إذا التقى بسوريين عادوا من تركيا، فيقول إنه رأى كثيرين منهم، وإن بعض هؤلاء قال إنه عاد لأنه «مل من العيش في تركيا!» وقال آخر إنه ترك زوجته الأولى في تركيا وعاد ليعيش مع زوجته الثانية!
«ليست الحرب هي سبب عدم إقبال سوريي تركيا على العودة بأعداد كبيرة، بل الأزمة الاقتصادية الحادة» يقول كوباران «بعض ممن التقيتهم من العائدين قال لي إنه كان يتلقى في تركيا أجراً يبلغ حوالي 500 دولار، في حين أن الأجور في سوريا لا تتجاوز عشرين أو ثلاثين دولاراً!» ومن الأسباب الأخرى لعدم رغبة السوريين في العودة، وفق ما قيل له، الخدمة الإلزامية التي تبلغ نظرياً سنة ونصف، في حين أنها تمتد في الواقع إلى أكثر من سبع سنوات بسبب النقص الحاد في أعداد المجندين.
وإذ سئل الرحّالة عن الوضع في مدن أخرى اعترف بأن الوضع في حلب وحمص ومناطق أخرى «مختلف تماماً عما رأيته في دمشق» فآثار الدمار الواسع مخيفة» وحين سأل من التقاهم من السوريين عما إذا كان ذلك الخراب بفعل الزلزال أم الحرب، أجابوه بأن الزلزال أكمل ما قامت الحرب بتدميره.
أخيراً لا بد من إضافة اعتراف الرجل بأنه لم يزر إلا مناطق سيطرة النظام، «لأن الفيزا التي يحملها لا تخوّله الدخول إلى مناطق أخرى خارج سيطرة الحكومة، كإدلب والرقة وغيرها».
القدس العربي